د. محمد المسعودي
أديب وناقد مغربي
تُطْلِعُنا رواية "حراس الهواء" منذ بدايتها على مستنقع السياسة والأوبئة والأمراض الناجمة عنه، وآثارها على شخصيّات عدَّة لجأت إلى السفارة الكَنديّة بدمشق طلبًا للُّجوء السياسي، والبُعد عن أتون الفساد والقمع والحروب العرقية والطائفية والإرهاب في دول مختلفة: أفريقية وآسيوية. ويسجَّل للروائيّة قدرة الرواية على الجمع بين بلاغة المأساة وبلاغة الملهاة التي تحوِّل القسوة والعنف والمعاناة إلى لحظات طريفة ترشح مفارقة وسخرية ساهمت في إبلاغ رؤى الكاتبة.
كذلك، تطلعنا رواية "حراس الهواء" على الواقع الاجتماعي والسياسي للبلد الذي تجري فيه أحداث الرواية: سوريا خلال تسعينات القرن العشرين، وذلك عن طريق تتبُّع حياة بطلة الرواية "عنات إسماعيل"، ومَن أحاط بها: الأب والأم والحبيب والصديقة وزميل العمل... وعبر هذا الرَّصد الدَّقيق لتفاصيل ما يحدث تتمكَّن الرِّواية من وضعنا في بؤرة ملهاة الإنسان السياسيّة، والجرم الأصل في مأساته الوجوديّة والحياتيّة.
فما تجلّيات حدود المأساة والملهاة في "حراس الهواء"؟ وكيف تشتغل هذه الثنائيّة الضديّة لتشكِّل بناء الرواية؟ وكيف تعمل الساردة من خلالها على تجلية الواقع السياسي العفن عبْر تشكيل متخيّل روائي دالّ وقادر على الإمساك بتفاصيل ما يحدث في السياسة الدوليّة من اضطرابات وتصوير هولها؟ وما تتخبَّط فيه السياسة المحليّة وتغرق فيه من مستنقعات دمويّة؟
من خلال هذه الأسئلة سنعمل على مقاربة رواية "حراس الهواء" لروزا ياسين حسن، وهي روايتها الثالثة بعد "أبنوس" الصادرة سنة 2004، و"نيغاتيف" الصادرة سنة 2008.
تُفتتح الرواية بمشاهد متعدِّدة تصوِّر معاناة "عنات إسماعيل" أثناء عملها في السفارة الكَندية الناجم عن تعاطفها الإنساني مع ما يحكيه اللاجئون لها من قصص دفعتهم إلى اللُّجوء والرَّغبة في الهروب بعيدًا عن مواطن الألم وبلاد القسوة والظلم، ويحاولون بوساطة هذه الحكايات إقناع المفوضيّة العليا للّاجئين بقبول أوراقهم، ومن ثم تمكينهم من الهجرة. وقد كانت مهمّة "عنات" أن تترجم ما يتحدَّثون به إلى زميلها الكَنَدي "جونثان جرين". وكان إصغاؤها المتفاني لِما يروونه، يدفعها إلى الانفعال الشديد والتعاطف اللامحدود مع مآسي هؤلاء. تقول الساردة:
"اطمأنَّ سالفا [كواكي]. استرخَت ملامحه وهمَّ بالجلوس.. فجأة لمَحَت عيناه السخّانة الكهربائيّة الصغيرة جانب المكتب التي سبق أن أبعدتُها بقدمي. انتَفَضَ واقفًا بشكل مُباغت، وهو يشير برُعب إليها، ثم انطلق هاربًا خارج الغرفة كالممسوس وهو يهمهم بكلمات غريبة.
الموقف كان مفاجئًا بالنِّسبة إليّ، بل صاعقًا. لكنه لم يبْدُ كذلك بالنِّسبة إلى جو. طوّح برأسه أسيانًا، ثم طلب من الحاجبة أن تقدِّم لسالفا شيئًا يشربه في الخارج، لربَّما هدَّأ ذلك من أعصابه. ثم صاح بعربيّة مضحكة:
- اللّي بَعْدو.
أمّا أنا، فهَمَسَ مقرِّبًا رأسه منّي:
They tortured him with an electric heater , similar to this one… Look
(عذَّبوه بسخّانة كهربائيّة مشابهة لهذه.. انظري.)
وبَسَطَ أمامي صورة فوتوغرافيّة كبيرة لجِذْع سالفا الأسوَد اللمّاع، وقد شعَّت عليه دائرة قرمزيّة مائلة للبنّي وسمَتْ كامل بطنه الضّامر، ونَفَرَتْ قليلًا منه.. إذًا هو الحرْق الذي لمحتُ طرفه حين وصلت. اجتاحني شعور الغثيان أشدّ ممّا كان. غدت الغرفة أضيق من قبر يضغط على صدري. العالم تحوَّل إلى غرفة للتعذيب! ليس غريبًا أن أفكِّر بالموت منذ الصباح ووضعي هذا أسوأ منه!!"(الرواية، ص21-22).
بهذه الصور الدقيقة تتمكَّن الساردة من نقل نتف من مأساة شخصيّات عابرة تمرُّ بها أثناء عملها، غير أنَّ تأثيرها على نفسيَّتها يكون له أثرٌ سلبيٌّ، وهي المرأة الحامل، التي لا تقلّ ظروفها سوءًا عن ظروف هؤلاء الراغبين في اللُّجوء. ويكشف المقتطف الذي وقفنا عنده عن ملهاة تتولَّد من مأساة، إنَّ حالة "سيلفا" وهو يفرُّ بعيدًا حينما رأى السخّان الكهربائي، وطلب جوناثان بعربيّته الغريبة أن يدخل طالب اللُّجوء التالي، يجعل المشهد لا يغرق في التَّركيز على المعاناة ومظاهر الألم، وإنَّما يكسر ثقل الواقع الذي يتمّ رصده، ويتطلّع إلى خلق نوع من السخرية التي تُنسي المُتلقّي قسوة وحِدَّة المَشاهد التي تسردها الرواية. ولعلَّ تركيز الساردة على تصوير عودة "سيلفا" إلى مكان المقابلة، وإطلالته الغريبة من الباب ليتأكَّد أنَّ السخّان الكهربائي لم يعُد بالغرفة وعدم ثقته وتردُّده على الرّغم من طمأنة "عنات" و"جوناثان" له، كان المُراد منه الجمْع بين لحظة مفارقة جمعت المأساة والملهاة في خط واحد لتشخيص مدى فظاعة ما يحصل في الحياة المعاصرة، ومدى ما يقاسيه مَن يُعذَّب في السجون أو في معتقلات الحروب الأهليّة.
وقد كان التركيز على شروخ النَّفس وآلامها، واستمرار الفزع والخوف مع المعذَّب من أهمّ ما جلته مثل هذه المَشاهد في الرواية. وقد وقفت الساردة، أيضًا، عند إحساسات بطلتها، وهي تتفاعل مع ما تسمعه أو تراه من صور. وبذلك تكشف عن تعاطفها الإنساني المُفرط مع ضحايا القمع والتعذيب في البلاد التي تشهد الحروب الطائفيّة وما شابهها.
غير أنَّ الرواية اعتنت بجوانب أخرى مهمّة ترتبط بالواقعين السياسي والاجتماعي في سوريا التسعينات، ووقفت عند مأساة وملهاة شخصيّات أخرى غير طالبي اللجوء السياسي، وهي شخصيات أساس في الرواية، لأنَّ مدار الأحداث يتمحور حول ما يقع لها، ويركِّز على تصوير معاناتها. إنَّ شخصيّات "عنات إسماعيل" وزوجها "جواد أبوعطا"، و"مياسة الشيخ" وزوجها "إياد الشالاتي" و"لمى الحاج" عشيقة "إياد"، و"ضحى الشيخ" أخت "مياسة" و"حسن إسماعيل" والد "عنات"... وغيرها من الشخصيّات الفاعلة في الأحداث القريبة من "عنات" تعيش مأساتها الخاصة الناجمة عن أوضاع اجتماعية وسياسية مختلّة. وهذا ما سنعمل على تجليته في ما سيلي من هذه القراءة.
ولعلَّ مأساة "مياسة الشيخ" كانت أكبر مأساة وقفت عندها الرواية، وجلَّت من خلالها حقيقة ما جرى في سوريا في فترة التسعينات من القرن الماضي، وما تعرَّض له بعض الشباب من قهر واضطهاد وقمع بسبب ممارساتهم السياسية ومواقفهم من بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسة. وما نجم عن ذلك من آثار نفسيّة سلبيّة، وما أصبحت تتميّز به العلاقات الاجتماعيّة من تفكُّك نتيجة هذه الظروف. فبعد اعتقال زوجها "إياد الشالاتي" ستعاني "مياسة" كثيرًا، وستسعى إلى أن تتقبَّل فكرة العيش وحيدة محرومة من العاطفة ومن دفء القرب الإنساني، ولم تفعل مثل أختها التي فضَّلت الانفصال وتزوَّجت من آخر متخلِّية عن حبيبها المعتقل. ولقد انعكست شروخ دامية في نفس "مياسة"، جعلتها تدخل تجربة جديدة غيَّرت نمط حياتها إلى درجة عدم قدرتها على الاحتفاظ بوهج حبِّها لـِ"إياد" وفقده -بعد خروجه من السجن والتئام شملهما- وتخلّيها عنه لعشيقته "لمى الحاج" بسبب هواجس أصابتها وبسبب اتِّباعها عادات جديدة وخوفها المَرَضي من الإصابة بالسرطان.
وحين تُمعن الساردة في تصوير وساوس "مياسة" ومخاوفها المُبالغ فيها من الإصابة بالمرض، واتِّباعها تعاليم ما يطلق عليه علم "المايكروبيوتك" في ممارسة الحياة، تقف الرواية عند حدَّي المأساة والملهاة، لأنَّ "إياد" سيضيق بهذه الحياة الجديدة؛ وتكون سببًا من أسباب الانشقاق بينه وبين زوجته، ومن ثم بحثه عن فضاء آخر وجسد آخر يشعرانه بنوع من الاطمئنان، ويسعفانه على تقبُّل حياة ما بعد السجن بمعاناتها وحرمانها الطويلين.
هكذا كان تركيز الساردة على هذين النموذجين من النماذج الاجتماعية التي انكوت بالقمع والتسلُّط والقهر إلى درجة تصدُّع العلاقة وانشطارها؛ مثلًا لطبيعة السلطة وفعلها المدمِّر للأفراد والأسر والعائلات. وقد كان أوَّل الشُّروخ التي تعرَّضت له "مياسة" قطيعتها مع أختها "ضحى" بعدما آثرت الانفصال عن خطيبها وارتباطها بزوج آخر غني، ثم جاء الشَّرخ الثاني حينما لم تتمكَّن من تقديم الحب لـ"إياد" وعجزها عن ممارسة حياة سليمة في البيت الذي جمعهما. ولكن الرواية لا تمعن، في رصد مأساة "مياسة" و"إياد" حسب، وإنَّما تقف عند لوامع ملهاة تتمثَّل في المفارقة والسخرية التي تتولَّد من بعض سلوكات "مياسة" وهي تمارس طقوس حياتها الخاضعة لقوائم علم "المايكروبيوتك"، كما تقف عند حماقات "لمى الحاج" وبعض سلوكاتها المضحكة، وبذلك تخفِّف الرواية من وقر المأساة وشدَّة أثرها على الشخصيّات.
وبهذه الكيفيّة كانت المأساة الأسريّة التي عاشها "إياد" و"مياسة" جزءًا من مأساة اجتماعيّة أعمّ عانت منها كل شخصيّات الرواية، ولا تسلم "عنات" من آثارها. ولـِ"عَنات" مأساتها الخاصة أيضًا، فهي لم تكن قد ارتبطت رسميًّا بـِ"جواد أبوعطا"، لهذا كانت تنتحل صفة أخته حتى تتمكّن من زيارته ورؤيته في السجن، وحتى تتمكّن من حمل ما تُعدُّه له أمّها من طعام، وحتى تحصل على رسائل حبّه وبوحه بما يمرّ به من محنة وعذاب في المعتقل. غير أنَّ "عنات" بشخصيّتها المُحبّة استطاعت أن تحتفظ بجواد إلى حين، إلى أن ضاق بها وبه الوطن، وأحسَّت أنَّ الهجرة بعيدًا قد تكون حلًّا، ولكنها كانت تصرُّ على البقاء على الرّغم من كل شيء، بينما قرَّر جواد السفر بعيدًا عمّا يذكِّره بالجحيم الذي عاشه في الاعتقال، مُبديًا رغبته في التحاق "عنات" به إلى منفاه الاختياري. يقول "جواد" في الرسالة التي تركها لـ"عنات" يوم سفره:
"...عنات أنا لا أريد أنْ أعيشَ أيّامًا شبيهة بسني الخمس عشرة هناك في الجحيم. ولا أريد أنْ أعيشَها وأنا معكِ أيضًا. كل ما كان حولي يدفعني بشراسة إلى هذا. البحث عن وظيفة، رغبتي بعمل أحبُّه، ضيقي الشديد من عدم قدرتي على جعلكِ ترتاحين بعد كل هذا العمر. حتى مصروفي الشخصي مرَّت أشهر وأنا أضطرّ إلى أخذه منكِ.. وأنتِ تحاصرينني بكلِّك عنات، تحاصرينني بانتظارِك، بتعبِك، بروحك التوّاقة إلى الجمال المُفتَقَد، بأمومة مجنونة قفزت فجأة إلى سطح غرائزك. وكنتُ أتحطّم رويدًا رويدًا حبيبتي... وأنتِ لا تدرين ما الذي حصل داخلي. على الرّغم من كل ما حصل، فأنا ما زلتُ أنتظر عمرنا القادم. وسأكونُ هناك بانتظارك. وأنا متأكد تمامًا من أنَّ الزَّمن لن يطول كي تلحقي بي، وأنا بانتظارك دومًا"(الرواية، ص268).
من خلال هذه الرِّسالة نكتشف مدى معاناة "جواد"، ورغبته في التخلُّص من المآزق التي يعيشها بحكم كوْنه معتقلًا سياسيًّا سابقًا لا يجد له وظيفة ولا عملًا يحبّه، ولا يتمكّن من إسعاد محبوبته وحمل بعض العبء عنها، وهي التي وقفت إلى جانبه طوال سنوات اعتقاله. وهكذا تعبِّر هذه الرسالة عن انكساره الداخلي، وشروخه الروحيّة التي دفعته إلى التفكير في الهجرة واللُّجوء مثله مثل طالبي اللُّجوء من البلاد الأخرى الذين كانت تترجِم "عنات" قصصهم والويلات التي تعرَّضوا لها. وفي الآن نفسه تبيِّن هذه الرسالة رغبة "جواد" في استئناف حياة جديدة وعمر جديد مع زوجته وأم جنينه "عنات"، ولذلك يصرُّ في رسالته على قوله إنه سينتظرها، وسيظل ينتظرها حتى تلتحق به.
وبهذه الكيفيّة تطلعنا هذه الرسالة على مأساة "جواد" و"عنات"، وملهاتهما الناجمة عن طول الأمل ومخاتلة الواقع وملاعبة أعبائه الثقيلة الناتجة عن سياسة محليّة تقوم على اضطهاد المواطن وتضييق الخناق عليه، وحصاره وقتْل كل رغبة في الحياة لديه إلى حدّ لا يجد معه من حلّ سوى الفرار أو الموت. وهو الوضع نفسه لمواطنين آخرين من بلاد غير مستقرّة تشهد مآسي الحروب والصراعات الطائفيّة والعرقيّة.
ومن هذا الأفق الذي جمع بين معاناة شخصيّات سوريّة، وأخرى من بلاد أفريقيّة وآسيويّة (السودان، العراق... وغيرهما) تقف الرواية عند مآسي الإنسان المعاصر الذي يعاني من أشكال مختلفة من أساليب الاضطهاد والقمع والتعذيب والتنكيل في زمن يتشدّق إلى حدّ مبالغ فيه بحقوق الإنسان وبالديموقراطية، وما شابه ذلك من "جعاجيع" وترهات لا تجد لها تطبيقًا ملموسًا على أرض الواقع. وبهذه الكيفيّة تنخرط الرواية في كشف أمراض السياسة وأوبئتها الناجمة عن خلل واضح في القيم والممارسات المتبعة لدى الساسة في تدبير شؤون البلاد والعباد. وقد كان جمع الرواية بين بلاغة المأساة وتصوير القسوة والمعاناة التي يعاني منها معتقلو الرأي والمثقفون، وبلاغة الملهاة التي تحوِّل القسوة والعنف والمعاناة إلى لحظات طريفة ترشح مفارقة وسخرية موفَّقة في إبلاغ رؤى الكاتبة وموقفها ممّا يقع الآن وهنا. وعبْر هذا الأفق الفنّي استطاعت الروائيّة بناء نص يتمتّع بحيويّة سرديّة كبيرة، وبقدرة كبيرة على تجلية ما يتخبَّط فيه العالم من أوحال السياسة وأدرانها.
- - - - - - - - -
(*) روزا ياسين حسن، حراس الهواء، الكوكب (رياض الريس للكتب والنشر)، بيروت، 2009.