الداروينيّة الاجتماعيّة منطلقاتها النظريّة وأعلامها

مجدي ممدوح

كاتب أردني

 

على الرّغم من أنَّ "داروين" يُعتبر الرائد الأوَّل في ما يتعلق بالأفكار الخاصة بالتطوُّر في ‏حقل البيولوجيا، إلا أنه ظهرت في الفكر الغربي أفكارٌ مشابهة في علم الاجتماع، والتي لا ‏تختلف في جوهرها عن نظريّة التطوُّر البيولوجيّة. وقد أفاد "هربرت سبنسر" من نظرية ‏‏"داروين" في النشوء والارتقاء، وقام بإعادة صياغة مفاهيم "داروين" ونقلها من الحقل ‏البيولوجي إلى الحقل الاجتماعي، وتكلَّم عن الانتخاب الطبيعي في السياق الاجتماعي.‏

 

لقد أحدث كتاب "تشارلز داروين" (أصل الأنواع) زلزالًا كبيرًا في الأوساط العلميّة والدينيّة ‏والفلسفيّة عندما نشره في العام 1859. ولكن تاريخ الأفكار يثبت لنا أنَّ عالم الاجتماع ‏‏"هربرت سبنسر" قد سبق "داروين" بسنوات في الحديث عن التطوُّر في حقل علم الاجتماع. ‏فلقد نشر "سبنسر" في العام 1852 مقالًا حول نظريّة التطوُّر، وكذلك في كتابه "مبادئ علم ‏النفس" الذي نشره في العام 1855. ‏

استطاع "سبنسر" أنْ يوظف نظريّة التطوُّر الداروينيّة بإنجازاتها في حقل علم الاجتماع ‏بنجاح كبير، حيث خلق "سبنسر" تيارًا فلسفيًّا مهمًّا قائمًا على استلهام إنجازات البيولوجيا في ‏الحقل الفلسفي، ممّا أدّى إلى تأثُّر فلاسفة كبار بهذا التيار من أمثال "شلنغ" و"شوبنهور" ‏و"نيتشه". وقد أفاد "سبنسر" من نظرية "داروين" في النشوء والارتقاء، وقام بإعادة صياغة ‏مفاهيم "داروين" ونقلها من الحقل البيولوجي إلى الحقل الاجتماعي، وتكلَّم عن الانتخاب ‏الطبيعي في السياق الاجتماعي. ويمكن اعتبار مؤلفات "سبنسر" بأنها تمثل "الداروينيّة ‏الاجتماعيّة" أفضل تمثيل. وقد انتشر تعبير الداروينيّة الاجتماعيّة بشكل واسع في نهاية القرن ‏التاسع عشر.‏

يأتي هذا التطوُّر في علم الاجتماع ضمن التوجُّهات الوضعيّة التي كانت تجاهد لربط العلوم ‏الاجتماعيّة بمختلف العلوم الطبيعيّة، وقد سبق للكثير من أقطاب علم الاجتماع أن أفادوا من ‏علم الفيزياء. ويبدو أنه جاء دور علم البيولوجيا لكي يدخل إلى علم المجتمع من خلال نظريّة ‏التطور. ‏

يعتقد "سبنسر" أنَّ المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية، وله دورة دمويّة، وفيه تعاون ‏بين الأعضاء، كما أنَّ له تناسلًا وإفرازًا؛ تمامًا مثل الأفراد. وهذا يُعدُّ قمّة التشبُّه بعلم ‏البيولوجيا. ومن المفارقة أنَّ عبارة البقاء للأصلح التي اشتهرت كونها مقولة داروينيّة هي ‏ليست من مقولات "داروين"، بل هي من مقولات "هربرت سبنسر" الذي أطلقها في سياق ‏اجتماعي، وهذا يوضح بجلاء أنَّ أتباع الداروينيّة الاجتماعيّة قد استغلّوا نظريّات "داروين" ‏العلميّة الموضوعيّة المُحايدة وأساءوا توظيفها خدمةً لأغراضهم في تكريس فكرة الصِّراع. ‏ويبدو أنَّ أتباع الداروينيّة الاجتماعيّة قد استطاعوا تكريس مبدأ الصراع، واعتبروه محرِّكًا ‏أساسيًّا للفعل الاجتماعي. ولكنَّ طغيان هذا التيّار لا ينفي وجود تنظيرات متماسكة حول الفعل ‏الاجتماعي لا ترتكز على فكرة الصراع. فقد ظهرت في علم الاجتماع لاحقًا مذاهب كاملة لا ‏تقوم على فكرة الصراع، مثال ذلك علم الاجتماع الوظيفي، الذي لا يشير إلى الصراع ‏كعنصر في تشكيل البنى الاجتماعيّة، بل يوظِّف مفاهيم التَّوافق والتَّوازن. ‏

والحقيقة أنَّ أتباع الداروينيّة الاجتماعيّة لم يكتفوا بأفكار "داروين" حول التطوُّر، بل إنهم ‏قاموا باستلهام أفكار العالم البيولوجي "لامارك"، الذي كان يؤمن إيمانًا عميقًا بقانون توريث ‏الصفات المكتسبة، مع العلم أنَّ "داروين" كان يعارض هذا القانون بشدّة، وكان يعتقد أنَّ ‏الصفات التي يكتسبها الكائن بعد ميلاده لا تنتقل للأجيال اللاحقة. ولكنَّ أتباع الداروينيّة ‏الاجتماعيّة تحمّسوا كثيرًا لأفكار "لامارك" لأنها تناسب مذهبهم. ‏

وقد ألهبت أفكار "لامارك" حماسة الداروينيّين في إمكانيّة خلق أجيال ذات نسل متميِّز ‏ومتفوِّق من خلال عمليّات انتخاب مسيطَر عليها. ومن المعلوم أنَّ البيولوجيا الجزيئيّة قد ‏حسمت الأمر في ما يخصّ توارث الصفات المكتسبة، حيث تمَّت البرهنة على خطأ هذا ‏الاعتقاد اللاماركي. ‏

والحقيقة أنَّ تهافت الأسس العلميّة التي قامت عليها الداروينيّة الاجتماعيّة قد أدّى تدريجيًّا إلى ‏انحسارها شيئًا فشيئًا، حتى لم يعُد لها تأثير مهمّ في المذاهب الاجتماعيّة المعاصرة بعد أن ‏كانت متسيّدة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ‏

ومن الملفت أنَّ الداروينيّة الاجتماعيّة قد أسيء استخدامها من قِبَل جماعات عرقيّة متطرِّفة، ‏حيث أنَّ الداروينيّة الاجتماعيّة أصبحت عقيدة النازيّة وتغلغلت أفكارها داخل ممارسات ‏الحزب النازي، وكان هناك اعتقاد راسخ لدى الجماعات النازيّة والفاشيّة أنّ هناك أفرادًا لا ‏يستحقون العيش بسبب ضعفهم وكونهم عبئًا على المجتمع، وعدم امتلاكهم قدرات تنافسيّة ‏تؤهلهم للبقاء. علاوة على أنَّ بعض الأعراق لا يستحقون البقاء، والأفضل أن ينقرضوا من ‏أجل صالح البشريّة.‏

وهكذا، فإنَّ الداروينيّة الاجتماعيّة تنطلق من حقيقة أنَّ الصِّراع شيء حتميّ، وهو صراع ‏يقود إلى بقاء الجماعات ذات المواصفات المناسبة للبقاء والتطوُّر. وقد صاغ الفيلسوف ‏تصوُّره للـ"سوبرمان" بناء على تصوُّرات داروينيّة اجتماعيّة واضحة، حيث أنَّ "السوبرمان" ‏هو نتاج عمليّات تنافسيّة وتصفية انتخابيّة للصفات وصولًا إلى تحقيق "السوبرمان". ومن ‏المعروف أنَّ الأفكار النيتشويّة كان لها تأثيرٌ واضحٌ في الحركات النازيّة والفاشيّة.‏

ومن أهم أقطاب الداروينيّة الاجتماعيّة العالم البريطاني "فرانسيس غالتون" الذي وضع نظريّة ‏في تحسين النَّسل. وهو يعتقد أنَّ بالإمكان تحسين النَّسل من خلال اختيار العينات المتميزة. ‏وقد كان لـِ"غالتون" أفكار عنصريّة عرقيّة، حيث كان يعتقد مثلًا أنَّ الأعراق البشريّة لها ‏درجات متمايزة عن بعضها بعضًا. وذهب إلى أنَّ العرق الإنجليزي يتفوّق على العرق الأسود ‏بدرجتين، وأنَّ العرق الأثيني يتفوَّق على الإنجليزي بدرجتين أيضًا. كما تظهر الأفكار ‏العنصريّة عنده بوضوح في ادِّعائه بأنَّ التَّزاوج مع الأعراق المتدنِّية هو الذي أدّى إلى تدنّي ‏نسبة الذكاء الخارق في العالم.‏

ومن الغريب أنَّ كل هذه الأفكار المتميزة بالقسوة والبُعد عن الإنسانيّة لم تكُن تلائم أفكار ‏‏"داروين"، حيث إنَّ "داروين" قد جاء بهذه المفاهيم ووظَّفها في السياق البيولوجي فقط، ولم ‏يوافق على نقلها إلى حقل علم الاجتماع. ‏

ويركز أتباع الداروينيّة الاجتماعيّة على الصِّراع ويعتبرونه هو المحرك الرئيس في التطور ‏الاجتماعي، وقد برز الكثير من المتحمسين للنظرية من أمثال "فريدريك لانغ" و"بنيامين ‏كيد"، ويؤكد بعض أنصار النظريّة أنَّ آليات الانتخاب الطبيعي كانت تعمل بشكل عالي ‏الكفاءة قبل قرن من الزمان، ولكن التطوُّر التكنولوجي الهائل الذي تحقّق في العصور الحديثة ‏أدّى إلى ضعف آليّات التنافس، وأدّى إلى زيادة قدرة الضعفاء على البقاء، ممّا ولّد الكثير من ‏الشرور في العالم. ‏

عندما درس العالم "مالتوس" مشكلة الزيادة المطّردة في عدد السكان في ظل محدودية الموارد ‏البشرية، ارتأى أنّ الحلّ يقوم على فكرة أنّ الحياة صراع وصدام، وهكذا تستطيع الطبيعة من ‏خلال قانون الانتخاب الطبيعي أن تضمن بقاء مَن هم قادرون بالفعل على التنافس لامتلاكهم ‏صفات وراثيّة متميزة. ويضيف "مالتوس" أنَّ الكوارث التي تحدث على الأرض تختبر ‏قدرات الناس على البقاء، وهذا يؤدي بالتالي إلى رحيل الضعفاء وبقاء الأقوياء، ممّا يخلق ‏نوعًا من التوازن بين موارد الأرض وعدد السكان. ‏

من الملاحظ أنَّ علم الاجتماع أصبح يُستخدم لأغراض أيدولوجيّة خالصة بعيدة كل البعد عن ‏الجانب المعرفي المحايد. وقد تمَّ بالفعل توظيف علم الاجتماع من أجل تدعيم ركائز المركزيّة ‏الغربيّة، والترويج لأفضليّة الجنس الآري، وقد نوّه الكثير من الباحثين إلى أنَّ علم الاجتماع ‏يُساء توظيفه من قِبَل الدول العظمى مثل أميركا من أجل تبرير وتسهيل سيطرتها واستغلالها ‏للشعوب المتخلفة. ‏