د. جمال مقابلة
أستاذ النقد والأدب في جامعة الإمارات والجامعة الهاشمية
إنّ الثلاثيّة الخطيرة الشأن التي افتتح بها النص القرآني العظيم، هي ثلاثيّة (القراءة، والخلق، والعلم)، فأعطتنا قيمًا ثلاثًا عزيزة على قلوب بني البشر جميعًا، دون تحديد لون أو عرق أو دين، ببيان القرآن الأوّل، وهي: (حرّيّة القراءة وحرّيّة الخلق وحرّيّة العلم). وما ذلك التركيز كلّه على القراءة إلّا لتقول: لا سبيل إلى الفهم والتفهيم، وإدراك طبيعة الخلق، وتحصيل العلم والمعرفة، وبناء الحضارة وإقامة العمران، إلّا بالقراءة.
• (اقرأ): درسنا الأوّل الذي نسيناه!
جاءَ درس القرآن الكريم الأوّل تحت عنوان "اقرأ" الذي أُمِرَ به الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- وما زال الأمر به قائمًا لكلّ مسلم من بعده، بل لكلّ إنسان؛ لأنّ هذا الكتاب العظيم إنّما أُنزل هدى للناس كافّة، وتذكرة للعالمين. والقراءة المُستفادة من هذا الأمر الإلهي هي -بلا ريب- قراءة شاملة من شأنها أن تعرِّف الإنسان بنفسه أوّلًا فيعيها حقّ الوعي، وأن تعرّفه بأخيه الإنسان، المتّفق معه والمختلف عنه في الوقت ذاته، وهي تعرِّفه كذلك بالطبيعة التي تحفّ به من كلّ جانب، وبالكون الذي يحقّق حياته فيه، كما أنّها تعرِّفه في نهاية الأمر بربّه الخالق الكريم.
ومفهوم القراءة هذا، وما ينجم عنه من الوعي والمعرفة، أو قُل المعارف المتعدّدة، سيفضي -ولا شكّ- إلى التفكير في أصل وجود الإنسان، وخلقه العجيب، ومن ثمّ سيعرِّف الإنسان بخالقه العظيم، لذا كانت تتمّة أوائل التنزيل الإلهي للقرآن الكريم في الآية الأولى بعد الأمر الأوّل هي (اقرأ باسم ربّك الذي خلق)، فكما تبدأ الآية بفعل الأمر المتعدّي (اقرأ)، تُختم بفعلٍ متعدٍّ آخر (خَلَق)، دون أن نجد المفعول به لأيٍّ من الفعلين هنا، وهكذا تنفتح الدلالة فيهما معًا على ممكنات لا نهائيّة، وعلى احتمالات تتّجه إلى الإطلاق. لكنّ القيْد الوحيد للفعل (اقرأ) هو قيْد المصاحبة (باسم ربّك) ونِعْمَ الربُّ ونِعْمَ الإلهُ هو ذلك الذي تكون مشيئته أن يأخذ بيد عبده إلى القراءة والفهم والوعي والاستيعاب تمهيدًا لحمل الأمانة وللخلافة في الأرض وللتكليف. بعد أن أنعم عليه بالخلق والإيجاد، ووهبه حياة ملؤها النور والهدى والمعرفة. لذا فإنّ ما يذكِّر به الربّ من النِّعم، في هذا السياق، هو أعلاها قدرًا، وأجلّها قيمة على الإطلاق، أي نعمة الخلق.
وتكون هناك وقفة قصيرة، بعد كلمة (خَلَقَ)؛ يتعلّمُ فيها الإنسان القراءة باللّمح والخطف والذكاء وسرعة البديهة، وقفة عن ذكر مفعول الفعل (خَلَق) المذكور؛ حتّى يجري تكراره في بداية الآية الثانية (خلق الإنسان من علق)، فيأخذ الفعل الأوّل صفة الإطلاق في الخلق، ويأتي الفعل (خلق) الثاني متبوعًا بالإنسان مفعولًا به؛ ليجيب عن أوّل سؤال معرفي خطير تستدعيه القراءة الحصيفة والمنهجيّة للإنسان والوجود والحياة. وما إن ينتهي ذكر المفعول به، أي (الإنسان)، حتّى تنفتح الدلالة على طبيعة الخلق ومادّته، فيكون الإخبار مشتملًا على موضوعة التفكُّر والحثّ على القراءة للوقوف على معنى أصل الخلق (من علق)؛ فهل هي إشارة إلى العلقة التي يكون أوّل التكوين شبيهًا بها، كما هو شائع بين الناس؟ أم هي إشارة إلى مطلق الخلق من علق أي من علاقة ما بين اثنين، هما الرجل والمرأة أو الذكر والأنثى، فما من مولود يولد إلّا من اللقاء بينهما؟ وفي هذا إشارة صريحة إلى الحتميّة الاجتماعيّة للوجود الإنسانيّ، فليس من إنسان جديد في هذا الكون إلّا ويحمل بصمة من إنسانين سبقاه، والتقيا، وكانت بينهما علاقة، وجاء هو ثمرة تلك العلاقة، وهذا الخلق الإلهي المسبّب بفعل الإنسان اجتماعيًّا بالعلاقة بين جنسيْه الذكر والأنثى هو موضوع الدرس الأوّل في القراءة.
ويكتمل النَّسق اللغوي القرآني الافتتاحي بالتكرار لفعل الأمر الأوّل (اقرأ) توكيدًا واستغراقًا، ومن ثمّ تحوّلًا من القراءة باسم الله إلى القراءة بكرم الله (اقرأ وربّك الأكرم). استعن بالله في القراءة الأولى؛ فهو ربّك الخالق الهادي والملهم. ثمّ اقرأ بكرم الله تعالى، الذي يطال الخلق جميعًا، فربّك الأكرم هو الذي أتاح القراءة لكلّ خلقه؛ لأنّها من طبيعة خلقه لهم، ومكافأته إيّاهم حين نفخ في الروح، في أبيهم آدم وتكرّم عليه وعليهم بالحياة (ونفخنا فيه من روحنا)، ثمّ كانت مشيئته أن (علّم آدم الأسماء كلّها)، أي علّمه اللغة –في بعض كتب التفسير- وأقدره هو ونسله من زوجه حوّاء، على اختراعها وتعلّمها وتعليمها لتكون أداة القراءة، وسبيل الفهم، ومنهج الوعي، والتقدّم العلمي بآفاق مفتوحة، لا نهاية لها؛ (الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم).
ولا يخفى علينا اتِّساق النسق القرآني في الفعل الثالث (علّم) الذي جاء هنا، وهو الفعل المتعدّي كذلك، دون ذكر المفعول به كسابقيه (اقرأ، وخلق) في أوّل ورود له، فأُتبع (بالقلم) ليوازي نسقيًّا (اقرأ باسم). ثمّ لمّا تكرّر ذكره ثانية جاء الإفصاح الصريح عن المفعول به (علّم الإنسان ما لم يعلم)، فوقوع المفعوليّة على (ما) الاسم الموصول، فيه حفظ للمرتبة النحويّة، ولكنّه في الوقت ذاته يشتمل على قيمة إطلاقيّة عالية بفتح الدلالة على فضاء غير محدود يتحقّق مداه بقوله تعالى (ما لم يعلم)، فالصيغة بنائيًّا توازي إطلاق القراءة في الحالتين، وتوازي صيغة الخلق من علق، بإطلاق مشابه أيضًا، وهذا كلّه هو ما يجعلنا نقول إنّ الثلاثيّة الخطيرة الشأن التي افتتح بها النص القرآني العظيم، هي ثلاثيّة (القراءة، والخلق، والعلم).
فما يستوقفنا في هذه الآيات الأولى ثلاثة أزواج من الأفعال (اقرأ اقرأ، خلق خلق، علّم علّم) بصياغات موقّعة لغويًّا، أنشأت لنا بمجموعها ثلاثيّة تعزّزت بفكرة الإطلاق على الرغم من قيدها النحوي، فأعطتنا قيمًا ثلاثًا عزيزة على قلوب بني البشر جميعًا، دون تحديد لون أو عرق أو دين، ببيان القرآن الأوّل، وهي: (حرّيّة القراءة وحرّيّة الخلق وحرّيّة العلم).
فكلّ فعل قراءة في منطوق هذه الآيات الكريمة يحيل بالضرورة على الخلق والولادة المتجدّدة وتكرار فعل الوجود من خلال العلم المتحصّل من تلك القراءة، والمعرفة المتوخّاة من المعلومة المركزيّة التي ستجنيها الذات القارئة بصدق وبمعنى عميق من تفكّرها بخلقها هي، وبخلق الله لغيرها من الذوات المبدعة التي فاضت عليها باسم الله وبكرمه، واتّصلت بها بعلاقة ما من العلاقات، فأوجدتها من العدم أوّلًا، أو من التراب في عمليّة الخلق الأولى، ثم أفاضت عليها بعلاقاتها الثقافيّة المتعدّدة، من خلال أنواع العلق والعلاقات المتشعّبة واحتمالاتها، وما ذلك كلّه إلّا من النور المتحقّق من هذا الدرس الأوّل في التنزيل العزيز.
• (القراءة): مفاهيمها، مستوياتها، تجلّياتها!
ومن لطيف ما ينجم عن التكرار في الفعل الأوّل (اقرأ) مرّتين في هذا السياق بحسب بعض المفسّرين، أنّ القراءة الأولى هي قراءة الغيب باسم الله، والقراءة الثانية هي قراءة الواقع بكرم الله. فإذا كانت القراءة الأولى باسم الله للمؤمنين به حسب، فإنّ القراءة الثانية تكون لكلّ خلق الله بكرمه، أي للمؤمنين ولغير المؤمنين منهم، وذلك اتّساقًا مع تكريم الله الوهّاب لكلّ بني البشر، (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر). وهناك مَن يرى من المفسّرين أنّ القراءة الأولى هي قراءة النبوّة؛ لتهيئة النبيّ وتمكينه بما سيأتي، أمّا الثانية فقراءة الرسالة؛ لتبليغ الدعوة والأخذ بأيدي بني البشر إلى الهداية. ومن ثم فقد قالوا القراءة الأولى قراءة تدوين والقراءة الثانية قراءة تبيين. وهناك من التفت منهم إلى الفعل الأوّل الذي تكرّر من الوحي قبل الفعلين الواردين في القرآن الكريم، حين جاء جبريل وأمر الرسول الكريم بقوله: (اقرأ)، فردَّ الرسول: (ما أنا بقارئ)، وتكرّر ذلك ثلاث مرّات ليبدأ من ثمّ التنزيل القرآني، فإذا صارت ثلاث قراءات، بحسب هؤلاء من المفسّرين، فهي: قراءة للتكوين وقراءة للتدوين وقراءة للتبيين.
وما ذلك التركيز كلّه على القراءة وأنواعها ودلالاتها ومعانيها المحتملة من النصّ القرآني الأوّل المنفتح الدلالة، إلّا لتقول للمسلم، وللبشر كافّة: لا سبيل إلى الفهم والتفهيم، ولا سبيل إلى إدراك طبيعة الخلق والإيجاد، ولا سبيل إلى تحصيل العلم والمعرفة، ولا سبيل إلى إدراك القوّة وامتلاكها وبناء الحضارة وإقامة العمران، وتطوير حياة الإنسان، إلّا بالقراءة والقراءة والقراءة.
بقيت إشارة مهمّة جدًّا في هذا السياق حول مدلول الآيات الثلاث التي تتلو أوائل التنزيل في المصحف المرتّل وهي: (كلّا إنّ الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى، إنّ إلى ربّك الرجعى)، ففي أغلب الأقوال أنّ هذه الآيات نزلت في مرحلة تالية من مراحل الدعوة، ولكن الملفت فيها أنّها تبدأ بالحرف أو أداة الزجر(كلّا) وتشير إلى طغيان الإنسان وشعوره بالاستغناء، ووهمه بإمكانية النأي عن ربّه، ونسيان الموئل والمرجع إليه، فما مناسبة هذا الكلام هنا للآيات الخمس السابقة عليها في السورة الكريمة؟
الجواب ماثل -والله أعلم- في أنّ الإنسان حين يمتلك عناصر القوّة الناجمة عن القراءة، سيصاب في أغلب الأحيان بالاعتداد بالنفس، أو بالإحساس بالجبروت وبامتلاك القوّة التي لا تقهر، حتّى يظنّ نفسه قد استغنى عن أقرانه من بني البشر، وعن خالقه. وهنا يكون مقتله، لأنّه فارَقَ القراءة باسم الله وابتعد عنها، مغترًّا بكرم الله الذي علّمه ما لم يعلم. فصارت الآيات جميعها معًا مؤكّدة ضرورة القراءة وأهميّة العلم، لامتلاك القوّة، ومحذّرة في الوقت ذاته من الطغيان الذي قد ينجم عن استشعار هذه القوّة الخاطئ بنسيان الخالق الكريم الذي وهب ذلك كلّه من قبل.
ويغلب على الظنّ أنّ مفهوم القراءة الوارد في القرآن الكريم هو مفهوم أوسع من قراءة الكتب والكلام المدوّن بالحروف بأي وسيلة من وسائل الاتّصال المعهودة قديمًا وحديثًا. فالقراءة قد تعني الوفاء بالمعنى اللغوي الأوّل للكلمة وهي الضم والجمع والربط والعقل، فمعنى القراءة المطلق هو تحرير الفهم بالتفكُّر، وربط الأمور بأسبابها، ووعي العلاقة القائمة بين الأشياء في الطبيعة، أو إدراك بناء الأحداث وترابطها، وما زال هذا الفهم الواسع والمتّسع للقراءة يعيش معنا في كثير من الصياغات والأقوال والمفاهيم، فقلنا في استعمالاتنا اللغويّة الدارجة إنّه يمكن لنا أن نقرأ الوجوه أو أن نقرأ العيون أو أن نقرأ الأحداث أو أن نقرأ المشاهد، قراءة واعية وفاحصة، ناهيك عن قراءة الزاعمين بالرّمل وبالكفّ في استغلالهم لتطلّع البشر وشغفهم الإنساني الكبير بمعرفة المستقبل، وحبّهم كشف الحجب. فلا نعني هنا بالقراءة معناها التقليدي أي قراءة المكتوب في الأوراق والكتب. وإنّما مطلق معنى القراءة والتقرّي والاستقراء ومحاولة الفهم.
فإذا حاولنا بيان أنواع القراءة الممكنة بهذا المعنى، وجدناها: أوّلًا قراءة عموديّة يحاول فيها المرء اسكتناه علاقته بخالقه أو بموجده بعد أن كان في رحم الغيب، وفي غياهب العدم، وعن هذه القراءة الوجوديّة العامّة ينجم الإيمان والمعتقد، وتصوّر الوجود الأوّلي للإنسان باتّصاله بعلّة ذلك الوجود. ويكون القرآن الكريم بما هو (قرآن) أي كثير القراءة والتلاوة، المصدر الأوّل لهذا الوعي والإيمان. وهو كذلك الكتاب العربي المبين. والفرقان بين الحقّ والباطل. والوحي السماوي الذي منّ الله به على الإنسان فوضّح له فيه سبيل الحقّ، وبه كشف له طريق الرشاد.
أمّا القراءة الثانية، فهي قراءة متعددّة الاتّجاهات في الكون، تقوم على قراءة العلوم المختلفة لوعي الوجود بكرم الله، فتُقرأ بها قوانينُ الطبيعة الفيزيائيّة والكيميائيّة والبيولوجيّة وغيرها من المعارف العلميّة الراسخة والقارّة. وتُقرأ بها كذلك قواعدُ الوجود الإنساني في التاريخ والاجتماع البشري والعمران والحضارة والفن والفكر والثقافة والأدب وغيرها من الأنظمة والعلامات والطرق والأساليب في الحياة والعيش الجماعي.
أمّا القراءة الثالثة، فهي القراءة الأفقيّة أو القراءة الحواريّة بين الإنسان وأخيه الإنسان، سواء في قراءة التعامل معه، أو في القراءة الحقيقيّة لما يكتبه الإنسان لأخيه الإنسان، وهي التي سرعان ما يذهب الخاطر إليها حين نذكر كلمة القراءة. وهنا لا بدّ من محاولة فهم اشتراطاتها وظروفها وموجباتها، فنذكر حولها من الحقائق، ما يأتي:
1- الإنسان مرآة الإنسان بعيدًا عن اللون والعرق والدين، فحين يقرأ الإنسان إنسانًا آخر لا بدّ له من أن يتأثّر بهذه القراءة بمقدار ما، مهما قلّ هذا المقدار أو كثر. وللمرآة حالات فهي قد تكبّر الصورة، وقد تصغّرها، وقد تجلوها بصفاء، وقد تشوّهها بنِسَب، وفي كلّ الأحوال يبقى التأثير ماثلًا باحتمالات حجمه وفائدته وضرره. لذا نقول في هذه الحالة: القراءة حتم لازم، وضربة لازب، بالمخالطة؛ كون الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، لا غنى له عن الإنسان؛ الأب والأم والأخ والأخت والقريب والشريك والصديق والبعيد والند والتابع والمتبوع والعدو والنقيض، يقرأه في القبول والرفض وفي الرضى والغضب، ولا بدّ في كلّ ذلك من تحصيل. وقد تكون القراءة هنا كذلك بقراءة ما هو مكتوب بالقلم من هؤلاء جميعًا، في كتاب أو صحيفة أو مجلّة أو أيّ وسيلة من وسائل التواصل الممكنة، علاوة على قراءة وجودهم المحايث في الحياة.
2- ذات الإنسان تحقّق موعود، والمقصود بهذه العبارة أنّ الإنسان دائم البحث عن الحقيقة، ليُتِمَّ بها نفسَه، وليعالج نقصَه، وليحقّق بها ذاته، من الميلاد حتّى الوفاة، فهو كائن غير منجز في كلّ أوقات الحياة، إلى أن يموت فتختم بذلك سيرته، وذلك تحقيقًا للقول المأثور "الحكمة ضالّة المؤمن، أنّى وجدها التقطها". ففي القراءة يستكمل الإنسان حالات وجوده المحتملة، لذا عليه أن يكون مستعدًّا للأخذ والردّ، يأخذ من القراءة ما يحقّق به ذاته، ويردّ ما لا يتوافق مع هذه الذات المتخيّلة لديه، فهو في حلم صيرورة دائم، ورفيقه في ذلك الكتاب، ووسيلته العظمى لذلك القراءة التي تهبه في الحياة حياة، أو تهبه في حياته الواحدة حيوات وحيوات.
3- القراءة حوار، والحوار مدى براح، فحين يتوافر الإنسان إلى جانب الإنسان في الوجود، يجري بينهما الحوار، والقراءة شكل من أشكال تحقّق هذا الحوار، فعلى الإنسان أن يستعدّ إلى تغيير كثير من أفكاره وآرائه وأوهامه وتخرّصاته من خلال الحوار، وذلك لأنّ الحوار يوفّر له الفرصة للدخول في عالم المحاور له بتقمّصه، وبالأخذ منه، وبالردّ عليه، وبمنحه شيئًا من ذاته، وما ذلك إلّا بما يطلق عليه حديثًا بالقراءة التفاعليّة، وهي قراءة تستغل مفاهيم الحراك الفكري، والديناميكا الفيزيائيّة، تمامًا كما تستنفد المعنى اللغوي للحوار، الآتي من فكرة الحَوَر في العَين، وهو شدّة بياض البياض، وشدّة سواد السواد فيها، ولك أيّها الإنسان في الحوار أن تتنقّل بين ذاتك وذات الإنسان الآخر المحاور لك بحرّيّة تامّة، كيفما تناوبتما في اختيار اللونين الأبيض والأسود بتدرّجهما الرمادي بينكما.
4- القراءة مَعلم اختيار ما بين أرضك وسمائك أيّها الإنسان، فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثمّ رددناه أسفل سافلين)، ممّا يعنى اتّساع مدى الإنسان الذي ارتقى فوق الملائكة حين تجلّى في سموّه كالذي كان من الرسول الكريم في معراجه، حيث وصل إلى مقام سدرة المنتهى، ووقف جبريل دون ذلك. كيف لا وهو الإنسان الكامل، أو هو الذي قيل فيه: "كان قرآنًا يمشي على الأرض" أو "كان خلقه القرآن"، وهو الذي قال الله تعالى بحقّه: (إنّك لعلى خلق عظيم) و(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). مقابل ذلك فإنّ الإنسان بعامّة حين حمل الأمانة كان ظلومًا جهولًا، فإذا انحدر وتسفّل وطغى وتجبّر واستغنى، ربّما عاد أسفل السافلين، وانحطّ إلى درك دون البهائم في وحشيّته وانحداره. وفي القراءة علينا أن نعرف كيف نقرأ! وبمن نقتدي! وممّن نحذر! حتّى نكون ونكون. فالقراءة انفتاح على كلّ النماذج، والعقل هو الدليل، والله هو الهادي والكريم الجليل.
5- أخيرًا، القراءة حيوات في حياة، فإذا كانت حياة الإنسان حياة واحدة وقصيرة ومليئة بالمشاغل والمعيقات والعقبات، فلا سبيل أمامه إلّا أن يعيشها مستفيدًا ومستمتعًا، فإذا ما اهتدى إلى منجز أخيه الإنسان في الإبداع الفكري والأدبي وتعلّق بقراءته تعلّقًا محمودًا، بات يعيش في حياته الواحدة أكثر من حياة، ففي قراءة الرواية كما في مشاهدة المسرح والأعمال الدراميّة، على سبيل المثال، ما يشعرك بأنّك تعيش حياة مَن تقرأ لهم، ومَن تشاهدهم، ومَن تتعلّق بقصصهم، وهكذا فإنّك تملأ حياتك بحيوات غيرك، وتستطيع إن أنت غدوت مبدعًا أن تهب نموذجًا من حياتك ليعيش به الآخرون حين توفّر لهم قراءتك، كما قرأت أنت ما كتبوه وما أنجزوه.