د. عبدالرحيم مراشدة
ناقد وأكاديمي أردني
كَما لَوْ في مقام الحيرة أراني، ذلك أنَّني بين نصوصيّات مختلفة، أعني ما يحتضنه كتاب "الغابة والأشجار" للدكتور غسان عبدالخالق، حيث الكثافة والاختزال والاقتصاد اللغوي، في كل نص، وفي الوقت نفسه رحابة وغزارة في المعرفة، والموضوعات، والتفاصيل، وليست أيّ موضوعات، وقد يصعب التَّجنيس أمام الثراء المعرفي والنوعي.
عِنْدَما يقع المرء على هكذا نصوص في مدوّنة رحبة استغرقت نيفًا وأربعمائة صفحة، وتتوزَّع فيها خطابات نصيّة متنوعة، يجمعها خيط جيني لافت، هو الفكر والأدب، وقد جرى تصنيفها وتقسيمها عبر الفصول الأربعة التالية:
1- السلم المكسور- مقاربات نقديّة في الشعر.
2- يُحكى أنَّ- مقاربات في السَّرد.
3- المسطرة المفقودة- مقاربات نقديّة في النقد.
4- حدائق الدَّهشة- مقاربات نقديّة في الفنّ.
إنَّ هذه العنوانات/ العتباتيّة تتَّسم بصيغ تتبطّن فيها شعريّة لافتة، تعطي فعلًا جاذبًا للتلقي، وتستدعي التأمُّل والتفكير، وتُحيل إلى مفاتيح مهمّة، تشكِّل قوى عمل للنصوص المضمرة في ما ورائيّاتها، حيث لكل نص قوى عمل تسهم في استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه، بتعبير "جاك دريدا"، وهذا يمكن أن يقود القارئين إلى أفكار تتلاقى وتتلاقح عبر النص المقروء، وتسهم في مقاربات ومعالجات للنصوص، حيث يوجد، بالمعنى النقدي الحديث ثلاث أفكار: فكر المؤلف، وفكر منشئ النص، وفكر المتلقي للنص.
قلتُ قبل قليل إنَّني في مقام الحيرة، كيف يمكن إجراء مقاربة على المقاربة؟ وكيف يمكن تناول مدوّنة فيها هذا الثراء في فسحة وَرَقيّة من الوقت، تقل أو تزيد قليلًا. هذه المدوّنة، من وجهة نظري على الأقل، مؤتلفة مختلفة في آن، وجماليّاتها تكمن في هذا المنحى، شكليًّا تتناول: (الشعر، السرد، والفن، والنقد) وموضوعاتها تتوزَّع في هذه المسارات، لرؤى يبثها صاحب الكتاب/ المدوّنة عبر فكرِه، ويقدِّم من خلالها وجهات نظر متعددة، تأسيسًا لخطاب النص واستراتيجيّاته.
لن أخفي متعتي التي خلتها أوليّة وأنا أقرأ المدوّنة، لكن سرعان ما أصبحت متمكّنة، ومضيتُ في القراءة تحت سلطتين اثنتين: سلطة الخطاب وفكر النص، من جهة، وسلطة المتعة من جهة أخرى، المتعة التي تتوالد عبر مسارات القراءة الفاحصة والكاشفة، وأعني تلك التي تتوالد في الذات أثناء عبور النص، بمفهوم "رولان بارت" في كتابه (لذة النص)، هذه المتعة التي تتسرَّب من الحروف والكلمات والأفكار، وكما تحسَّسها د.غسان نفسُه في الصدى الذي تسرَّب لقارئ يومي، أو عارض لقصصه، أثناء حديثه في ما يشبه الشهادة والسيرة في متن المدوّنة، وهذه القصة كانت مع بدايات كتابة القصة لشاب في العشرينيات، أو أقل بقليل، وها هو يرى الآن أنّ الفعل الإبداعي الكتابي للقصة هو "فعل اختيار تام، والكتابة فعل اضطرار تام، وفعل مضاد"(ص186)، هذا يشي بفكر يعي الذات ويعي الحياة والكون والعالم.
يقول غسان: "كتبتُ قصصًا قصيرة عرضتُ بعضها على الأستاذ محمد ضمرة، مدير مدرسة هاني بن مسعود... فنصحني بالصَّبر وإعادة المحاولة، فصبرتُ... وأعدتُ كتابة إحداها، وعنونتها بـِ(الكسحاء) لأنها كانت تحكي قصة فتاة كسحاء"(ص186)، ونشرت هذه القصة في صحيفة صوت الشعب، ويضيف: "فما كان من جارنا الذي تقاعد حديثًا، وافتتح دكانًا إلّا أن استدعاني على جناح السرعة، كي يتأكد ممّا إذا كان هو المقصود بالعنوان أم لا، إذ أنّ الكسحة في التعبير المتداول بين العامة تعني الإقحام"(ص186)، ويتابع: ثم نشرت نصًا بعنوان (المتشرخ) للصحيفة نفسها "فما كان من الزملاء المؤدلجين في الجامعة إلا أن استدعوني على جناح السرعة لتأكيد قناعاتهم بأنَّ النص القصصي المنشور -وقد استخدمتُ فيه تقنية تيار الوعي- ينطوي على نَفَس ذاتي برجوازي واضح"(ص187). هاتان القصتان، وهذه الرؤية النقديّة الثاقبة، والوعي بتقنيات القص الحديث كانت في ذهن صاحب المدوّنة، منذ محاولاته الكتابيّة الأولى وممارسته لفعل الإبداع، وهذا يتَّضح، ويتنامى في المرحلة الجامعيّة، في جامعة اليرموك، كما يُستشفّ من حديثه في المقالة، هاتان القصتان ذكَّرتاني بمسار قصة أخرى كتبها محمود شقير في مجموعته القصصيّة التي تحمل العنوان: (صورة شاكيرا) حيث استدعت إحدى الشخصيّات في القصة، وهي امرأة فلاحة في القرية مَن تظنه كاتب القصة، بعد نشرها في الصحيفة في فلسطين وقد علمت بذلك من صاحب الدكان، وهذا ما جاء على لسان شخصيّة الراوي في القصة، ظنًّا منها أنه يُشهِّر بابنتها (شكريّة) ويحوِّلها إلى راقصة ومغنِّية...إلخ.
أعود للقول: إنَّ تصنيفي لهذا العمل/ المدوّنة يبقى محمل جدل، وقد يكون إشكاليًّا لبعض القارئين، القارئ الاحتفالي والضمني، على حدّ تعبير د.غسان، لكني أميل فعلًا إلى ما قاله، وإلى وصف العمل بأنه (غابة أشجار) لما فيه من التنويع والتلوين، والاختلاف والإتلاف، وقضيّة مهمّة أخرى لا بدّ أن تُدرَك من هذه العتبة، إذ تحيل إلى مفهوم نقدي عميق وهو: إدراك الكل من الجزء، وأهميّة الجزء من الكل، فالنظرة الشموليّة للأشياء غير النَّظر لشيء أو لجزء من الشيء، لكنَّ المدوّنة يحتضنها الوعي، على الرّغم من وجود مجمل أجناس وأطياف أدبيّة وإبداعيّة، فهي تخفي انتظامًا ما يربطها، أو لنقُل بالمفهوم النقدي الاصطلاحي: يمكن أن تنطوي، حتى بفصولها الأربعة، على وحدة عضويّة متمكِّنة، لما فيها من مهيمنات نصيّة تتشكّل في داخلها، وتترابط في وعينا القرائي، وفي إحساسنا النقدي الكامن؛ إنها بوصفها نصوصًا، تنضوي في عباءة الأدب ونقد الأدب ونقد النقد، وبالتالي فهي منجم من المعرفة، إنْ جاز التعبير، وهي مجمل نصوص في نص يتمدَّد، وتمور تحته معارف وأفكار قيِّمة، هي نتاج العمر الإبداعي المتراكم سابقًا قبل وجود هذه المدوّنة، وما زال هذا النتاج يشي بإنتاج قادم، وهذا العمل هو النص، بمفهوم النص وعلم النص، كما يرد عند (جوليا كريستيفا)، أو كما أشار إليه سيد بحراوي في كتابه علم النص، أو لنقل بحسب (جيرار جينيت)، في كلامه على النصوص التي نحار في تصنيفها، بأنها تدخل في منظومة (جامع النص) بحسب كتابه (مدخل لجامع النص).
لا يمكن أن يُقال، إجناسيًّا، عن هذه المدوّنة بأنها شعر، أو قصة، أو مسرح، أو نقد... إلخ، هي هذا وذاك، وما يمكن أن يُفكر فيه وتتفتّح عليه من أجناس ذابت فيه. لقد أحسن صنعًا، منشئ النص، عندما وسم الكتاب بالغابة والأشجار، حيث الظلال، والأفياء، والثمار، والعشب، والروائح الجميلة، والتفاصيل، والامتداد العميق.. كما التيه والضياع في عالم يتفتّح على عوالم جمّة، لهذا قلتُ: هذه المدوّنة هي بحق (منجم معرفة)، لما تحتضنه من نصوص واختيارات نصيّة واعية، والاختيار ضرب من النقد الحصيف.
يلفت الانتباه في هذه المدوّنة، إضافة لما ذكر، بعض النصوص التي تحيل إلى أفكار يسعى لها منشئ النص وتدعم خطاب النصوص المبثوثة فيها، ومن ذلك رسالة فكريّة، أيديولوجيّة، إبداعيّة خلاقة. أعتقد أنه يشاركني الرأي عندما أرى أنّ وجود نص واحد: قصة، أو رواية، أو شعر، أو خاطرة، أو لوحة فنيّة، أو مسرحيّة، لا يمكن أن يؤسِّس خطابًا شموليًّا كونيًّا، مهما حاول النص السعي إلى الاكتمال والشموليّة، فيبقى هناك مساحة للمفكر فيه تحتاج إلى الإتمام، وكيف تتم؟ ولا يمكن إلا أن يبقى اللّهاث خلف الطبقات المُرجأة والمؤجَّلة القابلة للحفر والقول، والمحاولة تستمرّ عبر الخلق والإبداع لنصوص أخرى، تصبُّ في اتِّجاه المعرفة لإتمام ما يمكن أن نراه ناقصًا باستمرار، ذلك أنَّ النص الأجمل والأوفى هو النص الذي لم ينكتب بعد.
من النصوص التي اخترتها، تمثيلًا: نص (نحن والقمر جيران يا آرمسترونج)، فمنذ العتبة الأولى بوصفه نصًّا موازيًا إلى جانب نصوص محايثة، ومهيمنات مذابة في النص، يقع المتلقي على مفارقة تتوالد ذهنيًّا بين الرجل الأوّل الذي حط على القمر، وبين الذي يفكر ويحلم بالقمر بوصفه بُعدًا جماليًا فقط، ويتغنّى له وبه. هذه العتبة وهذا النص يضمر في الميتا نص أفكارًا ناقدة، وواصفة، وخلاقة، فنجد النقد الفكري، والاجتماعي، والسياسي.
الخاطرة تقدم حكاية وقصة نزول (آرمسترونج) عام 1969 على القمر، وبالمقابل يستجلب النص أغنية فيروز الشهيرة (نحن والقمر جيران) ويقول الكاتب هنا في عتاب ساخر، وبسخرية سوداء، وهذا ما يتضمّنه العنوان كذلك: "آرمسترونج سامحه الله أثبت للعرب، على مرأى ومسمع من الجميع أنَّ القمر ليس إلّا صخرة بركانيّة قاحلة ووعرة، وتخلو من الأكسجين للتنفُّس، ونفترض الآن أنَّ العرب قبل ثلاثة وأربعين عامًا توجّب عليهم أن يقوموا بمراجعة مستفيضة لمفردة القمر... ما زال العرب عشاقًا وشعراء ومطربين أكثر الشعوب احتفاء بالقمر وتوظيفًا له في وصف الحبيب وفي وصف الوحدة"(ص169)، ثم يتابع باثًا رؤاه حول هذا العالم العالمي المتميز، وعبورًا للعالم الغربي قائلًا: "وحتى لا نظلم العرب فعلينا الإقرار بأنَّ الهبوط على القمر لم يقدِّم للمجتمعات البشريّة الفقيرة فائدة واحدة يمكن أن يُشار إليها بالبنان، فهو لم يضف شبرًا واحدًا يمكن زراعته، ولا جدولًا واحدًا يمكن الاستسقاء منه، ولا ذرة أكسجين... وقد قسم العالم إلى فسطاطين، لن يلتقيان إلى يوم الساعة. الأغنياء المتقدمين الذين يبعثرون المليارات في الفضاء لإشباع هوسهم المطلق بالتفوُّق وفسطاط الفقراء المتخلفين..."(ص369).
يتَّضح بجلاء هنا السخرية المريرة السوداء ممّا وصل إليه العالم، وتخلُّف العرب، ونظرة الغرب للعالم، والبون الشاسع بين العرب والغرب، معرفيًّا وعلميًّا... وفي الوقت نفسه يحاول أن يقدِّم نقدًا لاذعًا للعرب في وقتنا المعاصر، بأنَّ عليهم أنْ يعيدوا النَّظر في مرجعيّاتهم العلميّة والمعرفيّة، وفي سلوكهم المتراجع حضاريًّا للّحاق بركب الحضارة.
نموذج آخر مهمٌّ أحاول تقديمه الآن وهو بعنوان: (الغائب مجدَّدًا) وتتجلّى في هذا الاختيار اشتغالات الحسّ الأيديولوجي، الموجَّه إلى نقد الغرب والكيان الصهيوني كذلك، مقابل نقد العرب وسلوكيّاتهم تجاه القضايا المصيريّة، والحسّاسة، ويقدِّم لنا وجبة فكريّة مهمّة يتبيَّن منها كيف يقرأ الآخر بنية الفكر العربي، ويُجري الدراسات عليها، ويفيد من نقاط الضعف فيها، وها هو النص، نذكر منه: "يُقال إنَّ إسرائيل أجرَت استطلاعًا واسع النطاق لمعرفة أساسيّات الحقيقة التي دفعت بعشرات الملايين من المشاهدين على امتداد الوطن العربي إلى متابعة مسلسل (باب الحارة) في شهر رمضان المنصرم -المقالة منشورة عام 2008- إلى درجة أنَّ مظاهر الحياة كادت تختفي تمامًا في أحياء وشوارع بأكملها، بل هناك مَن أكّد في حينه، أن غير قليل من الاجتماعات الرسميّة قد قُدِّمت مواعيدها أو أُخِّرت"(ص373)، وقد خرج الكاتب بمعطيات من المسلسل يمكن إيجازها من وجهة نظره كما يلي:
- الحضور القوي للزعيم.
- البُعد الوطني والقومي البارز.
- كثافة الشؤون الاجتماعيّة.
- مجتمع الحريم، بشجونه وآماله.
ويرى صاحب الكتاب، في هذا المسلسل، التحوُّل باتِّجاه نسخة أخرى محدّثة من "ألف ليلة وليلة"، ويشير إلى السلبيّات والمآخذ القاتلة التي تصيب الفكر العربي في الصّميم ومن ذلك: إعلاء وتمجيد الثقافة الإنشائيّة، بخاصّة ثقافة مجتمع الحريم.
مثل هذا الإقبال -وهذا الرأي كذلك- يمكن أن ينطبق على غير مسلسل، حتى المسلسلات الوافدة والمترجمة والمدبلجة، مثل: (مسلسل نور) التركي، الذي يلتقي مع مسلسل (باب الحارة) من حيث الثيمات الأساسيّة المحركة للمسلسلين، في ما يتعلق بسياق الخطاب، والرسالة الموجَّهة، والمستخلصة منهما، وكأنّي بالكاتب هنا يحاول نقد (اللوغس المعرفي) للفكر العربي، ومنتجه، وما وصل إليه من ارتداد سلبي، للماضويّة والبُعد عن الواقع، والحضارة المعاصرة. يبدو هذا المسلسل وأيّ مسلسل على شاكلته يتّصف بالاتّجاه التخريبي، والمعيق للفكر، ويبدو نقد الثيمات الأساسيّة والفاعلة في غير مسلسل في هذا الاتجاه، كما لو دراسة تحاول الوقوف على بعض المكونات المتعلقة بالمسلسلات والنصوص المكتوبة في هذا الاتجاه، فرصد الثيمات هنا يقترب وإن بملامسة تختلف حينًا وتقترب حينًا، وبصفة مختزلة، ممّا فعله "بروب" في نقده لثيمات السرد القصصي، وإنْ اختلفت الرُّؤية، وكما حاول أدونيس في نقده للماضويّة في فكرنا العربي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وربّما غيره في دراسة العقل العربي وما يشوبه من سلبيّات في وقتنا المعاصر.
لم يكتفِ الكاتب بذلك، بل عاد إلى غير دراسة بحسب ما يتوضَّح في سياق النص المقالي السالف، الموجَّه للعقل العربي، وخموله وكسله عن التحوُّل الإيجابي، ففي قراءة عميقة أخرى يظهر من النص الانفصام والتناقض، ويتبيَّن عجز المدنيّة، والمدينة العربيّة، عن السَّيْر قدمًا مع الحداثة والمعاصرة، وها هو يختم بسؤال: "لماذا العرب لا يمتلكون الجرأة على مواجهة الحاضر بلحمه وشحمه، لماذا يستغرقون في نموذج الغائب؟"(ص374)، بمعنى؛ دائمًا يمجِّدون ويستجلبون انتصارات قديمة ورجالًا عظماء رحلوا وأحداثًا... ولم يتجرَّأ أحد على نقد الواقع نقدًا علميًّا مقنعًا ومفيدًا، ولهذا يبدو الاتِّجاه إلى قتل الأب بالمفهوم الفلسفي العميق مبرَّرًا، من بعض الجوانب لاستمراريّة الحركة والنهوض والتقدُّم.
• المقاربات النقديّة
- مقاربات في الشِّعر:
جاءت المقالة بعنوان (الشعر والشعراء في الأردن)، وقد تناول د.غسان الشِّعرَ تاريخيًّا، وأشار إلى طغيان الشعر على ما عداه، من الأجناس الأدبيّة، على النثر تحديدًا، وتحدَّث عن الشعر ما قبل الإسلام، والإسلامي والأموي والعباسي... أثار مسألة التحوُّلات في الشعر عبر الزمان والمكان، ومن ذلك الإشارة إلى البُعد المدني الذي يلفت الانتباه في العصر العباسي، ثم يشير إلى مسألة مهمّة هنا، راصدًا بحسب قوله: انفراط عقد المركزيّة العباسيّة، حيث تورَّط الشعر بالشكلانيّة (التوكيد على الشكل بالمفهوم الكلاسيكي) والتحذلق، واستمرار ذلك حتى القرن الثامن عشر، ويتابع وصولًا إلى عصر النهضة، وبعد ذلك حاول الحديث في المقالة على الشعر في الأردن، وانصبَّ أكثر الكلام على ما عُرف بقصيدة النثر، وحاول أن يبدي رأيًا خاصًّا به، من حيث الوقوف على إشكاليّة قصيدة النثر.
المشكل لديه لا يتعلق بقصيدة التفعيلة، وإنما بقصيدة النثر، وهذا ما يتطلب الاختيار بين أمرين:
- قصيدة النثر بالمعنى الذي أتت به (سوزان برنار) في كتابها الشهير: (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) ونشر عام 1959.
- قصيدة النثر بالمعنى الذي يمكن أن نقف عليها لدى النّفري، وكثير من رجال التصوُّف.
يميل د.غسان الناقد إلى الاعتقاد أنَّ الشعراء راحوا إلى الاختيار الأوّل كثيرًا، ريادةً وتقليدًا، حيث حاول غير شاعر أن يدّعي الرِّيادة مثلًا في الأردن، والسّبق، كما فعل آخرون خارج الأردن في هذه المسألة، مع أنَّ المشكلة حقيقةً أكبر من ذلك، وهذا الاختيار جلب عليهم الإغراق في الشكلانيّة، وانحطاط القصيدة الأم، مثل التوجُّه إلى الغموض، والرمز، وركوب الشاذ... وقد أشار إلى عرار (مصطفى وهبي التل)، وهذا يُحسب له أيضًا، في قراءته الواعية والثاقبة لهذا الشاعر، على أنه يمثل قنطرة تصل بين حركة الشعر الحديث في الأردن وغيره خارج الأردن. كما أشار بالطبع إلى الجيل الذي جاء بعد عرار وهم: إبراهيم طوقان، وعبدالرحيم محمود، وأبو سلمى وغيرهم، وصولًا إلى الشعراء المعاصرين في الأردن.
لعلَّ د.غسان يريد أن ينهض بالمستوى الشعري في الأردن، ويحيل إلى نقاط الضعف فيه، ولهذا يأتي بمقالة أخرى تشكِّل رؤية إشكاليّة، تصلح مثالًا مهمًّا للشعر، يفيد منها الشعراء في الأردن، وخارج الأردن، وأعني بها المقالة التي تناولت قصيدة لمحمود درويش: (عابرون في كلام عابر) التي تجسِّد فعل الأيديولوجيا الساخنة، إن جاز التعبير، والتي تستلهم روح العصر، وعدم التمسُّك بثوابت مسبقة، ولهذا أثارت القصيدة زوبعة وجدل بين الشعراء والنقاد، والمؤدلجين، حتى سماها د.غسان (القصيدة الدامية) التي استثارت -بحسب رأيه- الأعداء والأصدقاء.
- مقاربات في الرِّواية:
جاءت هذه المقاربات تحت عنوان (يُحكى أنَّ) وهذه الكلمات لها ما لها في تراثنا السردي، حيث تُحيل إلى نظام الصِّيَغ السرديّة الذي تمّ استجلابه من تقنيات القص والخبر والحكاية. يبدأ د.غسان الكلام على المشهد الروائي في الأردن، بالجملة المفتاحيّة المهمة التالية: "خلع الأردن عباءة القرون الوسيطة، بصدور رواية تيسير سبول (أنت منذ اليوم) عام 1968، ودخل عصر الرواية الحديثة"(ص97)، ويبدو السياق التاريخي مهمًّا هنا، بعد حرب حزيران بعام كما نعلم جميعًا. ويشير إلى وصف هذه الرواية بالملحمة، مع التحفُّظ قليلًا على هذه التسمية، وأعي ما في ذهنه، من أنها فعلًا تسِّجل التحوُّلات المهمّة للشعب الفلسطيني، وهذا ممكن، لكن باعتقادي المتواضع لا تصل لحدّ الملحمة بالمفهوم الفنّي الدقيق، لكن رواية (أنت منذ اليوم) تشكل نقطة فارقة، ومهمّة جدًا، في المشهد الروائي الأردني، وقد كان د.غسان واعيًا لمنتجها الفني، ويعي حضور التقنيات الحداثيّة فيها، ونسيجها الفنّي المحكم، وهذا بحق لم يكن قبل تيسير سبول، فشكَّلت الرواية انطلاقة مهمّة فعلًا في الرواية الأردنيّة، وقد جاء بعده غالب هلسا، الذي أكمل المشوار في تمكين القاعدة وأصبحت مثالًا يُحتذى، فكلاهما أعطى دفعة للرِّواية في الأردن لا يمكن تجاوزها ولا تجاوز الكلام عليها.
يرى صاحب "الغابة والأشجار" أنَّ الرواية "تشكّل الدخول إلى النص الجديد، وقد انطوت ضمنيًّا على خروج من النص القديم، خروج من كهوف الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية الساذجة، والبطولية، إلى فضاء العقل المتسائل والمتمرد على سلطة التاريخ، وسلطة النص الراهن"(ص97). ويشير بوضوح إلى انتكاسات لافتة أعقبت هذا الخروج الإيجابي، لتعود الرواية إلى التوهُّج من جديد مع جيل ما بعد الثمانينات والتسعينات، وذكر أسماء منها: صدور (الطريق إلى بلحارث) و(وقت) لجمال ناجي، وأعمال مؤنس الرزاز في (أحياء في البحر الميت) و(كاتم صوت) و(متاهة الأعراب في ناطحات السحاب) وما صدر لإبراهيم نصرالله ورمضان الرواشدة...
لقد عاد د.غسان إلى تأكيد ما ذهب إليه حول رواية (انت منذ اليوم) في مقالة أخرى، وهذا دليل على حرصه على أهميّة هذه المرجعيّات في التسجيل والتوثيق لتحوُّلات الرواية في الأردن، ومواكبتها للرواية العربية، في مقالة أخرى جاءت بعنوان: "هامش المفاجأة الروائيّة الآتية"(ص101)، وفيها يؤكد ما وجده ويجده القارئ من مغادرة المباشرة، والتقليدية، والسلسلة الهرمية المعتادة، لحركية الزمان والمكان والحدث، وما رآه من تهديم لبعض هذا التفكير الحكائي التقليدي، ولملاحظاته الإفادة من آداب أخرى، هذه الإفادة الوافدة، مثلًا، من مدرسة الرواية الجديدة، التي شاعت في الغرب على يد أعلام كبار من كتاب الرواية، وكيف استثمر سبول معطيات هذه الرواية الجديدة وراح يخترق الاعتيادي والسائد، ليس على مستوى الفنيّات والشكل، بل وعلى مستوى الذائقة الدارجة. لهذا يكتب صاحب "الغابة والاشجار" الرأي حول هذه الرِّواية وأهميتها. وهذا ما يؤكد عليه في مقالته: (بين التاريخي والروائي): "إنَّ هذا الانشداد للتاريخ قديمًا وحديثًا، ينقض التعميم الخاطئ الذي مؤدّاه الإقبال على الرواية التاريخية"(ص103)، وبالمناسبة لم يعُد الاحتفاء بالرواية المكتوبة تسجيليًّا للتاريخ مُقنعًا، إلّا إذا تضمَّنت تحويرات فنيّة مهمّة.
يبقى د.غسان، كما عهدناه، ناقدًا وكاتبًا ومبدعًا فذًّا، تمكَّن من الوقوف على كثير من المواقف المفصليّة والمهمّة، في الثقافة بعامّة، وفي الفكر والأدب، لا سيّما تلك التي تشكِّل جدلًا وبؤر توهُّج وتوقُّد، يجري عليها الخلاف، وحاول أن يدلي بدلوه فيها، ويتبيَّن كثيرًا من مواقع الخلل والمثالب، في أدبنا ونقدنا المعاصر، ويشكِّل -باعتقادي المتواضع- علامة فارقة في مسيرة الأدب والنقد في الأردن.