مفلح العدوان
روائي وكاتب أردني
ثلاثون عامًا على رحيل غالب هلسا، وما زال إبداعه حاضرًا كأنه بيننا الآن، ذلك أنَّ عمق التجربة الإبداعيّة لدى هلسا ذات أثر حقيقي إبداعي تحقَّق عربيًّا، ولامس الفضاءات الإنسانيّة بكل تجلِّيات الكتابة على أبهى صورها، وبتنوُّع موضوعاتها.
هُوَ روائيٌّ راسخ، وقاص مبدع، ومترجم متمرِّس، ومفكِّر جدلي، وناقد لمّاح، هو مثقف شمولي؛ ولذا استحقَّ هذا التقدير والحضور عربيًّا وليس فقط في إطار الجغرافية المحليّة، إذْ إنَّ ترحاله بين العواصم العربيّة شكّل شخصيّته الإبداعيّة، وكرَّس حضوره في غير بلد كأنّه جزء من تلك الجغرافيات والمجتمعات، في مصر والعراق وسوريا وبيروت، ولم يكن عابرًا على تلك الأمكنة، بل كان متفاعلًا مع ساحاتها الثقافيّة والإبداعيّة والسياسيّة النضاليّة، كأنّه بذلك يكسر الحدود المصطنعة، ويلغي تلك الحواجز المتبقِّية من إرث الاستعمار، بإصراره أنه جزء من هذا الشعب العربي الواحد مع الهمّ الإنساني الواحد حتى وإنْ تعدَّدَت الجغرافيات.
ولعلَّ غالب هلسا صاحب المفارقة ليس بإبداعه فقط، بل هو أيضًا بغيابه يحمل مفارقة قدريّة، حيث توفي ووُلد في التاريخ ذاته (18 كانون الأوَّل)، وكان الميلاد عام 1932 في ماعين، بينما الوفاة عام 1989م في دمشق، وبين البدء والخاتمة كان ترحاله الذي ما توقَّف، وكانت سيرته التي ضمَّن جزءًا كبيرًا منها في فصول رواياته وكتاباته، وقد كان صادقًا في إبداعه، واعيًا لمعمار منتجه الكتابي، إذْ إنَّه نَسَجَ كثيرًا من تفاصيل رواياته وقصصه من تجاربه الخاصة ومن مواقفه التي شكَّلت نهج حياته، فاستحقَّ أن يكون واحدًا من أهمّ الرِّوائيين العرب إبداعًا وجرأةً حين وضع فصولًا من حياته في أعماله الأدبيّة، وهي قلَّما تكون لدى غيره من حيث الصدقيّة في الكتابة، فهو يقول: "إنَّ رواياتي وقصصي كلها تحمل عناصر حادّة من السيرة الذاتيّة، فلا يوجد عمل قصصي أو روائي ليس له أصول في حياتي الخاصّة، وأصدقائي يعرفون هذا... وعلى هذا أستطيع القول إنَّني أكثر كُتّاب الرِّواية العربيّة تعبيرًا عن الحياة الخاصّة".
***
يأتي هذا الملفّ عن المبدع والمفكر الكبير، بكل ما تعني كلمة كبير من معنى، كأحد مخرجات الندوة التذكاريّة التي أقامها المركز الثقافي الملكي يوم الأربعاء 18-12-2019، ضمن برنامجه الثقافي "قامات"، في الذكرى الثلاثين لرحيل الأديب والمفكر غالب هلسا، في محاولة لاستذكار جوانب مختلفة من إبداعه، وبمشاركة مبدعين وأصدقاء كانوا على تماس مباشر معه، إنْ كان في مجال متابعته كمبدع، أو القرب الإنساني من حيث معرفتهم به عن قرب، واشتباكهم مع تفاصيل من حياته وتجاربه، ليقدِّموا شهادة حيّة تجعل من الكتابة عنه فعلًا نابضًا بشواهد وقصص وحكايات واستحضار ما احتجب عنه، حيث يُعاين الأستاذ الناقد فخري صالح الجانب الرِّوائي من سيرة غالب هلسا الإبداعيّة، بينما يتتبَّع الرِّوائي إلياس فركوح ما كتبه هلسا من إبداعات في القصة القصيرة، وتُلقي الناقدة الدكتورة سلوى العمد الضوء على تفاصيل من اشتباك غالب هلسا مع بيروت التي كان مقيمًا فيها حين كان اجتياح العدو الصهيوني لها في العام 1982م، ويقدِّم الأستاذ نزيه أبو نضال جوانب من شخصيّة غالب حين كان معه، في القاهرة وفي دمشق، بينما الرِّوائي العربي السوري خيري الذهبي، فكان مروره الإنساني النّابض من خلال صداقته وقربه من غالب هلسا في دمشق، مع توقُّف استعادي للَّحظات الأخيرة من حياة هلسا قبل أن يغيب، بينما تأتي ورقة المفكر الدكتور موفق محادين حول الجانب الفكري والترجمات والدراسات التي قدَّمها غالب هلسا للمكتبة العربيّة، مع إضاءات على منابع ثقافة غالب هلسا، وكيف تأثَّر بها، وكانت واضحة في مسيرته الفكريّة، وفي كتاباته، وفي كثير من مفاصل حياته النضاليّة والإبداعيّة.
رحم الله المبدع والمفكر غالب هلسا، هو الحاضر دائمًا حتى في غيابه، ذلك أنّه قدَّم للمكتبة العربيّة الكثير في مجالات الإبداع المختلفة، وفي الدراسات الفكريّة والترجمة، وربَّما تحتاج إلى كثير من البحث والدراسة، مع مسؤوليّة المؤسَّسات في الأردن تجاه توفير جميع كتاباته ورواياته ليبقى هذا المبدع الكبير بمُنتَجِه الإبداعيّ حاضرًا بين يديّ القرّاء والباحثين الأردنيين والعرب، وتبقى كتاباته منارة واعية ومبدعة تهتدي بها الأجيال القادمة.