إلياس فركوح
روائي وقاص أردني
في كلِّ قراءة جديدة أجريها لقصص غالب هلسا ضمن مجموعتيه "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" و"زنوج وبدو وفلّاحون"، بين القراءة الواحدة والأخرى تمرُّ سنوات، أجدني وقد خرجتُ بقَلَقٍ ما، لا يُفْصِحُ مباشرةً لي عن سؤاله كاملًا، أو على نحوٍ أدقّ سؤالي أنا، والماثل في: أهذه قصص قصيرة تنتمي لكتابة هذا الفنّ السردي في تلك المرحلة، عند أعلامها العرب، وفي مقدمتهم يوسف إدريس، مثلًا؟ أم أنَّ ثمّة ما هو مغايرٌ يُكْتَب هنا، يستدعي منّي، للإجابة عن سؤالي، استعادة ما قرأتُ ومحاولة إيجاد الجواب عبر أفعال المقارنة.
يَرْتَكِزُ المُغايرُ الذي استوقفني في قصص المجموعتين على ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: امتداد الشريط السردي وطوله على نحوٍ لافت، في أكثر من قصة يُفترَض أنها "قصيرة"، إلى جِوار قصصٍ قصيرة فعلًا، إنْ في عدد صفحاتها، أو في عدم مبارحتها بؤرةً واحدةً تعمل الكتابة على تكثيفها والإيجاز في مدلولها. ففي مجموعة "وديع والقديسة ميلادة وآخرون"، الحاوية لخمس قصص، نجدُ أنّ قصة "البَشْعَة" كانت الأطول نسبيًا، بينما احتلّت "وديع والقديسة..." في الكتاب حيّزًا يتجاوز مجموع حيّز القصص الثلاث الأخرى، وهي: "الغريب"، و"عيد ميلاد"، و"العودة".
وكذلك هو الأمر في مجموعة "زنوج وبدو وفلّاحون"، الضامّة بين غلافيها أربع قصص، حيث تتَّسم ثلاث قصص منها بقدر وافر غير مألوف من التوسعة على صعيد الاندياحات في كُلِّ من المكان، ليتفرّع إلى أمكنة، والتعاقُب أو التوازي في الأزمنة، ما يحيلنا إلى/ على تعدُّد الشخصيات وكشف التناقضات بينها. ومُجْمَل ما سبق يقودُ النصَّ لأن يُكْتَب برؤية تراجيدية تدعو للتوقف، تتضمنُ ضربًا من ضروب "الصراع" ينبغي حسمه. وهذا، في ظّني، خِلافَ القصة القصيرة المألوفة. إنّ ما أُشير إليه أكثر من واضح في القصص التالية: "زنوج وبدو وفلاّحون"، و"امرأة وحيدة"، و"الهذيان"، بينما جاءت قصة "الخوف" في عدد صفحات أقلّ وحُصرت في مكانين محدودين (مع ملاحظة أنّ شخصية المرأة المخذولة في قصة "الخوف"، هي نفسها المستباحة المفضوحة في قصة "امرأة وحيدة"، وهذه نقطة يجدر التنبّه لها في سياق ربط النصوص بعضها ببعضٍ لتنضفرَ بما يحاذي "المتوالية القصصية"، في أحد ملامحها).
الملاحظة الثانية: بُنيَت تلك القصص ذات الشريط السردي الممتد الطويل، بالسِمات التي وردَت آنفًا، وفق "تقطيعات مشهديّة" غايتها الانتقال من حالةٍ إلى أخرى، بما يعنيه ذلك من انتقال للشخصيات وبينها، والأمكنة، والزمن. ولقد اتخذَ كُلُّ مقطع لنفسه إمّا عنوانًا يُكّثفه ويُميّزه، كما في قصة "زنوج وبدو وفلّاحون"، حيث بلغَ ثمانية عناوين قُدِّمَت بوصفها "فصولًا"!(1) وكذلك نجد أرقامًا وعناوين عددها أربعة في قصة "امرأة وحيدة"(2)، وأيضًا في قصة "الهذيان" التي تتابعت عبر خمسة عناوين بأرقام(3)، ثم تُضْفَر قصة "الخوف" في سبع حركات مُرَقَّمَة! أو نراها، كسابقتها، وقد انتظمَت عبرَ خمسة أرقام متوالية، كما في قصة "وديع والقديسة ميلادة وآخرون".
***
من المألوف أنَّ يتحوّل الزمن المرصود داخل مكانه، في القصة القصيرة والرواية (في السرد عمومًا)، إلى أزمنة تتوالى متقدمةً أو متراجعة أو متداخلة، وأمكنة متعددة وبشخصيات تُضاف وبأخرى تعاود الظهور، كُلُّ هذا من خلال الضمير الأوّل الذي ينشغل بذاكرته، تنقيبًا واستعادة، وذلك عبر حالات التداعي، أو ما باتَ تقليدًا متداولًا باسم "المونولوج"!
الذات تحاورُ العالمَ وتحاور نفسها على وَقْع "تحفيزات" تأتيها من خارجها؛ فتستجيب فاردةً حكاياتها الصغيرة... وخيباتها... وأحلامها. وإني إذ أقول "أحلامها" أقصدُ أحلام اليقظة تحديدًا؛ لأنَّ هذه من الثيمات الأساسية التي بنى عليها، ومن خلالها، غالب هلسا القصص التالية في مجموعتيه: "الغريب"، و"عيد ميلاد"، و"العودة"! وإنها لقصصٍ تبدو "ناشزة" عن سواها ممّا كتب، ذات الشريط السردي الممتد الطويل. وتتصف هذه "الاستثناءات" الثلاثة بتجلّي العالم عبر موشور الذات الكاتبة، المرتبكة، المأزومة، بمعنىً ما، والمصطدمة، غالبًا، بما يُحبط الآمال ويؤكد الخواء ويبعث الخيبة! فالعلاقات مع الآخرين تتلبسها الظنون، والحبّ يكاد يكون واهيًا كالسراب، واحتمال التعرُّض للمهانة هاجسٌ ملازم، والمرأة في الواقع عند الاقتراب منها "أقلّ" بكثير مما هي في التمنّي وتدعو للنكوص، ولا تعود الحياة لتوازنها داخل الشخصية إلّا بعد النجاح في كتابة قصة!
كأنَّه غالب هلسا يستنطقُ منطقةً فيه كـ"مغترب" لا يتحقق "معناه الفاعل" سوى بالكتابة! نجد هذا في قصة "العودة"؛ إذ حين يكتب وينشر قصةً جديدة، يندفع ليهاتف المرأة التي نكصَ عنها وأهملها، يطلب منها أن تقرأها منشورة ويرجو لقاءها... فلا يكون منها إلّا أن "تقطع" خط المحادثة لينتهي التواصل! فيرتدّ بدوره لائذًا بشقته حيث "الأمان"! دائمًا ما نجد إحساسًا بعدم الوثوق لدى الشخصية المكرّرة في قصصه القصيرة، عدم الوثوق بمن حوله، وعدم الوثوق حتّى بنفسه، وثمّة ما هو "ناقص" ومتخلخل ومفقود: "...وأدركَ بوعيٍ قاس مؤلم أنه من المستحيل عليه الآن أن يؤجِّلَ أي شيء. اتخاذ قرار بالنسبة لموقفه السياسي... الزواج... الروايات التي كان يعتزم كتابتها واكتفى بتخطيطات عامة لها..."(4)، كأنّي أرى في هذا مراجعةً يجريها غالب هلسا لحياته هو حين بلغ الأربعين، في قصة "عيد ميلاد"، كما أراه يرسمُ صورةً تجسيميّة له في القصة نفسها: "...وفجأة تراءت له صورته كما تراها الفتاة. رجل عريض الكتفين... كبير الرأس... وخط الشيبُ شعره... ثقيل الملامح... وقد بدأ التغضّن يغزو وجهه".
ما أريد الوصول إليه؛ التفريق بين طبيعة القصة القصيرة التي كتبها غالب هلسا، المُشار إليها قبل سطور (إضافة إلى "الغريب")، وتلك المتَّسمة بشريط السرد الممتد الطويل الذي يضطرّني لأن أرى فيها خروجًا منه نحو كتابة أخرى: نحو كتابة قصة طويلة ليست "قصيرة"، كما في "البشعة" و"الخوف" و"الهذيان" و"امرأة وحيدة"، أو نحو رواية قصيرة (نوفيلا) تتمثّل في النصّ/ الكُتلة في أكمل عناصرها وأنضجها عند قراءتنا لـ"زنوج وبدو وفلاّحون" أوّلًا، ثم في تجربته المبكرة الأسبق "وديع والقديسة ميلادة وآخرون"! (كان في العشرين من عمره عندما كتبها!).
بين هاتين الروايتين القصيرتين اللتين أراهما تقعان في منطقة جنس الـ(نوفيلا) من جهة، والقصص القصيرة، والأخرى الطويلة من جهة أخرى، ثمّة اختلاف أساسيّ وتأسيسي في الوقت نفسه. في الروايتين القصيرتين تختفي الذات الكاتبة عن النصّ بوصفها مشاركة في الأحداث، أو تنبع الأحداث منها، وتتكثّف في رؤيتها للمَشاهد كاتبةً لها وراصدةً لتحولاتها بـ"حِيادٍ وموضوعية"، وإنما باستعراضٍ واعٍ يؤدي إلى تسجيلِ رأيٍ ورؤية، وبالتالي إلى تحديد موقف من العالم. عالمٌ قيد الفهم، واضحٌ وبَيِّنٌ وليس من شواشٍ يتلبَّسه. عالمٌ ممسوكٌ لا تخلخله الهواجس، أو تعتريه الظنون. عالمٌ ماديٌّ يملكُ قِوامًا، ويمكن لنا أن نعاينه تاريخًا يتسلسل بتعاقب يُعْقَل، وتحولاتٍ ليست بحاجةٍ إلى تأويلٍ ومحاججة.
هنا الذات تكتب سِواها، فضاءً مفتوحًا يتحرك في خارجٍ موضوعيٍّ يملك حضورًا يراه الجميع. أي: الذات ترصدُ موضوعها بمعزلٍ عنها. هنا الذات تَكتبُ ولا تُكْتَب!
أما في النصوص القصصية الأخرى؛ فإنَّ الذات، حالَ انطلاق الكتابة منها وعنها؛ سرعان ما يتداخلُ الالتباسُ بالوثوق، الظلالُ بالأصول، التأويلُ بالتصريح، الحيرةُ باليقين، التقلقل بالرسوخ، والأسئلةُ تطفو فوق أيّ إجابات. أي: الذات تتخذ من نفسها موضوعًا للتأمُّل والمكاشفة. هنا الذاتُ تُكْتَب!
إذا أجزتُ لنفسي اجتهادًا يقول إنَّ غالب هلسا كان يؤسسُ لنفسه، وبنفسه، اجتراحاته الخاصّة في كتابة السرد القصصي القصير والطويل/ والنوفيللي/ والروائي الملتبس بالسِيَري، مبكرًا جدًا، وخارج مألوف السرد العربي عمومًا؛ فإني لا أكتفي بتوثيق تواريخ الكتابة وتأجيل نشرها سنوات: فهو نفسه صرَّح على نحوٍ مباشر في حواره مع يوسف ضمرة عام 1987: "إنني أخجل من التعبير عن نفسي بوضوح، والأغلب أنَّ هذا هو السبب في أنني لم أنشر "وديع..." إلّا بعد تسعة عشر عامًا، و"الضحك" إلّا بعد عشر سنوات. هناك تجاوزٌ للمألوف كان يُخجلني على الدوام، أكتب وأُخفي ما أكتب، إلى أن جاءت ظروف جعلتني أنشر هذه الأعمال".
إنَّ تصريحًا كهذا، يصدر عن مبدعٍ متميّز واعٍ للكتابة ومسالكها، يدرك كُنه ما يكتب، ويعرف قيمته في تجديده وخروجاته؛ لأمرٌ يبدو غريبًا تمامًا في مرحلتنا الحالية اليوم، حيث تتلاحق الروايات وتتوالد من الكاتب الواحد وكأنها في سباقِ مسافات قصيرة مع الزمن! أو هي أشبه بقذفٍ جاء إثر ابتلاعٍ لطعامٍ نيء لم يُمْضَغ جيدًا.. فلم يُهْضَم أبدًا!
أهو الخَجَلُ وقد افتقدناه ضمن ما فقدنا وأضعنا؟
***
أختمُ باقتطاعٍ من دراسة معمّقة لقصص غالب هلسا، كتبها د.فيصل درّاج، رأى أنه:
"كان يستحقّ أكثر ممّا استحقّه، حداثيًّا بلا إعلان، طليعيًّا صامتًا، مبدعًا بلا ادّعاء، كاتبًا متعدِّدًا بلا ضجيج، مسكونًا بالجديد واستنطاق الغُفْل القريب من الصمت. كان يحملُ خجلَه وفضولَه ويبتعدُ عن الآخرين، ليكتبَ بطريقةٍ تختلف عن طرائقهم".
عمّـان
17/12/2019
• الهوامش:
(1) الفصل الأول: "جون باجوت كلوب"، الثاني: "الورّادون"، الثالث: "النساء والليل"، الرابع: "الزنوج"، الخامس: "طافش يتحدث عن الفلاح الذي دنت منيّته"، السادس: "سحلول يقوم بزيارة في منتصف الليل"، السابع: "رحلة العودة"، الثامن: "إشتي وزيدي".
(2) 1: "ستهم"، 2: "الساكنة الجديدة"، 3: "الحب بجنون"، 4: "العشاء الأخير".
(3) 1: "شقة فاخرة"، 2: "الليلة الثالثة"، 3: "فيفي في البار"، 4: "العاشق المهجور"، 5: "خيانة زوجية".
(4) نُشِرَت أوّل رواية له، "الضحك"، عام 1970، بينما كُتبت عام 1960، وفقًا لتصريحٍ له في حوار أجراه معه يوسف ضمرة. كما الجدير بملاحظة أنّ مجموعة "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" قد نُشرت عام 1969 إلّا أنها كُتبت عام 1957. أما مجموعة "زنوج وبدو وفلاّحون" فلقد كُتبت عام 1957، ونُشرت عام 1976!