معاذ قنبر
كاتب وباحث سوري
من المنظور الاجتماعي التطوري، يمكن للأفكار أن تنسخ نفسها عبر العقول، تمامًا كما الجينات تنسخ نفسها عبر الأجيال والتوارث البيولوجي، وقد ابتكر العالم البيولوجي "ريتشارد دوكنز" مصطلح "الميمات" للإشارة إلى الأفكار التي تنسخ نفسها، تمامًا كالجينات الأفضل التي تنسخ نفسها على صعيد التطوُّر البيولوجي. وتعني الميمة وفق بعض دارسي علم الاجتماع التطوري، تمثيلًا رمزيًا لأي حالة يمكن أن تحدث داخل العقل، أو خارجيّة تتجسَّد في موضوع خارجي (غير ذهني).
مقدمة:
تَرِثُ الكائنات الحيّة بيئاتها بقدر ما ترث الجينوم الوراثي الخاص بنوعها؛ فالسمك مهيَّأ للحياة والأداء داخل الماء، والنَّمل مهيَّأ للحياة والأداء داخل كثبان الرمل. كذلك البشر مهيّؤون للعمل في بيئة اجتماعية من نوع خاص، ودونها لن ينمو صغارهم بشكلٍ سويّ اجتماعيًّا أو معرفيًّا. وهذا النوع من البيئة الاجتماعية هي ما نسميه "ثقافة" والتي هي الموطن الملائم للتطوُّر الفردي الذي ينفرد به النوع ويُعتبر نمطًا مميّزًا له.
لذلك، نرى أنَّ الثقافة البشريّة هي حدث فريد. نعم هناك أنواع حيويّة أخرى، كالشمبانزي، تكشف عن تباينات منظوميّة على مدى سلسلة طويلة من السلوكيات، توحي بوجود قدرة وثيقة الصلة بالثقافة التي يمكن وصفها بالبدائية أو الأولية، لكن خصائص الثقافة البشريّة، كمشاركة كل أعضاء الجماعة تقريبًا في المهارات والقيم والمعتقدات، والتعديل الدائم والمتراكم للممارسات والمعارف على مدى العديد من الأجيال، غير موجود لدى الأنواع الأخرى.
ويقال إنَّ العقل المميِّز للبشر تطوَّر باتِّجاه التكيُّف ليس مع الظروف الراهنة، بل مع حياة ضمن الجماعات التي عاشت في ما قبل التاريخ على القنص وجمع الثمار في علاقة مباشرة وجهًا لوجه مع بعضهم بعضًا داخل روابط تعاونيّة صغيرة النطاق. وترتَّبت على هذا نتيجة واضحة هي أنَّ النفس البشرية يمكن أن تكون غير متكيِّفة مع ظروف الحياة التنافسيّة في المجتمعات الغربيّة الحديثة التي غالبًا ما تكون ظروفًا ضاغطة. إنَّ التَّعاون بين البشر يتضمَّن شبكة واسعة من الأفراد وتنوُّعًا في السلوك يتفوَّق على أيّ نوع من الرئيسيات الأخرى. نحن نطوِّر شبكة تعاون واسعة النطاق تتضمَّن الأقارب وغير الأقارب، وتتجاوز حدود العمر والجنس. إنَّ شبكتنا من الأصدقاء والأقارب كبيرة جدًا حتى إنَّ عالم الاجتماع "دوبنار" يؤكد أنَّ أمخاخنا الكبيرة الحجم إنَّما تطوَّرت لتساعدنا على الوعي بتسلسل هذه العلاقات. والجهاز العصبي لدى الإنسان يتطلَّب جريانًا مستمرًّا نسبيًّا للمثيرات البيئيّة، وهذا يكون شرطًا مسبقًا للكفاءة بالأداء.
إنَّ دماغ الإنسان لا يشبه آلة حاسبة تعمل بمحرِّك كهربائي يمكنها أن تبقى خاملة دون إدخال معطيات جديدة لمدَّة غير محدَّدة، بل هو يجب أن يُحافظ عليه طافئًا وعاملًا عن طريق إدخال معطيات منوّعة باستمرار على الأقل خلال ساعات اليقظة، هذا إذا أردنا له أن يعمل بشكل فاعل.
وإنَّنا نستخدم اللغة كطريقة فعّالة لتشكيل روابط اجتماعيّة والحفاظ عليها. ويمكن أن تكون اللغة حقيقة واحدة من بين عدد من الآليّات المعرفيّة التي طوَّرناها لنسوس بها العلاقات التعاونيّة المعقدة التي تفترض عبئًا معرفيًّا يتضمَّن رصد عدد كبير من العلاقات وتحديد متى يكون التعاون، أو مَن الذي من المحتمل أنْ يُخدع، أو ما هو أفضل وقت لخداع شخص آخر.
• المعنى البيولوجي للثقافة
من المنظور الاجتماعي التطوُّري، يمكن للأفكار أن تنسخ نفسها عبر العقول، تمامًا كما الجينات تنسخ نفسها عبر الأجيال والتوارث البيولوجي. على سبيل المثال: المزحة الجيدة ناسخة لأنها حين تقطن عقل شخص ما، تميل إلى جعله يقصها على غيره وبذلك تضمن استمراريتها بحيث تنسخ نفسها في عقول الأفراد، وقد ابتكر العالم البيولوجي "ريتشارد دوكنز" مصطلح "الميمات" للإشارة إلى الأفكار التي تنسخ نفسها، تمامًا كالجينات الأفضل التي تنسخ نفسها على صعيد التطوُّر البيولوجي. وتعني الميمة وفق بعض دارسي علم الاجتماع التطوري، تمثيلًا رمزيًا لأي حالة لشئون ما، والميمات بحسب هذا المعنى، باطنية، حادثة داخل العقل، أو خارجيّة تتجسد أو تتحقق في موضوع خارجي (غير ذهني).
تتوضّح الميمات الخارجية من خلال النشاطات التي يمكن الوصول إليها مباشرة (مشغولات فنيّة- منتجات- سلوك...) والتحقق الخارجي لميمة هو النشاط المتضمن في إنتاج الموضوعات وأداء السلوك المجسد للميمات. أمّا الميمات الداخلية فهي أكثر تعقيدًا وهي تتكافأ عادة مع المفاهيم المتناقلة.
إنَّ كل الأفكار طويلة الأمد تقريبًا: كاللغات، والنظريات العلمية، والعقائد الدينية، والأعراف الاجتماعية، والقيم الثقافية الثابتة... هي ميمات. يقص الناس القصص المسلّية بعضهم على بعض، منها الخيالي ومنها الحقيقي. إنها ليست نكاتًا، ولكن بعضها يصير "ميمات" أي قصصًا شائقة بالقدر الكافي لجعل سامعيها يردِّدونها على مسامع الآخرين، وبعض هؤلاء يردِّدونها بدورهم، لكنهم نادرًا ما يتناقلونها على نحو حرفي، فلا يحتفظون بكل تفصيلة في محتواها، ومن هنا تسرد للوجود نسخ مختلفة من القصة الدارجة. وبالتأكيد سيُردِّد بعض هذه النسخ أكثر من غيره، لأنَّ الناس يجدونه مسلِّيًا، وعندما يصبح هذا هو السبب الرئيس لترديد هذه النسخ، تصبح النسخ اللاحقة المتداولة أكثر تسلية. وهكذا نجد الظروف مواتية للتطوُّر، دورات متكررة من النَّسخ غير المتقن للمعلومات يبادل بينها بالانتقاء، فتصبح القصة مع الوقت مسلّية بالقدر الكافي لإضحاك الناس، فتكون نكتة واضحة المعالم قد تطوّرت.
ومن الميمات الألحان والأفكار والشعارات والأزياء وطرق صنع الأواني وبناء القناطر... وكما تنتشر الجينات في الجمعيّة الجينيّة عبر القفز من جسد إلى آخر بواسطة الحيوانات المنوية أو البويضات، تنتشر الميمات في الجمعية الميمية عبر القفز من دماغ إلى آخر بواسطة مسار يمكن تسميته بالمعنى الواسع "التقليد". على سبيل المثال: قد يقرأ العالم أو يسمع عن فكرة جيدة، فيعمد إلى نقلها إلى طلابه وزملائه، ويذكرها في محاضراته ومقالاته. وإن لقيت الفكرة النجاح، أمكن القول إنَّها تنتشر وتنتشر من دماغ إلى آخر، فالميمة هنا أشبه ببُنى حية -بالمعنى المجازي التقني- وعندما تزرع ميمًا خصبًا في عقلي، تتطفل على دماغي وتحوله إلى وسيلة لنقل الميم، تمامًا كما تتطفل جرثومة على الآلية الجينية للخلية المضيفة. فميم الإيمان بالحياة بعد الموت على سبيل المثال، يتحقق ماديًا ملايين المرات كبنية في الأجهزة العصبية للأفراد من البشر في جميع أنحاء العالم.
الميم هنا أشبه بتصوُّر اللاشعور الجمعي المتوارث جماعيًا وفق التصوُّر اليونغي والفرويدي. والواقع أنَّ هناك أنواعًا قليلة، من بينها كثير من الفقاريات، طورت لديها القدرة على التعلُّم من أفراد آخرين، ونقل بعض معارفها إلى آخرين. ويمكن اعتبار هذه المعرفة التي تمّ تعلُّمها اجتماعيا ً "ميمة" أو "مركبًا ميميًّا". إذْ تيسّرت هذه القدرة لدى البشر على التعلم من آخرين بفضل طائفة أخرى من العمليات (كاللغة والمعرفة المركّبة) التي تشكل في مجموعها أساسًا جمعيًّا للثقافة. ومعظم الأفكار ليست ناسخات، فهي لا تجعلنا ننقلها للآخرين.
والآليّة التي يعمل عبرها تطوُّر الميمات هي أنَّ الناس الأفضل في القدرة على المحاكاة (وبالتالي نسخ الميمات) لهم ميزة على سواهم لأنهم الأقدر على أن يكتسبوا بسهولة المهارات أو أي مصنوعات فنية جديدة ومفيدة، والأقدر كذلك بسهولة على تجميع الميمات القديمة معًا لإنتاج ميمات جديدة، بحيث نسمى هؤلاء "منابع الميمات". وطالما توفر أساس "جيني" وراثي لما جعل منهم منابع الميمات في أول الأمر، فإنَّ الجينات الداعمة للمحاكاة والنسخ الميمي، سوف تنزع إلى الانتشار "وفق التصور الدارويني المألوف"، وبالتالي فإنَّ الميمات التي تنجح في مضمار المنافسة الميميّة تغيِّر البيئة التي انتُخبت فيها الجينات، وهذا يغيِّر من طبيعة التطوُّر الجيني نفسه. وبالتالي التطوُّر الثقافي قد يغيِّر طبيعة التطوُّر البيولوجي وآلياته.
يقول "دوكنز": "ما لم نضعه في اعتبارنا من قبل هو الخصلة الثقافية قد تكون تطورت بالطريقة التي تطورت بها، لأنها ببساطة نافعة لنفسها". ويضيف قائلًا: "الواقع أنه يمكن اختصار معظم ما يُعتبر غير اعتيادي في ما يتعلق بالإنسان، بكلمة واحدة هي "الثقافة" وأشير إلى أنني لا أستخدم هذه الكلمة بمعناها الصلف وإنَّما بالمعنى الذي يستخدمه رجل العلم، والجدير ذكره أنَّ الانتقال الثقافي يشبه الانتقال الجيني من حيث أنه قد ينشأ كشكل من أشكال التطوُّر". وعليه يمكن النَّظر إلى الميمات باعتبارها متكاثرة (وحدات التكاثر، مثل الجينات)، أو الميمات باعتبارها فيروسات العقل (مثل فيروسات الدنا والرنا).
ومثل الجينات، تسلك الميمات كما لو أنها أنانية، وأنانية هنا لا يقصد منها المعنى الحرفي القصدي، بل معنى الأنانية هنا استعاري حسب، أي أنَّ الميمات، كالجينات، تسلك كما لو كان هدفها الوحيد هو إنتاج المزيد والمزيد من نسخ من نفسها. إذا عرفنا أنّ الجينات والميمات هي فقط وحدات بالفعل من المعلومات يتم حملها في حوامل مختلفة تمامًا، قد نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إنه في وجود أو طبيعة المعلومات أن تنشر نفسها.
• خاتمة:
بالمحصلة: عندما نموت يمكننا أن نخلف وراءنا شيئين هما الجينات والميمات، فقد بٌنينا كآلات جينيّة وأوجدنا لننقل جيناتنا. لكن هذا الجانب منا سيصبح منسيًا بعد ثلاثة أجيال. فابنك أو حتى ابن حفيدك قد يشبهك، ربّما في بعض ملامح الوجه أو موهبته الموسيقيّة أو لون شعره. لكن مع مرور كل جيل، تتناقص جيناتك إلى النصف. ولن يمُرَّ وقت طويل قبل أن تصبح النسبة زهيدة جدًا، فقد تكون جيناتنا خالدة، لكن مجموعة الجينات التي تشكل كل واحد منّا محكومة بالتلاشي، فلا يُفترض بنا أن نبحث عن الخلود في التوالد. لكن إن أنتَ ساهمتَ في ثقافة العالم، كأن طوّرتَ فكرة جيدة أو ألّفتَ لحنًا موسيقيًّا، أو كتبتَ قصيدة... فقد يبقى إنجازك على حاله بعد مرور وقت طويل على ذوبان جيناتك في الجمعيّة المشتركة. فربما لا يشتمل عالمنا اليوم على جينة حيّة أو اثنتين من جينات سقراط، ولكن مَن عساه يكترث؟ فالمركبات الميميّة الخاصة بسقراط ودافنشي وكوبرنيكوس ونيوتن وفرويد... لا تزال تنتشر بقوّة. لقد بُنينا كآلات جينيّة، وتثقَّفنا كآلات ميميّة.
• المراجع:
(1) ميشيل توماسيللو، الأصول الثقافية للمعرفة البشرية، ترجمة شوقي جلال، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الإمارات، 2006.
(2) الثقافة من منظور دارويني، تحرير روبرت أونجر، ترجمة شوقي جلال، المشروع القومي للثقافة، القاهرة، 2005.
(3) دافيد ن. ستاموس، التطور والأسئلة الكبرى (الجنس والعرق والدين وأمور أخرى)، ترجمة عزت عامر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014.
(4) تطور الثقافة في ضوء منهج البحوث المتداخلة، تحرير: روبين دونبار، كريس نايت، كاميلا بارو، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
(5) ريتشارد دوكينز، الجينة الأنانية، ترجمة تانيا ناجيا، دار الساقي، بيروت، 2009.