يوسف ضمرة
كاتب وأديب أردني
youaadam@gmail.com
حينَ جاء الاستعمار إلى بلادنا العربيّة وغيرها، كان مسلَّحًا بثورة صناعيّة، وبقوّة اقتصاديّة وعسكريّة لا قِبَل لنا بها. كان الهدف أساسًا نهْبَ الثَّروات لاستمرار دَوَران العجلة الصناعيّة، وفتح أسواق للمنتجات الصناعيّة الغربية. لكنَّ هذا الغرب كان من قبل يشتغل على مسارات عدّة، إلى أنْ حدثت القطيعة مع الكثلكة الأوروبيّة وبرز عصر النَّهضة.
كانت الفلسفة هي أم العلوم الإنسانيّة في الغرب، بينما أُحرق الفلاسفة العرب وآثارهم. وكلّما مرَّ الغرب بمنعطف خطير، يخرج علينا مفكِّرون وباحثون بنظريّات وأفكار جديدة. وما إن انتهت الحرب الكونيّة الثانية، حتى كان الغرب يحلِّق عاليًا في محاولاته المحمومة لفهم الحياة ومصائرها، دون أن ننسى أنَّ أصل هذه الفلسفات يعود إلى اجتهادات الإغريق والرومان.
كانت لدينا "ألف ليلة وليلة" على سبيل المثال، وقد حفظناها في خزائن دون "نفتالين". بينما الغرب هو مَن انتبه إليها قديمًا وحديثًا، وما يزال إلى اليوم يعتمدها مرجعًا رئيسًا لكثير من أعماله السَّرديّة.
ظلَّ العرب مهمَّشين ثقافيًّا، إلى أنْ شعروا أنَّ في استطاعتهم مقاومة المُستعمِر، وحينها فقط أخذت عجلة الثقافة العربيّة في الدوران، ملاحِقةً الثقافة الغربيّة، ومفسِّرة وشارحة وناقدة في أحيان قليلة. لكنَّ المُحبِط هو أنَّ الشُّعور بالدونيّة الثقافيّة أمام المستعمِر، ظلَّ قائمًا إلى اليوم. فالثقافة الغربيّة بالنسبة لنا كعرب ثقافة تلامس القداسة من حيث القيمة الفكريّة والفنيّة العالية. وقد بدا واضحًا لنا أنَّنا نعتاش فكريًّا على ما ينتجه الغرب، مع بعض المحاولات التحويريّة حينًا، والتفسيريّة حينًا آخر. إنَّنا نقرأ كل ما ينتجه الغرب مهيَّئين مسبقًا لما هو خارق ورفيع القيمة. ولا ننتبه إلى ما يفعله الغرب نفسه بإنتاجه حين يحطِّم أفكاره ويقصيها. وأضرب مثلًا الِّرواية الجديدة في فرنسا، التي سمِّيت "اللارواية" حينًا و"رواية الضدّ" حينًا آخر. فقد انشغل النقّاد العرب والكُتّاب عمومًا بهذه الكتابة، إلى أنْ أقرَّ الفرنسيّون أنفسهم أنها كتابة عقيمة لا قيمة لها، فانطفأت نجومها وعلى رأسهم "آلان روب غرييه"، وعادت "مارغريت دورا" إلى الواقعيّة في روايتها "عشيق الصين". وينطبق الأمر على الوجوديّة التي طبعت حياتنا الثقافيّة لعقدين على الأقل، دون أن ننسى اللامنتمي وما بعد اللامنتمي وما شابه ذلك. وحين اختلف الوجوديّون أنفسهم تبيَّن أنَّ الوجوديّة لا تصلح فلسفة حياة. وحين ظهرت البنيويّة، لم يبْقَ مفكر عربي إلا وانبهر بهذه المدرسة، وهي ليست أكثر من تقسيم العالم إلى ثنائيّات ضديّة موجودة منذ فجر التاريخ، ولعلَّ كِتاب "مورفولوجيا الحكاية الشعبيّة" لـِ"فلاديمير بروب" كان المرجع الرَّئيس للبنيويّة، دون أن ننسى الألسنيّة لاحقًا. ثم طلع علينا "جاك دريدا" بالتفكيكيّة، وهي أقل الأفكار -لئلا أقول الفلسفات- التي لاقت رواجًا في الغرب، والسبب هو أنها تفكِّك العقل الغربي المركزي وتؤكد ميتافيزيقيّته. وهو يذكِّرنا بعالم الاجتماع الشهير "ماكس فيبر" الذي قال في ما قال إنَّ الموسيقى في الغرب متأصِّلة وطارئة على الشعوب الأخرى. لكنَّ أهم ما يمكن استخلاصه من هذه العجالة، هو أنَّ الأفكار الغربيّة والثقافة الغربيّة عمومًا، تسعى دائمًا إلى إعلاء قيمة العقل الغربي ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وهي لا تترك للعرب فرصة التفكير الجاد في التكوين المجتمعي للغرب نفسه؛ أو لنقل إنَّ العرب المأخوذين بتفوُّق الثقافة الغربيّة هم مَن لا يرغبون أو لا يقدرون على تفكيك هذه الأفكار وتفنيدها. والأمثلة لا تُعدُّ ولا تُحصى، إلى أن طالت الفنون كلّها، بحيث أصبحت الرواية الغربيّة هي المعيار، وأصبحنا نسمّي جوائزنا حتى بأسماء جوائز الغرب. إنَّنا بهذه الطريقة سنظلّ أسرى هذه الثقافة الغربيّة، ما لم نكن قادرين على مواجهة هذه الثقافة وتفكيكها وتفنيدها وإنتاج ثقافتنا المستندة إلى تاريخِنا وقِيَمِنا.