د. محمد الديهاجي
شاعر وناقد أكاديمي من المغرب
لأنَّ محمد آدم، رائد الحداثة الشعريّة في مصر، خلال مرحلة السبعينات، وما يزال إلى يومنا هذا، اخترنا الإقامة في "حداثة الكتابة" عنده. حداثة الكتابة، ها هنا، بوصفها تجاوزًا لما سماه الشاعر صلاح بوسريف "حداثة القصيدة". وليس من شك أنَّ "حداثة الكتابة"، عند هذا الشاعر، قد جعلته يعبُر "قصيدة الطلل"، المتهندمة بلبوس جديد؛ ليُقيم في الشعر، في بعده الكوني والإنساني.
في مصر، شاءت الظروف السياسيّة، خلال مرحلة السبعينات، المتمثلة في موت المشروع القومي، واعتراف أنور السادات بالكيان الصهيوني، أن تغيِّر مجرى النهر الشعري، بالتمرُّد على قيم ونظم القصيدتين، العموديّة والتفعيليّة. ولعلَّ من أهم شعراء هذه المرحلة، نذكر حسن طلب، وأمجد ريان، وحلمي سالم، ورفعت سلام، وجمال القصاص، وعبدالمنعم رمضان، وعريس هذا الاقتراب، البهيّ محمد آدم.
وجدير بالذكر أنَّ هذا الجيل، قد أبدى إصرارًا كبيرًا، على الذهاب بالشعر العربي، إلى أقصى تخومه، ومضايقه، دون هوادة أو مساومة. هو جيل قد يبدو مغاليًا في تجريبيّته أحيانًا، لكنه كان شغوفًا بتحرير الشعر إلّا من شعريّته.
• محمد آدم والإقامة في الشعر
لأنَّ محمد آدم، رائد الحداثة الشعريّة في مصر، خلال مرحلة السبعينات، وما يزال إلى يومنا هذا، اخترنا الإقامة في "حداثة الكتابة" عنده. حداثة الكتابة، ها هنا، بوصفها تجاوزًا لما سماه الشاعر صلاح بوسريف "حداثة القصيدة"(1).
وليس من شك أنَّ "حداثة الكتابة"، عند هذا الشاعر، قد جعلته يعبر "قصيدة الطلل"، المتهندمة بلبوس جديد؛ ليُقيم في الشعر، في بعده الكوني والإنساني. محمد آدم شاعر مشاء، لا بالمعنى الفلسفي، وإنما بالمعنى الدياكروني/ الزمني؛ أو لنقل إنه شاعر جانوسي، بكل معاني العبارة (نسبة إلى جانوس إله الأبواب والنوافذ في الأسطورة الإغريقيّة). أبوابه دائمة المواربة، وأفقه الكتابي مخاتل، ويتَّسع لكل التوالجات الفنيّة، ومشترطاتها من خطوط الطول والعرض على بياض الانشراح.
ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن، أن تُتقن السير فوق حبل الزمن الشعري، متحسِّسًا تصادي وتداني الحساسيات، ومنصتًا، في الوقت نفسه، لهسيس صوتك الخاص، في زمن تتصاعد فيه جلبة المتشاعرين، وتتكاثر إلى الحد الذي يصعب معه التمييز بين الغثّ والسمين.
وليست مسألة يسيرة، أن تكون شاعرًا، لا بانتمائك الأجيالي، وإنَّما بوجودك المختلف، وصوتك المائز. وحده الشاعر الجدير بهذه الصفة، يستطيع ذلك. ومحمد آدم، واحدٌ من هؤلاء؛ وهم بالمناسبة يشكلون، في مصر، قلة لا تتجاوز أصابع اليدين على أكثر تقدير. محمد آدم ظلَّ ينظر، دائمًا، إلى الشعر باعتباره نطًّا، وتوثُّبًا، وتدفُّقًا أبديًّا نحو الشمس، كأقيانوس، ذلك النهر العظيم الحاوي لسر المكنونات.
والحق أنَّ هذا الشاعر، لا يعبأ في رؤياه، سوى بما تُطوّح به اليدُ الكاتبة، في تخوم شعريّة مصابة بالتّكوْثر (العبارة للفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن). شعريّة لا تنتصر سوى للشعري، مبنىً ومعنىً. لذلك، وأنت تعبر أرخبيلات الكتابة لديه، ينتابك إحساس بمدى قدرة هذا الرجل الفائقة على شعرنة الأحداث، بكثير من الشيطنة الفنيّة، تلك التي تحافظ على المسافة بين الكائن والممكن، بين الحدث والنص.
وغير خافٍ أنَّ شاعرًا من هذا الصنف، يُصبح "رسولًا سبّاقًا رائيًا... هو الخالق للسنن والنظم والمفاهيم... ويغدو الالتزام كهرباء الهوس الروحي الذي يكوكب طريقة الحرية، لمدِّ طريق فوق الطريقة، ولبناء عالم فوق العالم، بالمتخطي الأبدي الذي بهرته رؤيا الفردوس المنتظر"(2).
إنَّ وعي الشاعر محمد آدم بالشرط الجمالي للنص الشعري، جعله ينفك، مبكرًا، من شرنقة الشرط الأيديولوجي. هو وعي يسّر له، ما تيسّر من الكتابة خارج العرف والنمط، ومن خارج الرؤيا المعطاة مسبقًا، في علاقتها بالأشياء والعالم والوجود ككل. لقد بدا لي، محمد آدم، في ما قرأته له، شاعرًا تجريبيًّا حتى النخاع، كما سنوضح بعد قليل. وإنَّ تجريبيّته لتمتدّ إلى آخر أشواطها. وهي بذلك صيرورة لَبَّتْ نداء التحولات المطروحة في الطريق، بفرح شديد. حفاوة النداء، هذا، كرَّس شرطًا كتابيًّا، عند هذا الرجل، يضع الكلام في مواجهة نفسه، على مستوى خبرة النص، ما جعل الدال الشعري ينشرح، أو لنقل "لا يتكلم أثناء الكتابة"(3)، لأنَّ الكتابة تنشط ضدّ الكلام.
إنَّ الكتابة، بحسب المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي " تنبني في الاختلاف مع الكلام، وذلك بالقدر الذي يحتّم عليها ألّا تقلّده مطلقًا، ولا أن تستنسخه طبق الأصل، بل بالأحرى، الكتابة تغيّر الكلام. وبتغيّره وتحويره، تُجمِّل اللغة. إنها، وبالأخص الكتابة الشعريّة، تتوفر على أعلى طموح، أي تحقيق التماهي التام بين الكلمة والشيء، بين الشيء وإيقاع الجسد. حينئذ تنبثق أنشودة الفكر"(4). وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع، فيما سيأتي من التحليل.
وقمين بالإشارة، إلى أنَّ مقاربتنا لتجربة هذا الشاعر، انطلاقًا من أعماله الكاملة، بأجزائها الخمسة، ستكون مقاربة تأويليّة- نسقيّة، تستنطق بعض الأنساق المضادة لسلطة المركزي، على مستوى الخطاب، فنيًّا وقيميًّا. ويكفي أن أشير هنا، إلى أنَّ محمد آدم، ما فتئ، طيلة مساره الشعري، يُقوّض سُمك الخطابات المركزيّة وسلطتها، لفائدة كل ما هو هامشي ومنحرف. وهي تجربة، تبدو مشبعة بأفكار فلسفة الاختلاف. تجربة ديدنها التفكيك، والعماء، والكارثيّة (روني طوم)، والانتصار للفوضى ضدّ النظام (الكاوس)، والصدفويّة، والعبث الكافكاوي. وإنَّ الفوضى، في مقام شاعرنا، ما هي إلا فوضى خلّاقة.
• حداثةٌ أم حفر في أرض المآزق؟
- خبرة النص:
حين تبنّى محمد آدم، قصيدة النثر، كخيار جمالي، في الكتابة، فلأنه كان قد اقتنع بها أوَّلًا، كضرورة وجوديّة. لهذا السبب كان الفيلسوف الألماني "هايدغر"، يُلحُّ دائمًا، في فهمه وتأويله لهرمينوطيقا النص الشعري، على ضرورة النظر إليه، لا باعتباره خبرة جماليّة، وإنَّما بوصفه خبرة أوليّة، قبل أن يكون جماليّة؛ ذلك أنَّ هذه الأخيرة، في نظره، "هي العنصر الذي يموت فيه الفن"(5).
هذا الكلام، لا يلغي البتّة، مباحث الخبرة الجماليّة، بالنسبة لـِ"هايدغر"، بل إنه أراد فقط "أن يُعدّل من فهمنا لها: بمعنى أنه لا يريدنا أن نفهم العمل الفني ابتداءً من الخبرة الذاتيّة القبليّة والإحساسات الجماليّة، سواء كانت خبرة متذوِّق أو مبدع، وإنَّما يريدنا أن نفهم الخبرة ابتداءً من العمل الفني"(6). والعمل الفني "إنما يمثل نفسه في وجوده الخاص"(7)، بحسب "هايدغر" دائمًا.
خبرة النص، عند محمد آدم، تطرحُ نفسها، بما هي نصٌّ بلوري، متعدد الأضلاع، وحدسٌ بما هي مقبلة عليه، من برنامج نصي، مختلف تمامًا، عمّا درجت عليه عادة القصيدة. لنتقدَّم قليلًا.
1 - من حداثة الشفاهة إلى حداثة الكتابة:
نُخمِّنُ أنَّ فعل الكتابة، في تجربة محمد آدم الشعريّة، يزاول الرسم، بتعبير أدونيس، بارتعاش كبير، ولا يعبأ سوى بالصفحة، بوصفها منشفة تخفّف من غلواء وهذر الصوت، ذاك "النسم الحيّ"(8)، وتُرفد المكتوب بالصمت الناطق. وعلينا، في هذه الدراسة، أن نقرأ هذا الصمت، الملبّد في خيمياء المكتوب، بوصفه "استراتيجيّة نصيّة"، تقترح علينا أشكالًا كتابيّة جديدة، لعلَّ من أهمّها، "النص القُبّرة" أو الومضة، تلك التي تُرغم اليد الكاتبة، على أن تنحاز للمهبّ، وأن تخوض صفحتها بارتياب وشك كبيرين. اليد التي ترافق حركة القلم وتراقبها، في فتوق المعنى، رتْقا تارة، وفتْقا تارة أخرى. فيما اللغة، في مثل هذا الوضع، فإنها تلج "ليل المعنى"(9)، منصتة لنداء الوجود؛ أليست اللغة نعمة "من أخطر النعم"؟(10)
ويمكن القول إنَّ إضمامات الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة لمحمد آدم، تندرج جلّها، في عمليّة المراهنة على الاقتصاد اللغوي، بما يضمن انشراح الصفحة، وارتقاء البياض إلى مصاف الدوال الرئيسة، ليقول ما لا ينقال. وسنعطي مثالًا لذلك، من خلال نص (مزامير بالية)، إذ يستغرق المكتوب حيِّزًا صغيرًا، في أعلى الصفحة، تاركًا للبياض إمكانيّة أن يلج "ليل المعنى"، بكل جلاله. يقول الشاعر:
هل كان يتعيَّن عليّ أنْ أقطَعَ اللّيل بالغناء بينما مزاميري بالية؟
حنجرتي لا تعرف كيف تخيط اللغة بحقيقة اللغة
يا لصباحاتك الغاوية
ويا لفجرك الظميء
لوصمي؟(11)
المُلاحَظ، من خلال هذا النموذج، أنَّ الشاعر اكتفى بخمسة أسطر شعريّة، وضعها في أعلى الصفحة، تاركًا للبياض والصَّمت، فرصة قول ما لديهما. فحنجرة الشاعر لم تعُد تعرف كيف تخيط اللغة بحقيقتها. لذا كان عليها أن تستعين، بالانزياح، والخرق، والعدول، والإيحاء، ما جعل المعنى يلج الليل، والليل يلج المعنى.
هيئةُ النص، هذه، تكرَّرت بشكل لافت، في جلّ إضمامات الجزء الثاني من الأعمال الكاملة للشاعر؛ حتى إنَّها أصبحت تشكِّل جماليّة خاصة، في البرنامج النصي، لدى محمد آدم.
وفي نص "الإشارات"، من الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة، دائمًا، يعطي الشاعر تعريفاته الخاصة، لمجموعة من الأشياء الكبيرة والصغيرة، في الحياة والوجود، وذلك بنوع من التفلسف بالمطرقة (التعبير لنيتشه) أحيانًا، وبنوع من الحدس العرفاني الصوفي أحيانًا أخرى.
والمتأمِّل لهذا النص، سيجد فيه، تقاطعًا بديعًا مع رسالة الشيخ الأكبر ابن عربي الموسومة بـِ"لا يعوّل عليه". يقول الشاعر مثلًا:
- الوجد: همّ بالليل
و....
ذلّ النهار
الفيض: بوح العين والخروج من كل عين
القلب: آفة التحوُّل
ومرآة العاشق إذ يرى
الصمت: استمرار الوهم
والتشبُّث بأرض التحوُّلات
العشق: أوار لا يخمد
ونار لا تنطفئ
وصمت..
دائم التحوُّلات(12).
من خلال ما سلف، يتبيَّن أنَّ فعل الكتابة، عند هذا الشاعر، محكوم بما لا ينتهي. فعل منفتح باستمرار، على كينونته/ وضعه غير المكرور. وهو بذلك لا يمتثل لأيّ نموذج ثابت أو قار، متفاديًا، ما أمكن، أن يقع في فخ النص- النسخة، لأنه -فعل الكتابة- فعلًا "نص- أصل"(13)، بتعبير أدونيس.
2- الشِّعر ضدّ الشِّعر بالسَّرد:
نتصوَّر أنَّ الحديث، اليوم، عن فكرة نقاء النوع الأدبي وطهرانيّته، في ظلِّ الهُجنة التي أصابت، ليس مجرَّد الظواهر الأدبيّة حسب، وإنَّما شتى مناحي الحياة، قد أصبح ضربًا من الماضي. فالأكيد أنَّنا نسير اليوم، أدبيًّا، على غرار الإنسان، نحو أحاديّة النوع؛ ذلك أن التداخل الأجناسي، في مجال الأدب، على عكس ما كان مذاعًا في نظريّة الأنواع الأدبيّة سابقًا، أضحى يشوِّش، بقدر غير يسير من التعتيم، على الحدود المنتصبة بين الشعر والنثر.
لقد أصبح الشعر والنثر (السرد)، يتوالجان بشكل لافت، بحيث لم يعُد المبدع ولا القارئ، يعبأ بالتصنيفات القديمة، بقدر ما صار ينشغل بانفراط شديد، بخبرة النص أو العمل، لدرجة أنه، بهذه الآثام التصنيفيّة، أخذ يشوش على العلاقة المفترضة، في الميثاق الذي يجمع بينه والقارئ، وذلك بزرعه لعبارات تجنيسيّة جديدة، من مثيل، "نص" أو "نصوص"، بحيث أنها تحوّلت بسرعة فائقة، إلى علامة ملازمة لجلّ العناوين المثبتة على أغلفة الكتب الإبداعيّة. وبذلك تحوّلت معظم الأعمال الإبداعيّة، إلى أعمال يلج، فيها، النثر الشعر، والشعر النثر، كما يلج الليل النهار، والنهار الليل.
وغير خافٍ أنَّ السَّرد، كما يُقرُّ بذلك معظم الدارسين، فعلٌ ينسل إلى كل الخطابات البشرية، عالمةً كانتْ أم شفهيّة، يقول "رولان بارث": "فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة -شفوية كانت أم مكتوبة- والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم من هذه المواد. والسرد حاضر في الأسطورة وفي الحكاية الخرافيّة، وفي الحكاية على لسان الحيوانات، وفي الخرافة وفي الأقصوصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والبانتوميم، واللوحة المرسومة، وفي النقش على الزجاج وفي السينما الكومكس، والخبر الصحافي التافه، وفي المحادثة، وفضلًا عن ذلك فإنَّ السرد بأشكاله اللانهائيّة تقريبًا حاضر في كل الأزمنة وفي كل المجتمعات. فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون سرد"(14)؛ بل عطفًا على ما جاء في كلام "بارث"، يمكن أن نردِّد ما قاله "بول ريكور"(15)، بأنَّ السرد هو الوسيط الفعلي بين الذات ووجودها.
وبذلك نخلص، مع "دينيس فارسي" إلى "أنه نادرًا ما وضع مصطلح في كل الصلصات كما هو الحال بالنسبة إلى مصطلح سردي"(16).
وبالعودة إلى الشعر، في الحالة التي يكون فيها مستقبلًا لا وافدًا، يرى د.جمال بوطيب، أنَّ الحوار الذي قد ينشأ بين الشعر (المستقبل)، والسرد (الوافد)، قد تأجّج بشكل لافت، مع صعود مؤشر "قصيدة النثر"، وارتفاعه، في العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أنّ هذه القصيدة، يمكنها "أن تحكي وبطول نفس"(17).
طيِّب. هنا نتساءل، ارتباطًا بموضوعنا الأساس، ما هي آليّات اشتغال الكفاءة السرديّة عند الشاعر محمد آدم؟
وجبت الإشارة أوّلًا، إلى أنَّ أولى تمظهرات المكوّن السردي، في أعمال محمد آدم، هو الوضع الطباعي لجلّ نصوصه. وهو وضع يُحفز، ما سميناه في مناسبة سابقة "شعريّة الامتلاء"، أي ذاك الشكل الممتد، الذي يوهم القارئ (وقد يغلطه ويخدعه)، ليعتقد بأنه أمام نص سردي بامتياز؛ لأنّ الجمل المستعملة، هي جمل مسترخية، وذات تراكيب بسيطة، تُيسِّر عملية سرد الأحداث ووصف المشاهد، بفرحٍ نادر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقرأ في إحدى قصائده:
وداعًا للكلمات التي أحبُّها بعمق
للموسيقى التي تمشي على قدمين حافيتين وتنام على العشب في ساعة الظهيرة
للزمن الذي يركض على قارعة الطريق ولا يتوقف إلا أمام بوّابة مقبرة
للحياة التي تقف على بوّابة فجر ولا تستنشق إلا رائحة المستشفيات
وغرف العناية المركّزة(18).
ومن العلامات السرديّة البارزة، كذلك، في منجز هذا الشاعر، خصوصًا في الجزء الثاني من أعماله الكاملة، بالإضافة إلى شعريّة "الامتلاء"، المشار إليها منذ حين، كونه ظلَّ حريصًا على تثبيت، عند رأس كل نص/ مقطع، عبارة (فصل...)، على غرار عادة الرواية، بوصفها خطابًا سرديًّا، تنتظم بنيته الحدثيّة، في فصول. ولعلَّ هذا الإثم (الإثم في الإبداع فضيلة)، يشكل خدعة سرديّة ضافية، تفضح نيّة الشاعر، في حرصه على أن ينكتب سردًا؛ وكذا وعده الواثق، بكسر الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر.
إنَّ القائم بالسرد، في هذه التجربة الشعريّة المائزة والماتعة معًا، تجربة محمد آدم أقصد، يلفي نفسه، عند كل مرَّة، أمام اختيارات وإمكانات عديدة في السَّرد. ومن جملة هذه الاختيارات، مثلا، اختياره الموت ومرفقاته، باعتباره ظاهرة فنيّة وأنطولوجيّة، مادةً حكائيّة ثرّة؛ منها يستقي أفعاله السرديّة، التي ستنتظم في إطار سلاسل، يشُدّها رباط زمني خفي. أليس الموت نفسه سردًا، على حدّ قول د.جمال بوطيب(19)؛ فالجثة، تارة "تحكي [صامتة] حياة جسدها"(20)، والجسد "مخرسًا يروي قصة حياته"(21)، تارة أخرى.
باللغة، إذن، يحكي القائم بالسرد، في مجموعة من نصوص هذا الشاعر، موته؛ لأنَّ اللغة "ليست جزءًا من الإنسان، بل هي أفق استطاعته (وعجزه كذلك) في أن يعيش حياته وموته وذلك بالتكلم عنهما وبكتابتهما مع أكثر ما يمكن من الدقة"(22).
• على سبيل الختم
في نهاية هذا المطاف، أختم هذا البحث بالقول، إنَّ نص محمد آدم، في ماهيّته الرؤياويّة، هو شبيه إلى حد كبير بالنص النواسي (نسبة إلى أبي نواس). لأنه نصٌّ فيه "لهب يلتهم كل العوائق"(23).
نص محمد آدم، هو حفر في أرض المآزق والمضايق؛ وتوسيع للمعابر، تفاديًا لأيّ انحباس شعري ممكن؛ وهو بذلك ترسيخ لعادات وممارسات جديدة في الشعر، وهو أيضًا وعطفًا، توكيدٌ لجماليّة الكتابي.
ليس من شك أنَّ نصًّا بهذه الهيئة، هو نص مستفز، لأنه يحرِّض نفسه باستمرار، بعيدًا عن أي مساومة مع الماضي وتوابعه، وقريبًا من كل ما من شأنه أن يحفّز أديم المغايرة الحداثيّة، ويحفر لها أخاديد، في أراضي الشعر المجهولة. إنه نص، كما يبدو، حارِقٌ، تمامًا كاللّهب، يلتهم كل عائق أو حاجز أو مانع. وتلكم عادة النصوص المُمانعة. النصوص المضادة.
* الهوامش
1– صلاح بوسريف: الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر، دار الحرف للنشر والتوزيع، القيطرة، 2007، ص15.
2- انظر أنطون غطاس كرم: ملامح الأدب العربي الحديث- الندوة الأدبية1، دار النهار للنشر، بيروت، 1980، ص140-141.
3- عبدالكبير الخطيبي: من تقديم كتاب "الأدب والغرابة" لعبدالفتاح كليطو، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 1983، ص7.
4- نفسه، ص7.
5- انظر سعيد توفيق "الخبرة الجمالية- دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992، ص78.
6- انظر سعيد توفيق، مرجع سالف، ص89.
7- انظر نصر حامد أبوزيد: "إشكالية القراءة وآليات التأويل"، المركز الثقافي العربي، ط2، 1992، ص34.
8- انظر أدونيس: "الشعريّة العربية"، دار الآداب وشركة النشر والتوزيع المدارس، ط4، 2006، ص9.
9- صلاح بوسريف: "الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، مرجع سالف، ص170.
10- انظر مارتن هايدغر: "هلدرلين وماهية الشعر"، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، ص144.
11- محمد آدم: الأعمال الكاملة، ج2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص350.
12- نفسه، ص16-17.
13- أدونيس: الشعريّة العربية، مرجع سالف، ص70.
14- رولان بارث: "التحليل البنيوي للسرد"، ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبدالحميد عقار، ضمن كتاب "طرائق تحليل السرد الأدبي(دراسات). منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1992، ص9.
15- vue P.ricoeur: Temps et recit.ed ;seuil.1983.
16- نقلًا عن جمال بوطيب "الجسد السردي-أحادية الدال وتعدد المرجع"، ط2، 2011، منشورات مقاربات، ص7.
17- جمال بوطيب: "السردي والشعري: مساءلات نصية"، منشورات مقاربات، فاس، ط2، 2009، ص41.
18- محمد آدم: الأعمال الكاملة، ج5، دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع، ص30.
19- انظر جمال بوطيب: "الجسد السردي"، مرجع سالف، ص8.
20- نفسه، ص8.
21- نفسه، ص8.
22- عبدالكبير الخطيبي، مقدمة "الأدب والغرابة" لعبدالفتاح كليطو، مرجع سالف، ص8.
23- أدونيس: " الشعريّة العربية"، مرجع سالف، ص67.