عبد المجيد جرادات
كاتب أردني
Am_jaradat@yahoo.com
أفرزت مخرجات الصِّراعات المعاصرة مظاهر التطرُّف والغلوّ، ما يوجب اتِّخاذ ترتيبات ستُرهق موازنات الدول التي ستشتبك بمعارك تبدو (وهميّة في إطارها العمليّ)، لكنّ أهدافها مرسومة بمنتهى الخبث، وهي تعتمد على ضرورات إيجاد المزيد من القلق الذي يتعارض مع المبادرات الخلّاقة ومتطلبات الابتكار والإبداع.
تَسْألُني ما حال العرب اليوم؟ فتعود بي الذاكرة إلى مطلع العام 2011، عندما انطَلَقَت (ثورات الربيع العربي)، والتي بدأت بشعارات متنوّعة؛ بعضها تركّز حول عنوان (المطالبة بالتَّغيير) الذي يهدف للارتقاء بعيش الناس والخروج من تبعات مرحلة (التحوُّلات الاقتصاديّة) التي أثَّرت سلبًا على حياة الشعوب منذ مطلع العام 1990، بعد أن جاءت نظم العولمة والتي أدَّت لتخلّي العديد من الدول عن أصولها ومصادر دخلها القومي لحساب أصحاب رؤوس الأموال الذين يعنيهم جمْع الكثير من المدّخرات بالقليل من جهود الطاقات المنتجة، وبعض الشعارات الآخر كان يُنادي بضرورة توفير الحريات التي تمهِّد للثقافة الديمقراطيّة، فكيف كانت مخرجات هذه التجربة وما هي نتائجها؟
من حيث المبدأ، يُمكن التأكيد على أنَّ ما حدث في أكثر من دولة عربيّة من صراعات داخليّة وتآكل مُدمِّر، كان نتيجة حتميّة لحالة (عدم التوازن الاجتماعي) وازدياد أعداد الباحثين عن فرص العمل، وبالوقت نفسه فقد تراجعت مقوّمات (التواصل الودّي بين الناس)، وفي أكثر من اتِّجاه، لم يكن هنالك فسحة أمل، بعد أن فقدت الروح قوّتها المؤثِّرة في تحصين البناء الاجتماعي والنماء الاقتصادي، وأسلم الناس وجودهم إلى مَن يتولَّون ترجمة مفاهيم (الثقافة الكونيّة) التي لا تأبه بالصفاء الروحي وأدوات التَّماسك، ولا تأخذ بأسباب المَنَعَة التي تعزِّز مفاهيم الانتماء وتركِّز على قدسيّة المكان الذي تمّ اختراقه وتجريده من خصوصيّته وحميميّته.
تمَّ الالتفاف على مسيرة ثورات الربيع العربي، بأسلوب يؤسِّس للمزيد من معاناة الشعوب، حيث الهجرات القسريّة التي دفعت بعشرات الآلاف من أبناء العروبة لديار الغربة، الأمر الذي يؤسِّس للخطورة على واقع العائلة والجماعة ومفهوم "التلاحم" الذي يُعبِّر عن الشعور بالمصير المشترك، ويحثّ على التَّنافس من أجل السَّيْر في ركب التطوُّر المعرفي، والسؤال هنا: هل سيؤدّي (الافتراق) الذي فرضته متغيّرات المرحلة على مستوى هذه الشرائح، إلى إعادة (التَّناغم والحُبّ) بين الأقارب، الذين كابدوا رحلات المنافي، وخرجوا من بيوتهم، وسيجدون بعد حين أنه يصعب عليهم العودة لأوطانهم، خوفًا من حدوث نزعة الثأر، وربّما عدم القدرة على إعادة ترميم وإصلاح ما دمَّرته الفتن وحالة الاقتتال التي سادت في دولهم؟ وماذا عن دوْر المرجعيّات التي تمتلك القدرة على التَّهيئة للدُّخول في مقاربات ترسم آفاق المستقبل نحو غد يخلو من سموم التَّآمر والتَّناحر، ويمنح الجميع الفرصة للعيش في أوطانهم بعيدًاعن محاذير الخوف من التشرُّد والشعور بقلّة الحيلة؟
تصطدم محاولة الخروج من المأزق الحضاري الذي تعيشه الأمة العربيّة بجملة معوّقات أهمها: أنَّ التقييم الموضوعي للمؤثِّرين في العالم العربي تؤكد انشغالهم بحماية مصالحهم الذاتيّة، ومواجهة قضاياهم الداخليّة، وأمام هذا التحدّي لا بد من الاعتماد على دوْر أهل الفكر النيِّر والمثقف المنتمي لبيئته، مع التذكير بحاجة الشعوب العربية إلى أدوات (الحماية) من الآثار الجانبيّة للثقافة الكونيّة، إذ تتعمَّق أفعالها في المكان والتاريخ والتراث وطبيعة المبادلات الحياتيّة، وتأسيسًا على ذلك تبرز الحاجة للفعل الثقافي الذي يُركِّز على الفضيلة والتكافل الاجتماعي، بعيدًاعن مظاهر الانفلات والتهوُّر الذي نلمحه في أكثر من مكان.
كيف يبدو المستقبل في ظلّ الثورة المعرفيّة المعاصرة بشقّيْها التقني والرقمي؟ وهل يُمكن وضع التصوُّرات والطروحات التي تناقش بين الحين والآخر عن الرغبة بإيجاد نهضة اقتصاديّة تمكِّن الشعوب من اللحاق في ركب التقدُّم من خلال الاستثمار الأمثل في العنصر البشري؟ آخذين بعين الاعتبار أنَّ تحدّيات المرحلة، أدَّت لتعمق الاختلالات البنيويّة في تركيبة معظم المجتمعات، هذا إلى جانب المنغِّصات المتشعِّبة والتي تمثَّلَت في جوهرها باتِّساع فجوة غياب الثقة بين المتنفِّذين في الحكومات وميسوري الحال من جهة، والأغلبيّة التي بدأت تُحسّ بالضيق، وهي تلمح حالات التفكُّك الأسريّ، وتراجُع سياسات ومبادرات الاهتمام بأصحاب المواهب والكفاءات الذين جرت العادة على توظيف قدراتهم في تلبية احتياجاتهم وتنمية مجتمعاتهم.
تسبَّبت تطوُّرات الأحداث المتتالية، بعد الغزو الغربي للعراق في مطلع العام 2003 إلى بروز سياسات (العسكرة) التي تشيد بقِيَم القوّة وتميل لممارسة القسوة، الأمر الذي أضعف مقوّمات (الأنسنة) وفي هذه الأثناء بدأت الجهات التي مهدّت للفوضى الخلّاقة بالحديث عن محاذير العنف والتطرُّف، وعلى أرض الواقع، فإنَّنا نشهد صراعات وخلافات مُرعبة، وسلوكيّات تحتاج للعقلانيّة التي تنظِّم جوهر العلاقات بين بني البشر، وبمنهجيّة تُعيد التوازن المنشود بين الناس وتحول دون استفحال النزاعات التي نُدرك أنها تتعارض مع أدوات النُّهوض والسَّيْر في ركب التطوُّر الاقتصادي والنُّهوض الاجتماعي، وكل هذه الأسباب تحتاج في مجملها لجهود خيِّرة، ونوايا صادقة، ترأف بالأبرياء وتحمي الناس من بطش بني البشر وقسوة الطبيعة.
أمران جديران بالاهتمام ووضْع التصوُّرات الاستباقيّة حول محاذيرهما:
الأمر الأوَّل، يرتبط بمخرجات مراحل النزاع والصِّراعات المعاصرة، نشير هنا إلى أنَّ حالة التنافس الاقتصادي بين الدول العظمى والصناعيّة، تلعب دورًا بارزًا في إذكاء الفتن وإحياء الخلافات، ولنا أن نذكّر بحقبة الحرب الباردة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945م، بين الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة من جهة والاتحاد السوفييتي سابقًا من جهة ثانية، وبعد حوالي ثلاثة عقود من الحرب الإعلاميّة بين القوّتين العظميين (روسيا والولايات المتحدة)، أدرك خبراء الاقتصاد والسياسة في الغرب أهميّة مناطق العالم العربي من حيث وفرة مصادرها الطبيعيّة، ومن منظور الحرص على ديمومة المصالح الغربيّة في الوطن العربي، فلا بدَّ من خلق أسباب التوتُّر الذي يقود للتدخُّلات الخارجيّة في الشؤون العربيّة، وكل ذلك بطبيعة الحال، حتى تكون الأسواق العربيّة مفتوحة أمام جميع منتجات الدول الصناعيّة بما فيها أدوات الحروب البشعة.
الأمر الثاني، يتبلور بناء على مخرجات الصِّراعات المعاصرة، وما أفرزته من (مظاهر التطرُّف والغلوّ) وما يتوجّب اتِّخاذه من ترتيبات لمُشاغلة الذين ضاقت بهم السُّبُل وتورَّطوا بمواقف ربّما أخذت بعضهم بعيدًا عن جادة الصَّواب، وهذا هو التحدّي الذي سيؤدي لاستنزاف ما تبقّى من مدّخرات الدول وممتلكات أبنائها، ومن أسوأ السيناريوهات المرسومة في هذا الاتِّجاه هو أنَّ معالجة آفة التطرّف، ستؤسِّس للمزيد من الخلافات وتفشّي نزعة الثأر بين الشرائح المتجاورة، وستُرهق موازنات الدول التي ستشتبك بمعارك تبدو (وهميّة في إطارها العمليّ)، لكنّ أهدافها مرسومة بمنتهى الخبث، وهي تعتمد على ضرورات إيجاد المزيد من القلق الذي يتعارض مع المبادرات الخلّاقة ومتطلبات (الابتكار) في مهام الارتقاء بمستوى عيش الناس، حتى يكون بوسعهم صناعة غدهم بإبداعاتهم ومخزون معرفتهم.
أمام هذا الواقع، نسمع مَن يُنادي بأهميّة الدُّخول في محاولات جادّة للإصلاح من خلال فن الاستشراف، وإشاعة ثقافة التفكير النقدي ثم اعتماد أدوات التخطيط والإدارة الاستراتيجيّة، وفي هذا الجانب لا بدّ من القول: إنَّ العمل بهذه المنهجيّة يحتاج لتوفر البنية التحتيّة لمفهوم (الحاكميّة الرشيدة) والتي تستند على جملة أعمدة أهمها إشاعة ثقافة (التشاركيّة) بإطارها الواسع، والعمل بروح الشفافية، ثم تطبيق أسس المساءلة، والتي تعتمد على تفعيل دوْر الرقابة الوقائيّة بحيث يتم توفير أدوات الحماية والتنبُّؤ الذي يحول دون حدوث الخلل، ومن الفضيلة معالجة ما يستجدّ من أخطاء وممارسات مخطوءة أوّلًا بأوّل، ودون التريُّث لحين تراكم المزيد من الأخطاء، حتى لا تختلط الأوراق ويكون ذلك سببًا في عدم القدرة على تحديد المسؤوليّة.
عندما تتهيَّأ الفرصة للحوارات أو اللقاءات التي تتم بقصد تبادل وجهات النظر للخروج من تبعات المواقف التي نتفق على أنها لا تخدم المصالح العليا للجميع، فإنَّ منطق الأمور يستدعي تجنُّب إصدار (الأحكام المسبقة) والتحلّي بحسن النيّة، إلى أن تتَّضح الحقيقة، نقول ذلك لأنَّنا نلمح في معظم المواقف سلوكًا متوترًا وحالة من التهوُّر، وكثيرًا ما نرى أنه يتم الخلط بين مفهوم (الحَزْم) وحدَّة المزاج، بحيث تتهيَّأ الفرصة لأسوأ مظاهر (العدوانيّة Agressiveness (وهذا هو السلوك الذي يتعارض في جوهره مع متطلّبات الإصلاح وأهدافه المنشودة.
لا بدَّ من مواجهة الحقائق بكل تفاصيلها وأسبابها، وإنْ عدنا لتجارب الدول والشعوب التي تجاوزت أعتى المحن في سبيل الخروج من أزماتها، نجد أنَّ غرس روح الإيثار بنفوس أصحاب الكفاءات الذين يقدرون على تحقيق نجاحاتهم بأنفسهم، قد رسمت معالم الطريق نحو الغد المشرق، وهذا يتطلّب البحث عن دورين حيويين: أولهما: المدير الذي يتقن فنّ إدارة الأزمات ويمتلك القدرة على وضع البدائل والحلول التي تمكِّنه من الوفاء بمتطلبات وظيفته بمرونة ومصداقيّة تؤسس لمنظومة العمل الإداري الذي يوظف كل الجهود والطاقات سعيًا لتحقيق معادلة (الديمومة) والسير في ركب التطوّر. أمّا الدور الحيوي الثاني فهو: القائد الذي يحترم قِيَم الناس، ويتمركز في شرفة طموحاتهم، ثم يحرص على صوْن منجزاتهم.