سامح المحاريق
كاتب أردني
smahariq@gmail.com
لن تنفجر فقاعة مواقع التواصل الاجتماعي، والأرجح أنْ يستكمل الإنسان رحلته مع مواقع التواصل الاجتماعي ووقائعها الجديدة، وأنْ يستمرّ في تعويله على حوائطها التي ستشهد تشكُّل تقاليد إنسانيّة جديدة، لتقدِّم إنسانًا مختلفًا يشكِّل حياة ليس من الحكمة أن نصفها بأنَّها أفضل أو أسوأ، وكلّ ما بوسعنا أن نفعله هو أنْ نعيشها، فقط.
أدوات مثل "تويتر" و"فيسبوك" تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممَّن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبَّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فورًا. أمّا الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَن يحمل جائزة نوبل. إنّهُ غزو البلهاء.
هكذا تحدَّث "أمبرتو إيكو"، وبغضّ النَّظر عمّا يشكِّله من ظاهرة في الأوساط الأكاديميّة والأدبيّة، إلّا أنَّ حديثه لا يمكن أن يُعتدَّ به لتوصيف العالم بعد اللحظة الفارقة التي شهدت غزو مواقع التواصل الاجتماعي، فالرجل في النهاية من معجبي التقاليد الأكاديميّة والفكريّة التي أنتجتها العصور الوسطى أو الحقبة السكولائية من التاريخ حيث كان الدخول في سلك المعرفة يتطلّب الوقوف على أرضيّة من النصوص والمحفوظات التي يقف على حراستها وهيبتها جيوش من الرُّهبان الذين توظِّفهم الكنيسة التي تمتلك بدَوْرها كثيرًا من الحوائط العامّة.
• ما الذي يزجّ بفكرة الحائط في هذا السياق؟
المجال الشخصيّ الذي يقدِّم الناس من خلاله أنفسهم وآراءهم وأفكارهم على مواقع التَّواصل يسمّى حائطًا، وقبل الدُّخول في حديث "الحائط الافتراضي" ربَّما من المفيد أن نتوقَّف عند دَوْر الحائط الفعليّ في التاريخ بوصفه فضاءً تعبيريًّا يلجأ له البلهاء (بحسب تعبير إيكو، والخوارج اجتماعيًّا بتعبيرات أخرى) لتدوين مواقفهم وأفكارهم خارج سلطة المؤسَّسة المعرفيّة في الكنيسة أو الجامعة أو البلاط الملكي أو حتى الصالونات الأدبيّة الأرستقراطيّة في مغامرة تتيح مشاهدة العابرين المجهولين والعشوائيّين للرأي المختلِف والمُغاير الذي يحاول صاحبه أنْ يبقى مجهولًا بهروبه السَّريع بعد تسجيل رأيه أو موقفه، ووصَلَت تعبيريّة الحائط ذروتها مع ثورات الطلاب عام 1968، على الرّغم من التكلفة العالية للوقوف في وجه المجال العام والاصطدام بالسُّلطة.
بقيت الحوائط مُغرية لمغامرات التَّدوين المختلف والانشقاقي، إلّا أنَّ المدوّنات خضعت للتهديد الدائم بالإزالة خلال ساعات بدعاوى تنظيميّة تقرّها وتحميها القوانين والأنظمة، إلى أن ظهرت الحوائط الافتراضيّة التي شيدت في فضاء شبكة الإنترنت لتخلخل تكريس المؤسسات التقليديّة المختصّة بالنشر بوصفها جزءًا من منظومة إنتاج المعرفة، ومع ذلك فالولوج إلى لعبة إنتاج النص المستقل وترويجه ارتهن لحدود قدرة المدوّنين على إنتاج المحتوى الخاص بهم ومحاولة الوصول إلى قرّائهم المحتملين، وعلاوة على ذلك، كان الأمر يتطلّب حدودًا دُنيا للقدرة على الصياغة المختلفة نوعًا ما، وليس كثيرًا، عمّا جرى الاعتياد عليه في وسائل النشر التقليديّة، وإلمامًا معقولًا بالمتطلّبات التقنيّة.
مرَّة أخرى يلعب الاستخدام الخاطئ دَوْره في التاريخ، وإنْ يكن اختراع الديناميت تقصَّد تحسين عمل المناجم ليتحوّل إلى أداة قتل عالية الكفاءة، فموقع الـ"فيسبوك" بخروجه عن مساره بدأ يشكِّل التاريخ الإنساني بطريقة ربّما لا تقلّ عن الأثر الذي أحدثه الديناميت، وبعد أنْ كان مشروع موقع الـ"فيسبوك" موجَّهًا لمتلقّين محدودين من طلبة جامعات النخبة الأميركيّة لتبادل صورهم وأخبارهم بعد التخرُّج، يتحوَّل الموقع إلى أداة تواصُل وتعارُف متاحة لملايين البشر حول العالم.
سرد مسيرة الـ"فيسبوك" أمر يمكن تتبُّعه بسهولة في الموقع الذي كان أكثر تفاعلًا واستجابة لمستخدميه وتطلُّعاتهم، وأتاح لهم أيضًا، أعلى درجات التفاعل، مع ضرورة عدم إغفال بعض المَشاهد التي تقع خارج التاريخ الممكن تتبُّعه للـ"فيسبوك"، ومنها الحوار الصحفي الذي أجراه جمال مبارك في المؤتمر السنوي السادس للحزب الوطني الديمقراطي، وكان مبارك -الابن- وقتها في ذروة السيطرة والاستحواذ على المفاصل الرئيسة للحُكم في مصر، ويحاول بصورة حثيثة تسويق نفسه للمواطنين وارتداء مسحة من خفّة الظلّ الذي كان المصريّون يستشعرون ضحالة منسوبِه لدى حاكمهم المستقبلي، وبطريقة غير موفَّقة واجه بسخرية سؤال أحد الصحفيّين حول رأيه في محاورة جماعات الـ"فيسبوك" مقلِّلًا من أهميّة ذلك، وأتت المفاجأة بعد ذلك بأقل من عامين عندما كانت الدَّعوة التي نُشرت من خلال ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي تحرِّك المصريين بطريقة غير مسبوقة منذ أحداث يناير 1977 في سلسلة من الأحداث أدّت خلال أسابيع قليلة إلى إسقاط نظام الرئيس حسني مبارك وإرساله مع ابنيه جمال وعلاء إلى السجن!
على الرّغم من جسامة الحدث المصري، وإعادة إنتاجه في مواقع أخرى من سورية إلى اليمن إلى ليبيا، تبقى هذه التغيُّرات السياسيّة التي وَجَدَت متنفَّسها الأوّل في المنطقة العربيّة مجرّد مقدمة لتغيُّرات هائلة في علاقة الإنسان بالحائط الشخصيّ الذي يتيح له أنْ يبني قصّة حياته الموازية، وبما يدشِّن العالم الافتراضي بوصفِه حقيقة راسخة تحمل أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بعد أن كان لسنوات مجرَّد استخدام مجازيّ.
توجد هوّة ما بين الصورة التي يقدِّمها الشخص عن نفسه في الواقع العمليّ؛ حيث المُعايشة المباشرة والضغوط الروتينيّة، وبين ما يقدِّمه لِمَن يتابعونه في مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما لا يحتاج الأمر إلى خبرة عميقة من علماء النَّفس للوصول إلى فرضيّة وجيهة تقول إنَّ هذه الفجوة بين الحقيقي في الممارسة اليوميّة، وما يتمّ اختياره لتقدمته على الحائط الافتراضي، تتناسب عكسيًّا في اتِّساعها مع مدى السلامة النفسيّة للشخص، فكلَّما اتَّسعت الهوّة بين ما (يدّعيه) الفرد حيث لا معايشة ولا فرصة كبيرة لاختبار ادِّعاءاته في الفضاء الإلكتروني أو السيبراني، وبين ما (يقترفه) حقيقةً من أعمال ويتَّخذه من مواقف في حياته اليوميّة من المنزل إلى مكان العمل، فإنَّ ذلك يمكن أن يُعتدّ به على وجود اختلال نفسي ربّما لم يُدرس بصورة كافية لتحديد معالمه الرَّئيسة وحدوده ومخاطره.
يقدِّم البروفسور "وينسوك يانج" من جامعة تكساس التقنيّة مفهومًا جديدًا يمكن أن يصف حالة الازدواجيّة التي تهدِّد التَّكوين النفسي والشخصي لمستخدمي موقع الـ"فيسبوك"، وهو يقدِّم مصطلح "التقديم الاستراتيجي للنفس"، مقابل "التقديم الحقيقي"، والاستراتيجي في هذه الحالة يفتقد للعفويّة والمباشرة، ولنقل البراءة، لأنَّه يسعى للاسترضاء وللحصول على إعجاب متابعيه، والحصول على معجبين جُدُد، وربَّما إنشاء علاقات تبدأ من الفضاء الافتراضي إلى الواقع، هذه الأمور تحدث، ولكن توسُّعها يهدِّد كينونة الإنسان الاجتماعي التقليدي، ففي النهاية لا يمكن أنْ يتناول أيّ شخص الوجبة الشهيّة التي تُعرض على حوائط الـ"فيسبوك"، كما يتندَّر كثيرون، ومع ذلك، ألا يوجد مجال لإجراء مقارنة بين الصُّوَر التي تقدِّمها الإعلانات عن المطاعم والفنادق؛ بين الوجبات الحقيقيّة التي تُقدَّم على الطاولات، أو الغرف التي تأتي دائمًا أضيَق من تلك التي تظهر في المواقع الإعلانيّة؟
هل يمكن أنْ نشتقّ مفهومًا موازيًا لِما يقترحه "يانج" ونتحدَّث عن الشخصيّة الإعلانيّة التي يكرِّسها الـ"فيسبوك" والـ"أنستجرام"؟ ما هو شكل العالم الذي يتشكَّل في قوامه من مليارات من مندوبي المبيعات؟ ألم تكن شخصيّة مندوب المبيعات نموذجًا للإساءة التي قدَّمها النظام الرأسمالي للإنسانيّة كما صوَّرتها مسرحية "موت بائع متجول"؟ ما هي ملامح العالم الجديد؟
قبل عقد من الزَّمن انفجرت فقاعة كبيرة في سوق الرَّهن العقاري الأميركي ما لبثت أن تحوَّلَت إلى أزمة ماليّة عالميّة تلقي بظلالها على العالم اليوم، وضمن الأسباب غير المفهومة لدى المهتمّين من خارج حقل المعارف الاقتصاديّة يكمن الفرق الكبير بين حجم الاقتصاد الافتراضي القائم على التوقُّعات والمُضاربات المتعلّقة بأسهم الشركات والمشاريع، وبين الطاقة الإنتاجيّة لهذه المشروعات، فمثلًا يمكن أن يكون حجم كامل أعمال واحدة من الشركات بنحو مليون دولار، بينما قيمتها في سوق الأسهم تتخطّى عشرة ملايين، والفرق يقوم على توقُّعات أو أخبار أو إشاعات تتعلّق بمستقبل أعمال الشركة، ولكنّها لا تمتلك بالضرورة ما يعزِّزها على أرض الواقع، والأمر يكاد يقترب من سطوة العالم الافتراضي التي يجري تداولها وتسويقها بصورة متواصلة مقابل الأعراض الانسحابيّة من التفاعل والمبادرة الاجتماعيّة الحقيقيّة، وربّما يمكن ملاحظة هذا السلوك حين يحضر الأشخاص حدثًا معيَّنًا أو يقومون بزيارة موقع ما، وينشغلون طيلة الوقت بما يبثّونه من هواتفهم الخلويّة مقابل القليل من الاستغراق في ما يحدث حولهم فعلًا، ويعودون بخبرة متواضعة، ولكنهم في النهاية استطاعوا إخبار أكبر عدد من المتلقّين المحتملين بتواجدهم في هذا الحدث، أو زيارتهم لذلك المكان، ولا يُستثنى من الأمر في حالات كثيرة المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات السياسيّة.
لا نأكل صور المآدب التي تنتشر على حوائط الـ"فيسبوك"، ومع ذلك فكثيرون منّا يستهلكون وبشراهة إشارات عاطفيّة ومعنويّة شاردة وواهية، ويحاولون بناء بقيّة القصّة التي تعوّض الحياة الفقيرة تواصُليًّا والتي تُستهلك بين مواقع العمل أو الدراسة والوقوع في فخاخ أزمات السَّيْر، ويكاد بعضهم يتورّطون في قطيعة برسم التَّفاقم مع الواقعي الذي يبقى مخصَّصًا للضروري مقابل الافتراضي الذي ترتهن له أحلامهم.
لن تنفجر فقاعة مواقع التواصل الاجتماعي للأسف، فهذه النهايات التراجيديّة لا تحدث على المستوى الاجتماعي، خاصّة أنَّ الكائن الإنساني تطوَّر لقدرته على التأقلم، والأرجح أنْ يستكمل الإنسان رحلته مع مواقع التواصل الاجتماعي ووقائعها الجديدة، وأنْ يستمرّ في تعويله على حوائطها، أن ينقل من عقله وذاكرته ومرونته الذهنيّة إلى ذاكرة هذه الحوائط التي ستشهد تشكُّل تقاليد إنسانيّة جديدة تتكامل في مرحلة أخرى من الوعي، لتقدِّم إنسانًا مختلفًا كالذي صعد إلى مسرح التاريخ محمولًا على أكتاف العَجَلَة أو المطبعة أو الماكينة البخاريّة، إنسان سيصنع ثورته الخاصة، ويشكِّل حياة ليس من الحكمة أن نصفها بأنَّها أفضل أو أسوأ، وكلّ ما بوسعنا أن نفعله هو أنْ نعيشها، فقط، وفي عصر السرعة، يمكن أن نلمح أنَّ الثورات التي أنتجتها مواقع التواصل ووعيها وشروطها أتت سابقة زمنيًّا على الإنسان الجديد، ولعلّها تصبح جزءًا من تشكُّله الحضاري والثقافي ووجوده الاجتماعي والنَّفسي في المستقبل.