موسى إبراهيم أبو رياش
قاص وكاتب أردني
mosa2x@yahoo.com
كان للمثقَّفين نصيبٌ وافرٌ في رواية "سيدات الحواس الخمس" لجلال برجس، إذْ أنَّ معظم شخصيّاتها على قدر من الثقافة، فنجد "المثقف الملتزم" و"المثقف الانتهازي" والمثقف الحيادي"، وكان التباين الكبير بينهم لافتًا، وهو ما يثير الاستغراب والتساؤل بل والحيرة أيضًا!
إنَّ الاختلاف حول مفهوم المثقَّف أكبر مِن أنْ يحيطَ به تعريف، أو تسعه مقالة. والمقصود بالمثقَّف هنا كل متعلِّم أو مَن له علاقة بالأدب أو الفن أو الإعلام أو السياسة أو أيّ مجال من مجالات المعرفة الواسعة، وهذا ما أشار إليه "غرامشي" في قوله: "إنَّ كل البشر مثقَّفون بمعنى من المعاني".
ثم إنَّ مفهوم المثقَّف مفهوم مرن متغيِّر، يختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ومهما كانت دقَّة التعريف أو شموليّته سيبقى تعريفًا نظريًّا غير قابل للقياس عمليًّا، ولعلَّ هذا ما أشار إليه الشاعر والباحث المغربي صلاح بوسريف بقوله: "(المثقَّف) ليس مفهومًا مُحْكَمًا، قطعيًّا، مُمْتَلِئًا بتعبيراته، وما يحمله في طيّاته من مداليل، بل إنَّه مفهوم مِتَمَوِّجٌ، مُنْشَرِحٌ، ما فيه من فراغ، ومن مساحات شاغرة، أكثر ممّا فيه من امتلاء، وهذا ما يسمح بضرورة الإضافة والمَلْءِ، وبالمُراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على الدَّوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل لتجديده، وتحيينه، ووضعه في سياق المُتَغيِّرات الحادِثَة والطَّارئة، بما تُحْدِثُ في هذا المفهوم ذاتِه من خُدوش وجروح وتَصَدُّعات"(1).
وقد كان للمثقَّفين نصيبٌ وافرٌ في رواية "سيدات الحواس الخمس" لجلال برجس، إذْ أنَّ معظم شخصيّاتها على قدر من الثقافة، وكان لافتًا هذا التباين الكبير بينهم الذي يصل حدّ التناقض أحيانًا، ممّا يثير الاستغراب والتساؤل بل والحيرة أيضًا!
ولا يمكن تصنيف المثقَّفين في الرواية بشكل قاطع؛ فمعظمها شخصيّات قلقة متأرجحة، تعاني وتتألم على الرّغم من ثراء معظمها ومكانتها الرفيعة، فالخلفيّات الاجتماعية تلعب دورًا كبيرًا في ذلك، وكذلك الشعور بعدم الاستقرار.
ويمكن تقسيم المثقَّفين في الرواية إلى ثلاثة أصناف بحسب الصفة الغالبة، وهي:
•المثقَّف الملتزم
المثقَّف الملتزم هو الذي يشتبك إيجابيًّا مع قضايا مجتمعه وإنسانيّته، وهو ما وصفه "غرامشي" بالمثقَّف العضوي الذي يعيش هموم مجتمعه، ويسعى للتأثير والتغيير. وقد تضمَّنَت الرواية خمس شخصيات مثقَّفة ملتزمة وهي: عزالدين وسراج وكنده همام ودعد سامي وليلى إياد.
"عزالدين" حزبي يساري، صاحب موقف مبدئي ثابت لا يتزعزع أو يتغيَّر، يقرأ الكتب بوعي، ويُعنى بالسياسة ويمارسها من خلال الالتزام الحزبي، كان على خلاف مع "سليمان الطالع" بسبب مواقفه. توفي حزنًا وقهرًا إثر سقوط وتفكُّك الاتحاد السوفييتي. ولعلّه المثقَّف الوحيد الملتزم بوضوح دون شائبة، وتمسَّك بما يؤمن به حتى النهاية، لم يساوم أو يتنازل.
أمّا ابنه "سراج"، وهو الشخصيّة الرَّئيسة في الرواية، فقد كان موهوبًا في الرَّسم منذ صغره، وتخرَّج في الجامعة، وأقام عدّة معارض فنيّة. عمل في أميركا في مجال صناعة العطور وصار خبيرًا بها، كما أنه على دراية بالموسيقى، ويتقن العزف على البيانو. وعندما عاد من أميركا، بنى "غاليري الحواس الخمس"، حيث يختصّ كل طابق بحاسّة، وتبنّى أطفال الإشارات والأطفال العميان ومكَّنهم من التَّدريب والتَّعليم، كما وفّر "الغاليري" مكتبة عامة كبيرة، وأصبح مركزًا للنشاطات الفنيّة والثقافيّة، ونظَّم مجموعة كبيرة من الدورات في شؤون شتى، وهذا موقف متقدِّم جدًا لمثقَّف ملتزم، وهو نادر الحدوث وخاصّة في العالم العربي. ويلاحَظ أنَّ "سراج" لم يرث والده حزبيًّا أو فكريًّا، فهو شخصيّة مستقلّة بعيدًا عن أيّ مؤثرات سياسيّة أو حزبيّة أو سلطويّة.
كما قام "سراج" بانتشال "كنان" من الشارع، ووظَّفه حارسًا لقصره، وساعده على القراءة واختيار الكتب، ولم ينسَ فضل "وداد"، فعيَّنها مديرة قصره، وتبنّى الطفل "أحمد"، وساعد أسرته فاشترى لها شقّة وأجرى لها راتبًا شهريًّا، واختار صديقه "سعيد عبدالباري" مديرًا فنيًّا للغاليري.
في الجانب الآخر، فإنَّ "سراج" عندما اكتشف خيانة زوجته "ريفال" مع "سليمان الطالع"، فضَّل الانسحاب والهجرة، ولم يقْوَ على المواجهة، ربّما لأنه يعرف أنه ضعيف أمام سطوة "سليمان الطالع" وطول يده. كما أنَّ "سراج" ظهر في الرواية زير نساء ولكنه عاجز لا حيلة له.
الشخصية الثالثة "كندة همام"، وهي مدرِّسة جامعيّة، وعلى وعي سياسي وتهتمّ بالقراءة والمعرفة، وترتاد المعارض الفنيّة. تزوَّجَت من الكاتب "رعد عبدالجليل" لجرأته ووعيه وفضحه الفاسدين، وعندما استسلم للتيّار، خفَتت حدَّة مقالاته، فكانت تناقشه في ما يكتب ممّا أغضبه منها، ولكنها لم تتخلَّ عن قناعاتها ومبادئها. ارتبطت بعلاقة مع "سراج" بعد خيانة زوجها.
الشخصية الرابعة "دعد سامي"، وهي خبيرة أغذية، وكاتبة مقالات، وتناولت المأكولات والأطعمة التي تهدم حياة البشر، فتعرَّضت لحرب قاسية من الشركات المنتجة تهديدًا وإغراءً، ولكنها لم تلن أو تستسلم. خانت زوجها بعد تردّي حاله وخيانتها، ثم ارتبطت بعلاقة مع "سراج".
الشخصية الخامسة "ليلى إياد" التي تزوَّجَت من رجل يعمل في مجال حقوق الإنسان، وللمفارقة حبَسَها في البيت، كما فعل أهلها من قبل، فلا تخرج أو تخالط الناس إلّا معه، وكان كثير السَّفَر بسبب عمله، فلم تستسلم للظروف، فتعرَّفت على العالَم في سياحة افتراضيّة من خلال الإنترنت، وثقفت نفسها، وبدأت تكتب باسم مستعار، ثم نشرت مجموعة قصصيّة باسمها نالت الإعجاب والتقدير، والتي كانت سبب تعرُّف "سراج" بها ومن ثم إعجابه وارتباطه.
وهكذا نلاحظ أنَّ الشخصيات المثقَّفة الملتزمة، لم تتخلَّ عن قناعاتها، وسَعَت للتَّغيير، وأثَّرت على مَن حولها، وكان لها رسالة واضحة، وإنْ كانت بنسب متفاوتة، وأساليب مختلفة.
•المثقَّف الانتهازي
ويقصد بالمثقَّف الانتهازي الذي يستغلّ ثقافته من أجل مصالح شخصيّة، ولا يشغله الشأن العام إلّا إذا انتفع منه. وتضمَّنت الرواية أربع شخصيّات مثقَّفة انتهازيّة هي: سليمان الطالع، ورعد عبدالجليل، وريفال، وسوار، وأكثرها وضوحًا وانتهازيّة هو "سليمان الطالع"، حامل شهادة الدكتوراه، الحزبي والمعارض وقائد المظاهرات السابق، والذي تخلّى عن حزبيّته ومبادئه من أجل منصب مهم، ثم أسَّس "مجموعة سليمان الطالع التجارية" التي تعمل في كل المجالات. تورَّط في قضايا فساد، تداولتها وسائل الإعلام، فاشترى منتقديه، ومَن لم يستطع شراءه لفَّق له التُّهَم وأبعده من طريقه، وكان مِن مسبِّبي كارثة البورصة ومن أكبر المستفيدين منها.
استولى على "ريفال" زوجة سراج لتجديد شبابه، وربَّما ثأرًا من خصمه "عزالدين" الذي كان يُشعره بالنَّقص والدونيّة والتقلُّب. حاول شراء "الغاليري"، وعندما رفض "سراج" استعان بالقبضاي الذي فجَّره في أثناء حفل فنّي وحضور جماهيري كبير.
والمفارقة أنَّ "سليمان الطالع" يقرأ، وله مكتبة في غرفة مكتبِه، ويوظِّف ثقافته وقراءاته في حديثه.
الشخصية الثانية "رعد عبدالجليل"، زوج "كندة همام"، كان كاتبًا نزيهًا كشف ملفّات الفاسدين، فلفَّق له سليمان الطالع تهمة التعاون مع الجماعات الإرهابيّة، فسُجن شهرًا، وفُصل من عمله، فعمل في صحف أسبوعيّة، ثم أغراه سليمان الطالع برئاسة تحرير صحيفة كبيرة، بالإضافة إلى مستشاره الإعلاميّ، فرضخ، وخفَّت حدَّة مقالاته، وزادت أمواله، فاشترى سيارة، وتزوَّج في حفل كبير حضره كبار الكتاب والإعلاميين والسياسيين، يثور إذا خالفته زوجته في وجهة نظر بعض مقالاته، وله علاقات نسائيّة كثيرة، بالإضافه إلى سُكْره وعربدته. ومع أنه يعمل لصالح "سليمان الطالع"، إلّا أنَّ بينهما عداوة مضمَرَة، ولكن جمعتهما المصالح.
الشخصيّة الثالثة "ريفال"، خرّيجة قسم الإعلام، كانت مذيعة في محطة تلفزيونيّة مغمورة، تحلم بأن تصبح مثل "أوبرا وينفري". تعرَّف إليها "سراج" في أثناء تغطيتها لمعرضه الفني، ثم تزوّجها، ولكنها خانته مع "سليمان الطالع" لتحقِّق أحلامها في الشُّهرة من خلال محطته الفضائيّة، طلّقها "سراج" وهاجر إلى أميركا، فتزوَّجها "سليمان الطالع". قدَّمت برنامج "السرّ" الذي أشهرها ورفع أسهمها في عالم الإعلام.
الشخصية الرابعة "سوار"، كان صوتها جميلًا منذ الصغر، تغنّي في الأفراح والمناسبات للجيران، أحبَّها "كمال" ابن الجيران، وتزوّجا بعد تخرُّجهما في الجامعة نفسها، ثم عملا مدرِّسَيْن. سافر "كمال" للخليج، ثم طّلقها لاشتراكها وفوزها في برنامج مواهب دون موافقته ولرفضِه المُسبق، وأصبحت نجمة يتخاطفها المنتجون. رفضها "كمال" بعد عودته واتَّهمها بالعهر، فأصبحت تنتقل من سرير إلى سرير لتنتقم منه، وأخيرًا تعرَّفت على سراج وارتبَطَت به.
مما سبق، نجد أنَّ الشخصيّات المثقَّفة الانتهازيّة كانت تسعى وراء مصالحها الشخصيّة بضراوة، ولم تأبه لقِيَم أو أخلاقيّات أو عُرْف، وتفتقد للثَّبات والالتزام وتحمُّل المسؤوليّة المجتمعيّة.
•المثقَّف الحيادي/ السلبي
المثقَّف الحيادي صاحب اللاموقف، غير المنحاز إلى الحق والعدل، هو سلبي في النتيجة ومنحاز إلى الباطل والظلم والفساد. وقد تضمَّنَت الرواية بعض الشخصيّات التي لا موقف محدَّد لها، فلا هي ملتزمة واضحة، وليست في المقابل انتهازيّة نفعيّة، بل كانت أقرب إلى التَّماهي مع الوضع السائد، وهي ثلاث شخصيات: سعيد عبدالباري، ووداد، وكنان.
كان "سعيد عبدالباري"، صديق "سراج" منذ المدرسة، شاركه الفن والمظاهرات والمعارض، وبعد تخرُّجه في الجامعة عمل سائقًا عند "سليمان الطالع"، ومع أنه هو الذي كشف خيانة "ريفال"، إلّا أنه استمرّ يعمل لصالحه، ولمْ ينحَزْ إلى جانب صديقه، وبقي يعمل لديه إلى أن عاد "سراج" من أميركا فعيَّنه مديرًا فنيًا لـ"غاليري الحواس الخمس"، وفي الغاليري ظهر "سعيد" كموظف تابع لا شخصيّة مستقلّة له، ليس له أيّ تأثير أو مبادرة أو عمل مميّز.
أمّا "كنان" ابن القبضاي، فكان يعمل على بسْطَة. أنقذه "سراج" من الشارع وعصاباته، وعيَّنه حارسًا لقصره، كان يقرأ بنَهَم في الأدب والسياسة والفكر والفلسفة. وقد ساعده "سراج" في اختيار الكتب وكيف يقرأ بفعاليّة، وكان يبادله الحديث في الثقافة والأدب. خلت سيرته من أيّ موقف ذي شأن.
الشخصية الثالثة "وداد" التي تحمل دبلوم ديكور، ثم أصبحت خبيرة طهي، تحكَّم بها أخواها بعد وفاة والدها، ثم أجبراها على ترك العمل خشية الاختلاط. هربت إلى أميركا، وعملت في الفنادق في مجال الطهي، وتزوَّجت من نيجيري يعمل في الفندق، وأنجَبَت منه، ثم تركته. تعرَّفت بـِ"سراج" في عمّان، واستضافته عندما هاجر إلى أميركا. عادت إلى عمّان، والتقاها "سراج" بعد عودته، فعيَّنها مديرة قصره، وقد كانت تقرأ وتحلِّل وعلى درجة عالية من الثقافة والوعي. بعد أن يئست من حب "سراج" والتقرُّب إليه، ارتبطت بعلاقة مع "كنان" الذي نصحه "سراج" أن يتزوّجها. ويلاحَظ أنَّ وداد كانت أسيرة الظروف، منقادة إليها، مبادرتها الوحيدة كانت في الهرب مع ما يحمله هذا الموقف من تبعات اجتماعيّة لا تغتفر.
وهكذا يتَّضح أنَّ الشخصيات الحياديّة هي نتاج ظروف أكبر منها، ولم تستطع مواجهتها، وربّما لم تحاول مقاومتها، ورضيَت أن تكون منقادة، ككرة تتقاذفها الأقدام.
وأخيرًا، فإنَّ التباين الكبير بين الشخصيات المثقَّفة هو نتيجة واقع معقَّد وظروف متغيِّرة ومصالح متصارعة، ومبادئ غير ثابتة، وطغيان الأنانيّة والقِيَم النفعيّة، فهناك الملتزم والانتهازي والوصولي والسلبي، والمخلص والخائن، وصاحب القرار والتابع، والثابت والمتقلِّب، وصاحب العزيمة والمتردِّد، والواضح والغامض. والمثقَّف -في النهاية- نتاج بيئته، ولا يكون مثقَّفا حقيقيًا إلّا إذا تمرّد على المألوف السائد، وسعى نحو الأصلح والأفضل لمجتمعه خاصة والإنسانيّة بشكل عام.
- - - - - - -
(1) صلاح بوسريف، وُجُـــوه "المثقَّف" أو ضرورة التفكير في المفهوم، موقع أنفاس: http://anfasse.org/e-cle/yxqr13972488/5462.html)