د. يوسف ربابعة
حين نتحدَّث عن أهميّة الثقافة، فإنَّ هناك مَن يتَّهمنا بأنَّنا نصرف أنظارنا نحو الهامش والكماليّات، فأقصى ما يسعى له الإنسان العربي، خاصة في هذا الوقت، هو البحث عن الطعام والشراب والصحة والتعليم والمسكن والملبس بوصفها حاجات أساسيّة للحياة، وهي التي تحظى بالاهتمام من كل الطبقات الاجتماعيّة على اختلاف مستوياتها، ويتحدَّث عنها أصحاب القرار والشعوب والسلطات والأنظمة، وتبدو هي مكمن الشرعيّة التي تقوم عليها السطات عند توفيرها أو نقصانها، وربّما يذهب المحلِّلون للاعتقاد أنَّ النقص في توفير الأساسيات سيؤدّي لاندلاع ثورات ضدّ الأنظمة والسلطات الحاكمة.
إنَّ تلك الفرضيّات والمقولات لا تخلو من الصحة والوجاهة في الطرح، لكنّنا من جهة أخرى نغفل دور العامل الروحي في استقرار الإنسان وتقبُّله للواقع، فقد تكون قضايا الفقر ونقص الخدمات عاملًا مهمًّا في فقدان السيطرة وضياع القوانين، لكنَّها ليست العامل الوحيد في التحليل، إذ من الممكن أن نجد مرادفات تسند النقص المادي لدى الإنسان تتمثَّل في الجانب الروحي، وهنا أجد نفسي مدفوعًا للقول: إنَّ الثقافة قد تكون أحد هذه العوامل الحاسمة في المعادلة.
حين نتحدَّث عن الثقافة فإنَّ الذهن ينصرف عادة للأدب والشعر والفن، وذلك ضمن مفهوم ضيِّق قد تطوَّر عبْر الزمن وأجمع المفكرون والباحثون على أنَّ ذلك التعريف يعتريه النقص من جهات كثيرة، وأنَّ الثقافة -عند الغالبيّة- تمثِّل نمط الحياة التي يعيشها الإنسان، فهي خطيرة، ونقصها أو تشويهها قد يكون أكثر خطورة من نقص الأساسيّات التي يحيا بها الإنسان أو التي تقيم أوْده، يقول "تيري إيغلتن" في كتابه (الثقافة): "بالرّغم أنه من النادر أن يجري التأكيد على الجوانب السلبيّة للثقافة، لكنها يمكن أن تكون أمرًا أشدّ خطورة بكثير ممّا نعتقد، وهي أشدّ خطورة ممّا يدرك الناس، ومع ذلك فثمّة مَن ما يزال يفكر بالثقافة بمفردات تخص باخ وبيتهوفن فحسب"، بل ويذهب "إيغلتن" لأبعد من ذلك، فيرى أنَّ الثقافة من أكثر المفاهيم تعقيدًا، فهي تراكم من العمل الفنّي والذهني، وهي الصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني، كما أنها تمثل القيم والعادات والمعتقدات والممارسات الرمزيّة التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة، وكذلك هي الطريقة الكليّة المعتمدة في الحياة.
إنَّ كثيرًا من المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا، أو المرشَّحة لأن تعاني منها في المستقبل، تنبع من تصوُّراتنا لمفهوم الثقافة، وتعاملنا معها بوصفها صفات مميّزة لطبقة من الكُتّاب والأدباء والشعراء، بل النَّظر إليها بوصفها ترفًا فكريًّا يتحصَّل عليه الفرد بعد تأمين احتياجاته الأساسيّة. وذلك باعتقادي نوع من التَّضليل الذي يُمارَس ضدّ المجتمعات ويصرفها عن الاهتمام بالجانب الروحي الذي لا يقل أهميّة عن الجانب المادي، وليست الثقافة أقل أهميّة من الطعام والشراب والصحة والتعليم والمسكن، لأنَّ كل تلك الحاجات تحتاج إلى تدابير لتحويلها من حالة غريزيّة إلى حالة جماليّة. فقد يمتلك المجتمع موارد كثيرة للطعام لكنّه لا يستطيع التعامل معها بقيمة ثقافيّة، فتصبح تلك الموارد غير ذات قيمة. وقد يخفِّف الفرد من الإصابة بالمرض، ويحافظ على صحّته بمزيد من الأساليب الحياتيّة التي تحدِّدها ثقافته. ولا يكون التعليم نافعًا حتى لو أنفقنا عليه أموالًا طائلة ما لم يكن مرتبطًا بثيمات ثقافيّة وقيم إنسانيّة خاصة. وكذلك فإنّنا ننفق أموالًا لا يُستهان بها على بناء المساكن، لكنّها تبقى باردة، ولا تملك شكلًا جماليًّا متميِّزًا، لأنَّ الاعتبار الأساس في بنائها لم يكن مبنيًّا على معايير ثقافيّة تتناسب مع المكان والسّياق.
هناك مقولة على لسان السيد المسيح تقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، وقياسًا على ذلك يمكننا القول إنَّ الإنسان لا يحيا دون ثقافة.