د.عامر بدران
كاتب وشاعر من فلسطين
لأنَّ كل نظام معرفي يحتاج إلى وعاء لغوي، كي يستطيع خلق ورعاية مقولاته وتمظهراتها، وبالتالي تحديد مكان أصحابه، ومكانتهم على الخريطة؛ أي هويّتهم بلغة أدق، فإنَّ الحديث عن العدوّ القومي يبدو في غاية السهولة، لِما يمتاز به من حدود ثقافيّة- دينيّة، وثقافيّةـ لغويّة واضحة معنا، لا يمتاز بها العدوّ الأيديولوجي ولا العدوّ المفاهيمي، ناهيك عن العدوّ الطبقي. إذن، فما هي العناصر التي اكتسبتها هويّتنا المعرفيّة، في صراعنا مع العدوّ الإسرائيلي، أو في تواجد الفلسطينيين جنبًا إلى جنب في الحيِّز الجغرافي الواحد؟
يَقولُ الزَّعيم الأفريقي الراحل، "نيلسون مانديلا": "إنَّ العدوّ يحدِّد شكل النضال ضدّه. بمعنى أنَّ النضال ضدّ عدوّ قمعي وعنيف يجب أن يكون عنيفًا، أمّا إنْ كان عدوّك دبلوماسيًّا، فعليك أن تجيد الدبلوماسية". تؤشِّر هذه المقولة بشكل واضح وصريح إلى العلاقة المتداخلة بين طرفي المعادلة: الـ"نحن" والـ"أعداء". للوهلة الأولى، قد يبدو أنَّ طرف المعادلة الأوَّل "نحن" ثابت لا يتغيَّر، وأنَّ ما يتغيَّر، أو يتحرَّك إنْ صحَّ التعبير، هو الطرف الثاني "الأعداء". لكن الحقيقة هي أنَّنا نتغيَّر بشكل متناغم مع تغيُّر العدوّ.
إنْ كانت مقولة "نيلسون مانديلا" صحيحة، وهي كذلك لا شك، فهل يحدِّد العدوّ شكل ونوع المعرفة أيضًا؟ وهل نحن، في نهاية المطاف، حصيلة أعدائنا؟
علينا، في البداية، أن نحدِّد ما هو ومَن هو العدوّ، ثم ما هي المعرفة المقصودة؟ أهي المعرفة الأفلاطونية المُعرّفة بـ"الإيمان الذي تمّ تبريره"، أم نعرّفها إبستيمولوجيًّا في حقلي الفلسفة والعلم؟ أم هي مزيج من هذا وذاك؛ أي بين المعارف الوضعيّة والمعتقدات، بما يسمح لنا أن نتحدّث بثقة مرتاحة عن هويّة مرتاحة؟
يحاول هذا المقال أن يجيب عن هذه التساؤلات من وجهة نظر الضحيّة، لا من وجهة نظر الجلّاد، من زاوية الضعيف سياسيًّا لا من زاوية القويّ. وللمصادفة البحتة.. من زاوية الـ"نحن"، لا من زاوية أولئك الذين، بسبب تفوُّقهم، يستطيعون انتقاء ما يشاؤون من معارفنا، دون أن يكونوا بحاجة إلى تبرير ذلك. إضافة إلى أنَّ العدوّ المتفوِّق يحاول دائمًا أن يُسقط عن عدوّه صفة العداء، وذلك لشرعنة التنكيل به. فهو إمّا إرهابي أو مخرِّب أو مجرم أو همجي، لكنه ليس عدوًّا يحمل صفة الندّية. فما الذي يمكن أن يأخذه عدوّ متفوِّق من مجرم أو إرهابي؟ لا شيء تقريبًا. وإنْ حصل وأخذ، فسوف يأخذ معرفة غير قابلة للاستعمال إلّا ضدّ هذا الإرهابي المخرِّب.
ولأنَّ كل نظام معرفي يحتاج إلى وعاء لغوي، كي يستطيع خلق ورعاية مقولاته وتمظهراتها، وبالتالي تحديد مكان أصحابه، ومكانتهم على الخريطة، أي هويّتهم بلغة أدق، فإنَّ الحديث عن العدوّ القومي يبدو في غاية السهولة، لِما يمتاز به من حدود ثقافيّة- دينيّة، وثقافيّةـ لغويّة واضحة معنا، لا يمتاز بها العدوّ الأيديولوجي ولا العدوّ المفاهيمي، ناهيك عن العدوّ الطبقي. إذن، فما هي العناصر التي اكتسبتها هويّتنا المعرفيّة، كفلسطينيين، في صراعنا مع عدونا الإسرائيلي، أو في تواجدنا جنبًا إلى جنب في الحيِّز الجغرافي الواحد؟
نحنُ لسنا هُم، هكذا حاول المفكِّرون القوميّون والإسلاميّون العرب صياغة تعريف سلبي للعروبة. وكلمة سلبي هنا تعني المُغايرة لا السوء، بمعنى أنَّ استنباط عناصر الهويّة لا يتحقق بذاته بقدر ما يتحقق باختلافاته عن الآخر -الآخر العدو- المستعمِر، أو الغربي على أقلّ تقدير. من هذه الثنائية برز في بداية القرن الماضي مصطلحان لافتان تمّ إطلاقهما على الفترة التاريخيّة نفسها وعلى تفاعلاتها ونتائجها. مصطلح "الإصلاح" والذي دَرَجَ بين المفكرين الذين عرّفوا الهويّة على أساس الدين، ومصطلح "النَّهضة" الذي كان، وما زال، محبَّبًا لمفكرين اعتبروا التمايز الإثني الثقافي أساسيًّا. وفي كلا المصطلحين وتنظيراتهما ظلَّ العدوّ أساسيًّا وحاضرًا بكثافة.
فهو في الحالة الأولى يشكِّل تهديدًا لمنظومة المعارف الأفلاطونية. المنظومة التي أساسها إيمان لا يشوبه أي قلق. فالقلق بتعبير "إرنيست غيلنر" يعني أنْ يُظهر المرء خلطًا بين الالتزام بهويّة، وبين الموافقة على دليل، وهو أمر غير ممكن. ولأنّنا نكتسب هويّتنا، كما يقول "سورين كيركغارد" أيضًا "من خلال تصديقنا لشيء ينتهك عقولنا بشدة(...) فلكي نوجد، علينا أن نصدّق، ونصدّق شيئًا يصعب بشكل مروّع تصديقه، إذ لا يمكننا أن نوجد من خلال تصديق شيء معقول وجدير بالتصديق". لأنه كذلك، استطاع المفكرون الإسلاميون خلق لغة أخرى، مختلفة، للتعبير بها عن المعارف العلمية الجديدة التي أدخلها الغرب المستعمر إلى منطقتنا. فكيف يمكن أن يتعايش اللاهوت مع الفيزياء دون أن يتعارضا؟ يمكن ذلك فقط حين يكون لكل منهما عالمه اللغوي والمفاهيمي الخاص والمختلف عن الآخر. لقد تنازل هذا المفكِّر، تحت ضغط الحاجة، وقَبِلَ بالمُنجز العلمي للعدوّ، لكنه قام بوضعه على رفّ آخر في مطبخ المعرفة، بحيث لا يختلط مع قناعاته ولا يشكِّل تهديدًا يوميًّا لها.
وهو في الحالة الثانية يشكِّل تهديدًا للتاريخ ولثقافة "الأمة القائمة منذ الأزل" والمصاغة، ويا للغرابة، بلغة الحاضر. فالنظام المعرفي للدولة الحديثة، حاملة الثقافة وموزِّعة المعارف بالتساوي، مقابل حكم السلالات والمشايخ والأعيان، ثقافة المؤسسة مقابل ثقافة الأفراد. الطباعة مقابل الكلام، والصحافة مقابل الإشاعة. وفي النهاية، قد يمكننا القول إنَّ "نابليون" لم ينتصر في مصر عام 1798، لكنّنا لا نستطيع الجزم أنه لم ينتصر في معظم العالم العربي، أواسط القرن العشرين.
مفكِّرو الحالة الأولى، وبسبب ضغط المعارف الجديدة، أعادونا إلى "الماضي المزدهر"، أو حاولوا ذلك. ومفكِّرو الحالة الثانية، وللأسباب ذاتها، وعدونا "بالمستقبل المزدهر". لكن الحاضر ظلَّ يشبه منخلًا تهطل منه القيم والثقافة الغربيّة، أيْ منظومة معارف الأعداء، إلى مجتمعاتنا ودولنا "القوميّة" إنْ صحَّ تسميتها بهذه اللغة التبشيريّة القديمة. ولا داعي هنا لتعداد ما أخذناه من أعدائنا، إذ يكفي القول إنَّ فكرة الدولة نفسها اختراع غربي حتى لو صار هذا الاختراع في منطقتنا تحصيل حاصل، إلا أنَّ ما كنّا نريد حقنها به لإثبات تمايزنا هو، في غالبيّته، اختراع غربي أيضًا.
وعودة إلى سؤال حالتنا الفلسطينيّة، وهل ثمّة إمكانيّة للمقارنة؟
يقول الدبلوماسي والباحث الفرنسي "بيير كونيسا" عن الاحتلال عمومًا: الاحتلال قبل كل شيء ادِّعاء تاريخي وثقافي، والمدرسة هي الحاضنة التي يتم من خلالها بثّ التاريخ، ويتم تشكيل النَّظرة إلى الآخر. ويبرِّر المحتل وجوده كشرعيّة نابعة من الماضي ومن الثراء الذي سبّبه.
لكنَّ الصراع الفلسطيني قبل 1948 كان مع عدوين أساسيين، الانتداب البريطاني الذي لم يعُد معنيًّا بأيّ ادِّعاء ثقافي أو تاريخي، والعصابات الصهيونيّة التي لم تكُن قد بلورت حينها إلا عناصر، غير مقنعة، من ادِّعاء ديني موجَّه في معظمه إلى الذات لا إلى الآخر، أو على الأقل هذا ما كان يؤطِّر خطابها المُعلن. ومع أنَّ ما سيطر على الحقل السياسي والثقافي الفلسطيني منذ بداية القرن الماضي وحتى النكبة في 1948 هم مُلاك الأراضي والواجهات العائليّة في المدن، إلا أنّ أولى تمظهرات المعرفة التنظيميّة، لا يمكن التعامل معها بمنطق المصادفة البحتة، المقصود هنا هو "اللجنة التنفيذية العربية" في مقابل "اللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيوني". أليست اللغة وعاءً ومعيارًا؟؟ ثم كيف للضحيّة التي تخسر معركة تلو الأخرى في مواجهة عدوين، أن تتعاطى مع منظومة المعارف الإيمانيّة التي تخص جلّادها؟ يمكنها ذلك من خلال استدعاء منظومة موازية وشبيهة من المعارف. ومجدَّدًا يطفو على السطح التعريف الممكن الوحيد للذات؛ نحن لسنا هم. لكن هذه المرَّة من زاوية الدين لا الثقافة. فالمفتي حاضر، ليس فقط في إنتاج هذه المعرفة وبثّها، بل وفي قيادة المعارك على الأرض أيضًا.
الخاتمة المأساويّة، أو أُمّ الخسارات كانت حرب 1948، حيث "تمّ القضاء على الحقل السياسي والثقافي الفلسطيني الناشئ"، وتشتيته إلى دول الجوار. منذ هذه اللحظة وحتى حرب 1967 ظلَّ الفلسطيني بثقافته ومعارفه محكومًا بشروط الدول المضيفة. استثناء وحيد يمكن ملاحظته هو الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية، أي تحت حكم العدوّ مباشرة، حيث إنَّ الفكر الوطني- القومي الذي نشأ لمقارعة هذا العدوّ أخذ طابعًا ماركسيًّا في غالبيّته. أعتقد، ودون أن أملك براهين كافيه، أنَّ المجتمع الصناعي وقطاع البناء، الذي هيّأته الدولة الجديدة ساهم في نشوء طبقة عاملة يمكن التعويل عليها، خصوصًا وأنَّ الطابع الماركسي غلب، أيضًا، على الحركة الوطنية في الضفة الغربية، وقطاع غزة بعد احتلال 1967 وحتى الانتفاضة الأولى، أي في الفترة التي كانت فيها غالبيّة القوة العاملة الفلسطينية تعمل في إسرائيل.
وبينما استطاع الوجود الفلسطيني في الداخل أن يعبِّر عن نفسه بلغة "هوياتيّة" بشكل أو بآخر، برز في الضفة والقطاع ما يمكن تسميته "وسيط المعرفة". هذا الوسيط هو بقايا البرجوازية الفلسطينية التي استطاعت أن تتماسك مجددًا بفعل دعم دول الجوار، وأن تشكل جمعياتها و"مضافاتها" وروابطها، لكن هذا الوسيط لم يكن منتجًا للمعرفة بقدر ما هو مستخدِم لها. استمرَّت هذه الحال إلى حين تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتحديد بعد أن سيطرت فصائل العمل الوطني عليها.
المنظمة مقابل إسرائيل، في صراع على وعي الفلسطيني في الضفة والقطاع. لكن "بيير كونيسا" يقول: "إنَّ المدرسة هي الحاضنة التي يتم من خلالها بثّ التاريخ"، والمدرسة في حالتنا المحدَّدة كانت تحت إشراف دولة ثالثة هي الأردن.
الأردن إذن يملك المدرسة، وإسرائيل تملك الراديو والتلفزيون، والمنظمة تملك الحائط. الأوَّل يدلُّك على ماضيك، والثاني يحاول أن يصوغ حاضرك، والثالث يعدُكَ بتغييره. ولأنَّ لا خلاف على التاريخ، برز الصراع اليومي بين المعرفة التي تهدف إلى التدجين وتلك التي تحرِّض على الثورة.
كانت المنظمة بمراكز أبحاثها ومثقفيها ومراكز دراساتها وجهازها الإعلامي بعيدة عن المتلقّي المفترض وهو الفلسطيني في الداخل، وكانت إسرائيل حاضرة بلغتها التي تعلّمها عشرات آلاف العمال وعشرات آلاف المعتقلين، وكانت قريبة بجهازها الإعلامي المحترف. وقريبة بصناعاتها ومنتجاتها التي استفردت بالسوق، وقريبة بجهازها الإداري المتطور. لكنها قريبة أيضًا بجيشها المدجَّج بالكُره وبالسلاح.
استطاعت المنظمة خلق جيل جديد من النُّخب، أداته المنشور والشعار على الحائط. لكن هذه المرة من بين متعلِّمي المدن والمخيمات تحديدًا. هذا الجيل أصبح، في ما بعد، منتجًا ومروِّجًا لثقافة هوياتيّة وعلميّة، من خلال الجامعات والنوادي والنقابات والجمعيات والاتحادات.. لكن الاحتلال الاسرائيلي يشبه في تعامله مع الشعب الفلسطيني ما كان يقوله حكّام المستعمرات البلجيكية في أفريقيا: "لا نُخب.. لا مشاكل". ولذلك حاول دومًا، القضاء على أيّ إطار يمكنه أن يقدِّم معرفة غير التي يريدها هو. فحارب الجامعات، وأغلق الصُّحف عشرات المرّات، واعتقل النقابيين وأبعدهم، ومنَعَ الكتب. وبالتوازي مع كل ذلك اشتغل على بثّ المعرفة بطريقة عكسيّة، أي من تحت إلى فوق. فاستهدف العائلة الفلسطينية ببرامج تلفزيونية وإذاعية عن الطبخ والدين والتسامح والأفلام، وعن شيطنة المنظمة وفصائلها. لكنَّ هذه المعرفة لم تكن على مقاس متلقّيها في غالب الأحيان، فحكاية قصيرة يمكنها أن تقول لنا كيف لم تنجح؛ سأل فتى والده: "كيف صرت تفهم السياسة يا أبي؟"، فأجاب الأب: "أسمعُ راديو إسرائيل وأتصرَّف عكس ما يقولون". فيا للمفارقة!! إنها ترجمة بلغة بسيطة، لتعريف الهويّة عند المفكرين العرب الأوائل.. نحن لسنا هم.