جماليّات "نيتشه"
د. حسين جمعة
كاتب وناقد أردني
لقد كانت صرخة "نيتشه" حادة في مواجهة مرض الرأسماليّة، لكنها صرخة مرتجف ومتعصِّب مرتعب، وداعية لسلطة "الأشقر الماكر" بلا حدود، ومع أنَّ تعاليمه ودعاواه وحكمه كانت متناقضة وبلا روابط، إلّا أنَّها كانت ومن بواكيرها ذات توجُّه موحَّد وغاية موحَّدة وروح واحدة؛ وهي روح كره الجماهير الشعبيّة، والدعوة إلى الفرديّة المتسلِّطة الجامحة.. أي إلى الإنسان المتفوِّق/ الأعلى، والقوّة في مواجهة العقل.
يَحْظى الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" بعناية خاصة، ومكانة معتبرة في المؤسسات الثقافية والدوائر الأكاديمية في الغرب البرجوازي المعاصر، وتنشر أعماله وأقواله بشتى وسائل الاتصال الجماهيري المتاحة في معظم أرجاء المعمورة في ظلِّ الأزمات الخانقة التي تعترض النظام الرأسمالي العالمي، الذي يسعى إلى العثور على مبررات لاستمرار وجوده، وعلى مرتكزات فكرية وفلسفية وثقافية يسوِّق بها طبيعته الإجرامية، وحرمانه لملايين من البشر من العيش بحرية وكرامة تليق بالإنسان كإنسان في زمن هيمنت فيه زُمر لا تتعدّى الآلاف على كل الثروات والممتلكات، وحتى الأرواح البشرية وأحلامها. وتجد الرأسمالية في فلسفة التشاؤم والعدم واحتقار الجماهير حصنًا لها ولأساليبها الجائرة في ابتزاز الأكثرية الساحقة من الناس، وشراء صمتهم وقبولهم بأوضاعهم الحياتية والاجتماعية المُزرية.
ويأتي استحضار الحديث عن فلسفة "نيتشه" وآرائه وخطابه في ظلِّ استذكار وزارة الثقافة الأردنية لكتابه "هكذا تكلم زرادشت"، وإعادة طباعته بعد أكثر من ثمانين عامًا على ترجمته ونشره لأوّل مرّة بالعربيّة، ليكون من محتويات مكتبة كل أسرة في الأردن. فهو -كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين- قبض على شتى الأحكام الممكنة حول العالم، وتنطوي تحت لوائه معظم أفكار والاتجاهات الفلسفية المختلفة. ولهذا، لم تجد الوزارة أو اللجنة المنبثقة عنها أي ضرورة لوضع افتتاحيّة أو مقدمة حديثة تنبِّه فيها إلى خطورة شذرات الكتاب وما ترمي إليه من أهداف وغايات، لا سيّما أنَّ لغته يكتنفها الغموض والالتباس في مدلولاتها التي تعبّر عن جموح صاحبها المُواكب لهبّات العصر الجامحة، وقدراته المتميزة في حقل الفيلولوجيا، وخلطه في رؤاه وأحكامه في عجينة موحِّدة الدين والسياسة والأخلاق والعلم معًا؛ بحيث أضحت جميعها ذائقة أدبية ومعايير جمالية متكاتفة ومتثاقفة.. وأعني أنَّ جماليّات "نيتشه" فريدة بطبيعتها، وبفرادة لغة الحكمة والمواعظ المحكومة بمضمون ملفت ومخصوص لا يتوقف عند اتجاه الإشكالية ومقاصدها فقط. لقد كانت صرخته حادّة في مواجهة مرض الرأسمالية، لكنها صرخة مرتجف ومتعصب مرتعب، وداعية لسلطة "الأشقر الماكر" بلا حدود، ومع أنَّ تعاليمه ودعاواه وحكمه كانت متناقضة وبلا روابط، إلا أنها كانت ومن بواكيرها ذات توجُّه موحَّد وغاية موحَّدة وروح واحدة، وهي روح كره الجماهير الشعبيّة، والدعوة إلى الفرديّة المتسلطة الجامحة.. أي إلى الإنسان المتفوِّق/ الأعلى، والقوة في مواجهة العقل.
كان إحساس "نيتشه" بتحوُّلات العصر طاغيًا، ورأى في القرن التاسع عشر مرحلة انتقاليّة: "الماضي يفنى والجديد لا يصلح لأيّ شيء"، بعد أن شاهد ما يجري من حروب وتبدلات مذهلة في أوروبا آنذاك، ورأى ألمانيا المتخلفة تصعد بالتدريج وتتحوّل إلى دولة عسكرية/ صناعية كبرى، يجري فيها التقاء المال بالعسكرة؛ مما كان له أثر عميق على الحياة الاجتماعية وعلى حساسية "نيتشه" المتوثبة، "نيتشه" الذي عايش كومونة باريس وهبّات أوروبا العمالية، التي أخافته وروّعت كيانه وعقله؛ فانطلق يبحث عن خط يكافئ مخاوفه ورعبه العنيف، حيث وجده عند الشاعر الروماني "فيوغْنيد"، الذي أظهر في أشعاره عداوة شديدة وكرهًا أشدّ للدهماء وعامة الناس، وهذا ما سار عليه "نيتشه" في جميع مراحل إنتاجه الفكري والفلسفي، ولم تتبدل آراؤه ومعتقداته منذ كتب بحثه عن الشاعر "فيوغْنيد" في آخر المرحلة المدرسيّة.
يرى "نيتشه" أنَّ الإنسانيّة دخلت مرحلة الانحطاط والارتكاس (الديكادانس)؛ مما أفقدها إرادة القوة والتسلط، وأضحى الناس ضعفاء يفتقدون الدوافع المحرضة على الاستقواء والتحكم بالقوة للوصول إلى السلطة القاهرة، ومن هنا انطلق موقفه من جميع الأشكال الاجتماعية والمعرفية السائدة آنذاك: الفلسفة، الدين، التربية والأخلاق وغيرها، لأنها جميعها من إنتاج عصر الانحطاط ومخلفاته، وأنّ الخلاص من هذا الانحطاط يتم بالفن، والفن هو الترياق المطلوب للشفاء من أمراض العصر، وهو وسيلة شمولية في مواجهة المسيحية والبوذية والعدمية وغيرها، كما هو الطاقة المتجددة والشعلة المضيئة لإنارة إرادة قوة التسلط، وقيمة الفن أعظم من الحقيقة، إذا كان الجمال عند "دوستوييفسكي" طريق الخلاص الذي ينقذ العالم من سباته، فهو عند "نيتشه" ترياق للتخلص من الانحطاط، وجاء بعده "كامو" الأديب والمفكر الفرنسي ليقول إنَّ: "الجمال الذي يسعف العيش، إنّما يساعد على الموت"، وكان لا يتقبّل فكرة "دوستوييفسكي" و"نيتشه" القائلة إنّ الجمال والتوحُّد مع الطبيعة يَرمي إلى ملء الفراغ ويتماشى مع موت الإله.
أهم فكرة تقوم عليها جماليّات "نيتشه" هي: الإنسان الأعلى المتفوق على غيره وعلى ذاته، لأنّ الحياة نفسها مكابدات واستئثار واستقواء على الآخر وإيذاء الضعيف، وكل هذه السمات ميدانها ومجالها الروح. والقويّ يبحث عمّا هو مفيد وصالح للاستعباد، وهذا يعني أنّ الملكية الخاصة تأتي جراء الاستقواء على الآخر وتكبيده أبلغ الضرر، وبناء أخلاقيات القوّة وتأسيس السلطة الشيطانيّة المؤزّرة بإرادة التسلط وبإحداث الأذى وتدمير مصير القطيع، وتشييد المصير الخاص للإنسان الأعلى المتفوِّق.
كان "نيتشه" مغرمًا ومهووسًا بهذه الفكرة الشيطانيّة، التي بدونها لا يمكن التضويء على الجماليات التي تبنّاها واتَّخذها أساسًا لأعماله وفلسفته، وهذا الفهم تبدّى أظهر ما يكون في مصنّفه "هكذا تكلم زرادشت"، الذي وصف فيه بالتفصيل "الإنسان الأعلى". ومع أنّ الكتاب من أعظم مؤلفات "نيتشه" إعتامًا وغموضًا، إلا أنه جاء وفق وصية "دوستوييفسكي" القائلة: "كونوا شجعانًا، وأظهروا مثالكم"، حيث تجلى مثال "نيتشه" بنصوع تام، وهو أنّ الإنسان الأعلى لا يمكن أن يتعايش والإنسان الأدنى- العبد الوضيع، إلا إذا عاش الحكيم والوحش في حظيرة واحدة. فالجمهور والعامّة وسواد الناس والقطيع بمعنى واحد عند "نيتشه"، لأنهم يفتقدون ذواتهم ويصبحون عدميين، بلا أهمية تُذكر، والآحاد من طبقة النبلاء وأصحاب الإرادة الصّلدة المتطلعون إلى السلطة، هم مَن يستحقون الحياة. وعليه، فلم يستخدم نيتشه كلمة [Kraft] التي تعني القوّة البدنيّة في الألمانية، وإنّما ثبَّت كلمة [Macht] التي تحمل معنيين: الإرادة والتسلُّط، وأراد بذلك الإرادة المفعمة بالقوة للوصول إلى السلطة، التي لا يتمتّع بها سوى نفر ضئيل من طبقة النبلاء المهيمنة من شباب المستقبل. ولهذا، لقيت هذه الفكرة صدى واسعًا وجاذبًا عند "هتلر" وأتباعه، الذين حوّلوا أوروبا والعالم بأسره إلى كتلة من النار والدماء لتحقيق أهدافهم العنصرية. ومع كل ذلك فإنَّ هذه الأفكار الحادة هي صرخة مدوية ويائسة في وجه الرأسمالية والإمبريالية وأحلامها التوسعيّة، ومصيرها المحتوم إلى زوال. لكن "نيتشه" يعود الآن كمخلِّص عبقري للبشريّة، ومعالج طبيعي لأمراضها وعلل ثقافتها، والتصدّي لعسف المنظومات الفلسفية المتزمتة والتفكير العابر، وذلك بتشييد أساطير جديدة في سائر مجالات الحياة الاجتماعية والروحية تخدم الإنسان الأعلى المتسيّد على العالم كله. وهنا يكمن السر في استعادة "نيتشه" والتغنّي بأفكاره من قبل رأس المال العالمي والصهيونيّة العالميّة ومَن يدورون في هذا الفلك العنصري البغيض.
وإذا قلّبنا صفحات كتاب "هكذا تكلم زرادشت" نستنتج أنه عبارة عن مطوّلة فلسفيّة نثريّة مؤطَّرة في نطاق مخطّط رمزي لتطوُّر "نيتشه" الفكري والروحي والأخلاقي، يرمي بصورة غامضة -لكنها واضحة- الإعلاء من شأن الإنسان الأعلى في مقابل الصورة الكاريكاتورية التافهة للجمهور (القطيع)، الذي يتألف من أناس صغار ضعاف لا حاجة لأحد في الحياة إليهم، لأن كينونتهم تقتصر على الوجود الحيواني العادي من أكل وراحة وجيرة بائسة. كما يَسِمهم بأسوأ الأوصاف، وهذه التوصيفات وهذه الآراء حفّزت بعض الأدباء إلى نشر روايات وأشعار تسير في هذا التوجُّه، وتحضُّ على احتقار العامة والتقليل من أهميّتهم ووجودهم، والإعلاء من شأن الأبطال الأفراد وتقديس أفعالهم ومآثرهم، تأكيدًا على دعوة "نيتشه" بالمحافظة على الجمال المأساوي، الذي حلم به وأبّده في حديثه عن طاقات "ديونيس".
الجمال عند "نيتشه" لا يتيسّر بسهولة سوى للإرادة التي لا تُقهر، التي تتقمَّص كل ما هو قبيح وبشع ومريع، والقادرة على تحرير العالم من سلطة المثال والفضائل الإنسانية، إنها إرادة مغامرة لأرستقراطية خطرة ليست بحاجة إلى المعرفة المادية، ولا إلى الرصد الواعي الرصين؛ فهي تنظر بسخرية وتهكُّم لكل هذه الأشياء التافهة لأنها سراب وأباطيل، وأنَّ ما يصنعه الفنان ليس سوى خفّة يد عفويّة ولمسة شيطان ساحرة لا علاقة لها بالواقع الموضوعي.. أي أنه يدعو إلى جماليات (أسطيقا) بلا معايير ولا مثل لما هو سامٍ وجميل أو منحط وقبيح، ويجمل القول إنه لا يعرف.
"نيتشه" سيد الكلمة يدرك أدق أسرارها، ويحسن تركيب الألفاظ والتشابيه؛ فتبدو فلسفته وجماليّاته وكأنها توقيعات أو مقولات، أو الأصح خلاصات مجزّأة إلى أقصى الحدود، تتوثق بشبه فكرة أو حد أدنى من الخاطرة البرقيّة التي تتوارد وكأنها أهاجي هجينة شبيهة بالعمل الفني، وأسلوبية المدرسة الحداثوية (المودرنيزم). ويعتبر "نيتشه" أنَّ النثر المتقن رائع إذا اقترن بالشعر وجاراه على أن لا يتحوّل إلى شعر منظوم، فالقواعد تقيّد الشعر وليست سوى خرافات وأباطيل نحويّة، ويقول: "أنا سأبقى شاعرًا"، وهو يعني بذلك أنّ طريقة تفكيره وأسلوب كتابته وفلسفته ستبقى في نطاق المنظومة اللصيقة بالشعر.
النسيج الفني لمعظم أعمال "نيتشه" يتَّسم بالحِكَم المُقتضبة والأقوال المتسرِّعة الضبابية التي تهيّج المزاج، وتحضّه على الاندفاع كالعاصفة الهوجاء، التي تنسرب وتنطلق صاعقة من أعماق شاعر تجتمع فيه ملامح الرسام والموسيقي في آن واحد، وتتناثر أقواله الصاخبة بأنصاف المعاني والدلالات الغائمة المتعمدة والمقصودة، المحبوكة بالمجازات والاستعارات المنمَّقة لترجمة إعصار الأحاسيس الملتهبة وأضمومة الرُّؤى القلقة السارحة. ويعود ذلك إلى إيمان "نيتشه" بالذاتيّة المُطلقة التي لا تقف عند حدّ، وإلى ضرورة التفلسف؛ فالحياة لا تمرّ ولا تنقضي بلا أوهام، والحقيقة ما هي إلا سائل مائع لتيار الظواهر والأشياء الأزلي الذي لا ملامح ولا سمات له، وأنّ الفنان الموهوب مَن يصهر ما هو كوني بما هو تجاربي وحياتي في وحدة متماسكة لا تنفصم، والعبقري من يقرِّر وجوده ويحدِّد كينونته من خلال اختلاق الشعر وتشييد الأساطير، التي لا تُقارن ولا تُقاس بالدافع الموضوعي، لأنّ هذا الواقع وهم والحياة رؤية أثيرية عابرة، ودراسة الواقع من اختصاص تلاميذ المدارس وانشغالاتهم، ويبيح "نيتشه" استخدام جميع الوسائل والأدوات من صروف المبالغات والاختلاقات لإخضاع المُشاهد والمُستمع ليحسَّ بالجميل ويستحسنه، ويرى أنّ كل شيء مُباح في الفن ما دام مُباحًا في الأخلاقيات. وعليه، فإنّ الثقافة تفقد الطابع الإبداعي لقوّتها الطبيعيّة إذا سارت دون أساطير وأباطيل واختلاق أوهام وتصوُّرات زائفة بعيدًا عن اليقينيّات الجامدة.
غموض فلسفة "نيتشه" وضبابيّة جماليّاته وخطورتها كانت تستدعي من وزارة الثقافة أن تستدرك، وتضع مقدّمة لإصدارها كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، توضّح فيها بعض مكامن اللبس والإعتام واللجاجة وسوء المخارج؛ فالكتب التي تنشرها الوزارة مخصّصة لسائر شرائح المجتمع والجمهور الواسع، الذي يحتاج إلى بعض من مؤونة فكريّة تعينه على التمحيص وتجاوز تعقيدات الأعمال الفنيّة والفلسفيّة، وترسم له دروب النجاة من مفاعيلها الخطرة وغير الآمنة.