د. سعيد سهمي
كاتب مغربي
sahmi_said@yahoo.fr
تسهم التكنولوجيات الحديثة في قتل الوقت وإهداره، والمشكلة ليست في التكنولوجيات الحديثة، وإنَّما في طريقة التَّعامل معها، والتي تجعل إدمانها مرضًا مزمنًا يجرّ خلفه كثيرًا من العواقب النفسيّة والأمراض الجسديّة والأضرار الاجتماعيّة؛ الأمر الذي يتطلب نهج حكامة تدبيريّة للوقت، حتى تبقى هذه التكنولوجيات وسيلة ارتقاء لا وسيلة هدر للوقت.
سَيْطَرَت التكنولوجيات الحديثة على عقل الإنسان كما سيطرت على كلّ حواسه؛ بحيث صار يقضي بياض نهاره وجزءًا مهمًّا من سواد ليلته في التَّعامل المضني مع مختلف التكنولوجيات الحديثة من تلفاز وحاسوب وهواتف ذكيّة ولوحات إلكترونيّة، والتي أصبحت تتجاوز مرافقة المرء في خلواته إلى مرافقته في مائدة الطعام وفي الاجتماعات وعلى طاولات الدِّراسة، بل إنَّها ترافقه إلى فراش النوم وإلى مكتب العمل، حتى غَدَت شخصيّة الإنسان مستلبة تمامًا على مستوى التحكُّم في النَّفس وتدبير الزَّمن كشرط أساس لتدبير الحياة وطريقة العيش.
•الآلة واستعباد الإنسان
إنَّ الآلة عمومًا تقضي على قدرات الإنسان وعلى مهاراته التي كان بالأمس يوظِّفها في تدبير حياته اليوميّة من زراعة وصناعة وإبداع، وفي مختلف أشكال النشاط الفكري واليدوي، وبمجرَّد دخول الآلة والروبوت إلى جانب الإنسان أصبَحَت الآلة تقوم مقام الإنسان في كل الأعمال التي كانت حصرًا عليه، وأصبح التحكم عكسيًّا؛ من تحكُّم الإنسان بالآلة إلى تحكُّم الآلة بالإنسان، وهنا يُطرح السؤل: ما السرّ في هذا التحوُّل؟
لقد استطاع العلم الحديث أن يصل بالآلة والتكنولوجيات إلى حدٍّ بعيد، فأصبحت الآلة تنجز، بكل ذكاء وسرعة ودقة متناهية، الأعمالَ التي كانت منوطة بالإنسان، ومن ثمّ تخلّيه عن التفكير والتدبير والقيام بالأنشطة الذهنيّة التي يشغل فيها فكره وعقله؛ ممّا عطّل كثيرًا من حواسه، وقد يعود الإنسان -أمام التخلّي عن استخدام عقله في العمليات البسيطة- إلى الوراء ليصل إلى مرحلة الإنسان ما قبل الماهر أو العاقل، إنْ لم يستطِع أنْ يجاري الآلة ويتفوَّق عليها في تدبير العمليّات الذهنيّة وتطويرها؛ فالمشكل يكمن في أنّنا اليوم نجد بعضهم لا يُعمل ذهنه حتى في العمليّات الحسابيّة البسيطة من قبيل الجمع والطّرح والضّرب، بحيث يعود إلى الآلة الحاسبة في كل لحظة، وكثيرًا ما لا يُعمل جهده العقلي في تذكُّر الأمور البسيطة بحيث يعود دائمًا إلى ذاكرة الحاسوب وإلى محرِّك البحث "غوغل" (google) للبحث عن معلومة بسيطة كان في السابق يعتمد في استرجاعها على ذاكرته، وهذا ما قوّى لديه الذاكرة، إنَّنا بذلك نجعل الآلة تتحكّم بنا وتفكِّر عوضًا عنّا وتنجز الأعمال التي هي محض إنسانيّة.
•الزَّمن الافتراضي وسلطة الزَّمن النفسي
تأتي إشكاليّة الزَّمن في العوالم الافتراضيّة التي يعيشها الإنسان في كونها أزمنة قصيرة جدًا لشساعة الفضاءات الإلكترونيّة التي يرتادها المرء في تعامله مع مختلف الموضوعات؛ سواء ارتبط الأمر بالتلفاز أو الحاسوب أو التابليت (tablette)، والتي تجرّه إلى مجالات لا حصر لها تهيمن فيها الصورة المتحرِّكة، وحين تتعدَّد رغبات الإنسان واهتماماته على حساب الزَّمن الواقعي القصير يبدو الزَّمن الافتراضي كما لو أنه لا وجود له، ممّا يدعو إلى طرح مفهوم جديد للزَّمن يسود فيه الزَّمن النفسي الذي يجعل المرء لا يشعر أبدًا بمرور الوقت وهو يتعامل مع الأجهزة الإلكترونيّة؛ فالطفل الذي لا يستطيع أن يتابع حصة دراسيّة من ساعة واحدة في الفصل ويتبرَّم منها نجده يجلس لساعات طويلة أمام الحاسوب فيمضي ما يقرب من ثلث يومه أمام جهاز الحاسوب أو التلفاز دون عياء أو كلل حاصرًا فكره واهتمامه على الأفلام التافهة والألعاب المسلّية التي قد لا تفيده في شيء. ونجد العامل الذي لا يستطيع أن ينجز أربع ساعات في مقرّ عمله إلّا بمشقّة النَّفس، تجده يمضي عشر ساعات أو أكثر أمام مختلف الأجهزة التكنولوجيّة من هاتف وحاسوب وتلفاز دون ملل، ينتقل من عالم إلى عالم بجهود فكريّة وجسديّة تضاعف لمرّات مجهود عمله في مكتبه، وهو ما يضاعف من التعب لديه بشكل يعود سلبًا على مهنته واهتماماته الأساس.
•سلطة الزَّمن الافتراضي وقتل الأحاسيس الإنسانيّة
استطاعت التكنولوجيات الحديثة أنْ تهيمن على عقل الإنسان ومشاعره ولا شعوره أيضًا، فأصبحت جزءًا مهمًّا من حياته، بل أصبحت بمثابة عضو نشيط من أعضائه الجسديّة، فحين ينسى المرء هاتفه الذكي تجده يقفز مذعورًا حين تذكُّر الأمر، كما لو انه افتقد عضوًا من أعضائه في المنزل.
إنَّ التكنولوجيات الحديثة التي تستلب آليًّا الطفل أو المراهق أو الرجل الذي لا يحسن تدبير الزَّمن تجعله يقف أمام الشاشة لساعات طويلة دون فائدة؛ ممّا ينقله إلى تعب قاتل، فلا يرتاح في النوم ولو نام نصف اليوم كلّه أو أكثر لأنَّ الصورة المتحرِّكة تشلّ كلّ الحواس كما يرى العلم الحديث، وإنَّنا اليوم نرى حالات مستعصية على الطب على الرّغم من تطوُّره، بسبب إدمان الإنترنت وإدمان التعامل مع مختلف التكنولوجيات لا سيّما الألعاب الإلكترونيّة.
يبدو، إذن، أنَّ المشكل ليس في التكنولوجيات الحديثة، وإنَّما في طريقة التَّعامل معها، والتي تجعل إدمانها مرضًا مزمنًا يجرّ خلفه كثيرًا من العواقب النفسيّة والأمراض الجسديّة والأضرار الاجتماعيّة، فالعلاقات الاجتماعيّة توتّرت بسبب هذا الاهتمام البالغ بالرقميّات والذي دفع الكثيرين إلى إهمال كبير للنَّفس والآخر، ممّا قد يؤدّي مستقبلًا إلى مشكلات وظواهر إنسانيّة واجتماعيّة لا حصر لها.
•الرقميّة وهدر الوقت
الواقع أنَّ قضاء المرء يومه مثلًا أمام كتاب يجعله يجني منه فوائد لا حصر لها، حتى ولو كان هذا الكتاب إلكترونيًّا، كما أنَّ الاستفادة من محاضرات علميّة على اليوتيوب (youtube)، مثلًا، تجعلنا نستفيد ونرتقي علميًّا وفكريًّا، وتلكم ايجابيّات الرقميّة، إلّا أنَّ المشكل يكمن أساسًا في كون الرقميّة حين تستولي على الإنسان، فيستخدمها دون رغبته، بشكل يشبه الاستعباد، تجعله لا يهتمّ بالزَّمن ولا يحسن تدبيره، وغالبًا ما نجد المرْء يُشدُّ إلى التكنولوجيات دون رغبته، كما هي الحال مع علاقتنا بالتلفاز، فحين نفتحه مباشرة، بعد دخولنا إلى المنزل، غالبًا ما نفتحه دون هدف أو غاية، وهو ما يجعلنا في الغالب لا نشعر بأهميّة الموضوع، وإنَّما دون شعور ننساق أمام الصورة أو البرنامج التلفزيوني مهما كان بعيدًا عن اهتمامنا، إلى أن نمضي ساعة أو أكثر، ولا ندرك الوضع إلّا بعد فوات الأوان فنشعر بنوع من النَّدم، وقد مرَّ وقت طويل دون فائدة.
إنَّ التكنولوجيات الحديثة تسهم في قتل الوقت وإهداره عندما لا نحسن استعمالها، فالمشكل تدبيري، أوَّلًا، لأنَّ الغالبيّة العظمى لا تهتمّ بالزَّمن الافتراضي، كما لا تدرك أهميّة التكنولوجيات الحديثة ولا ماهيّتها، بل تعتقد أنها مجال للّعب واللّهو؛ والحق أنَّ هذا اللّهو في الغالب ينتقل إلى تعب ذهني مضنٍ وشعور أليم بتأنيب الضمير بسبب هدر الوقت دون جني أيّ فائدة.
•من أجل تدبير جيِّد للزَّمن
1- فهم التكنولوجيات الحديثة
إنَّ التدبير الجيِّد للوقت يدعو المرء أوَّلًا إلى التحلّي بـِ"ثقافة زمنيّة" تجعله يدرك قيمة الوقت باعتباره أغلى ما في هذه الحياة، ومن ثمّ فإنَّ تنظيم الأولويّات ضرورة ملحّة لتدبير جيِّد للوقت، ومن جهة ثانية فإنَّ التدبير الجيِّد للتَّعامل زمنيًّا مع التكنولوجيات الحديثة يدفع إلى ضرورة المعرفة بها، أو إلى ثقافة تكنولوجيّة، باعتبار التكنولوجيات الحديثة وسيلة لا غاية، فمشكل الدول النامية أنَّ التكنولوجيات التي دخلتها دون جهد أو ثقافة اجتماعيّة واكبت تحوُّلاتها تجعل مرورها إلى عصر التكنولوجيا وإلى الحداثة أمرًا مبتذلًا بحيث لا يرون فيها وسيلة تواصُل ورقيّ وإنَّما وسيلة لعب وتسلية، ومن ثمّ لا يتعاملون معها بحذر.
2- تحديد الهدف
إنَّ إدراك معنى التكنولوجيات الحديثة يجعل الراغب في التعلُّم يرى فيها وسيلة تعلُّم مثل الكتاب أو المدرسة، فينخرط مباشرة في قراءة الكتاب الإلكتروني أو المحاضرات والدروس عن بُعد، وتجعل مَن تستهويه الرياضة يرى فيها وسيلة بناء لشخصيّة الرياضي، فيهبّ مباشرة إلى الرياضة التي يفضِّلها ليتعلم مهاراتها، وتجعل مَن تستهويه الموسيقى يذهب مباشرة إلى المواقع التي تعلِّم أساسيّات الموسيقى، وتجعل مَن يريد تعلُّم حرفة أو الارتقاء في مهنة معيَّنة يتَّجه مباشرة إلى المواقع التي تفيده في الأمر، وتجعل الباحث الذي يستهويه البحث العلمي يتَّصل مباشرة بروابط البحث العلمي وبالمؤسسات التي تسهر على ذلك لتطوير مهارته وتوسيع ثقافته ومعرفته، وذلك ما يحول دون هدر الوقت في ما لا ينفع.
3- تحديد الأولويات
لا يبدو أنَّ جعْل التكنولوجيات الحديثة والانخراط فيها أولويّة من الأولويّات إلّا بالنِّسبة للعاملين في مجال تطوير البرمجيّات والذين يسهرون على المواقع الإلكترونيّة من أجل الربح وجني المال، أمّا العامل في شركة أو معهد أو مقاولة أو الموظف في إدارة من الإدارات فإنَّ التكنولوجيات لا يمكنها أن تكون من أولويّاته، وربّ الأسرة الذي لديه أبناء في حاجة إلى تربية فالأولويّة لديه هي السهر على تربية أبنائه والقيام بشؤون أسرته، والفلّاح الذي يسهر على شؤون الفلاحة والزراعة فتلكم أولويّاته، والكاتب المعتكف على كتابة رواية أو نظم ديوان شعري فالكتابة هي أولويّته، والطالب المطالَب بإعداد بحث علمي فالأولويّة هي بحثه، والتلميذ المتبوع بامتحان إشهادي فالأولويّة لديه هي الإعداد للامتحان، وليس تضييع الوقت في متابعة مستجدّات البرامج الإلكترونيّة التي لا حصر لها.
هكذا يبدو أنَّ تحديد الأولويّات أمر لا مفرّ منه لتنظيم الوقت وتدبير شؤون الحياة، وهو ما يتطلّب حكامة زمنيّة، ولا يمكن في هذا الصّدد الاشتغال على التكنولوجيات الحديثة المدمِّرة للوقت إلّا باعتبارها وسيلة للتعلُّم والبحث وتطوير الذات وليس كغاية في ذاتها، وفي هذا السياق يمكن إدارة الوقت كما يحدِّدها الخبراء(*)، انطلاقًا من الأَوْلى فالأَوْلى كما يلي:
- الأولويّات التي لا يمكن تأجيلها، والتي ينبغي أنْ تُنجز في وقتها.
- الأولويّات التي يمكن تأجيلها.
- الأمور الثانويّة التي يمكن الاستغناء عنها.
انطلاقًا ممّا سبق ذكره يبدو أنَّ السبيل الوحيد للتغلُّب على هدر الوقت الذي تسبِّبه التكنولوجيات الحديثة، بسبب سوء التعامل معها، هو نهج حكامة تدبيريّة للوقت، حتى تبقى هذه التكنولوجيات وسيلة ارتقاء لا وسيلة هدر للوقت، ممّا يتطلّب معه أن تنشأ لدينا ثقافة كافية للتعامُل مع التكنولوجيات الحديثة، والتي تتطلّب تكوينًا في هذا المجال، هذا التَّكوين ينبغي أنْ ينطلق من المدرسة كفضاء للتربية والتعليم، والتي عليها أنْ تقوم بدَوْرها من خلال فرض تدريس المعلومات والتكنولوجيات الحديثة وتعميمها في المدرسة، لتربية النشء على حُسن التَّعامل معها للأخذ بحسناتها وترك سيِّئاتها.
- - - - - - - - - - - -
(*) في موضوع إدارة الوقت يمكن الرجوع إلى المراجع الآتية:
- Cynthia Measom: "5 Steps to Better Time Management"، www.work.chron.com, 31 /12 /2018
- Mike Clayton (7-10-2016), "4 Steps to Personal Time Management": www.projectmanager.com; , 31 /12 /2018
- Rinkesh Kukreja, "10 Ways to Improve Your Time Management Skills"، www.lifehack.org;. , 31 /12 /2018