د. حكمت النوايسة
ناقد أردني وباحث في التراث غير المادي
بالاستناد إلى بناء رواية "من زاوية أنثى" نجد توزيع الرُّؤية قد جاء متماسكًا، فهناك "الرُّؤية من الخلف"، و"الرُّؤية المصاحبة"، و"الرُّؤية من الخارج"، ومع أنّ السارد يتخفَّف من "الرُّؤية من الخلف" باللجوء إلى "السّيريّ" من خلال المدوّنة الشخصيّة، إلا أنّ "الرُّؤية من الخلف" كانت مسيطرة، ولكنها في الوقت نفسه عملت على تعميق التماسك الروائي.
يبدو هذا العنوان غريبًا بعد قراءة رواية "من زاويةٍ أنثى" للروائي محمد حسن العمري، ولكن المفتاح الذي أطمئنَّ إليه، أنّ الضمير المتكلّم في الرواية يقف أمام جمهوره، ويكلّمهم؛ ففي غير مفصل من مفاصل الرواية التي جاءت على شكل مدوّنات إلكترونيّة، كأنها صفحات الفيس بوك، أو الصفحات الرسميّة لأصحابها في الشبكة العنكبوتيّة، وغيرها، ظهر الراوي كالذي (يفتح الرُّؤوس ويعرف ما فيها) وفق تعبير النقّاد الروس، وما عبّر عنه بالرُّؤية؛ الرُّؤية من الخلف، الرُّؤية المصاحبة، الرُّؤية من الخارج، حيث يعرف الراوي في الرُّؤية من الخلف أكثر من الشخصيّة، ويعرف الراوي في الرُّؤية المصاحبة بمقدار معرفة الشخصيّة، وأمّا الرُّؤية من الخارج، فإنّ الراوي يعرف فيها أقل من الشخصيّة، وهذه الحالة هي الحالة الديمقراطيّة التي تجعل الرواية فنًّا ديمقراطيًّا، وتجعل الشخصيات تظهر على مسرح النص، ولا يستبين القارئ الخيط الذي يحرّك فيه الراوي الضمني/ المؤلف معرفة الشخصيات.
تبدأ الرواية بالرُّؤية من الخلف، البؤرة صفر، من قرية "تلّ البراغيث" التي أصبحت "تلّ الورد" فيما بعد، عندما أصبح ابنها "ظافر" وزيرًا وغيَّر اسمها، وتبدأ أيضًا بعتبتين، الأولى تشكّل إهداءً، والثانية تشكل مرسومًا ليدخل القارئ فيه الرواية، في العام 1970، حيث عائلة "محمود" التي أغرق السيل خرافها ونجا الطفل "ظافر" من فم ضبع عندما التقطه "أبو علي" وأعاده إلى أمه، وعائلة "أبي علي" شريك "محمود" في التجارة، وصديقه في الحياة، وتحكي الرواية بعض أحداث أيلول، والعلاقة بين الفدائيين والمدنيين، وبعض التقاطعات التي لم تخضع لقوانين الحرب المفروضة بين الطرفين كإسعاف الفدائي "أبي ليلى"، وإصرار "أبي علي" على غسله والصلاة عليه على الرغم من كونه مسيحيًّا، وغيره من الأمور التي تنظر لتلك الأحداث من زاوية محايدة، سواء أكان من الرواة، أم من قراءة الراوي للتفاصيل في وثائق الأحداث، ويضعنا الراوي في محطة مؤلمة وهو يقرأ أسماء المشاركين في تلك الحرب، وقد كانوا من المشاركين في معركة الكرامة، سواء أكانوا من الجيش العربي، أم من الفدائيين من منظمة "فتح".
من تلك الأجواء يخرج "ظافر" و"عليّ" صديقين، يتميّز "علي" بالذكاء العلمي، ويتميّز "ظافر" بالذكاء الاجتماعي، يدرس "ظافر" القانون في الجامعة الأردنية منحة لأنَّ أباه كان عسكريًّا متقاعدًا، وأحد جرحى معركة العام 48، ورافقه جرحه عرجةً في رجله إلى أن مات.
وفي الجامعة سطع نجم "ظافر" الذي تعاون مع مؤسسات الجامعة، وحاز رضاها في مواجهة موجات الاحتجاج التي أعقبت هبّة نيسان، في العام 1989، والتحوُّل الديمقراطي الذي نشأ في الأردن، ومن هناك ارتقى إلى أن وصل إلى مرتبة وزير دولة في إحدى الوزارات.
• مدوّنة "ظافر": بين البؤرة الخارجيّة والبؤرة الداخليّة
تنتقل الرواية في إطار واضح بعنوان واضح إلى حديث "ظافر"، هكذا: المدوّنة الشخصيّة، "ظافر محمود". ولكنّنا نقرأ في الهامش أنّ هذه المدوّنة نُشرت بموافقة صاحبها، وهنا ينقلها من ديمقراطية الخطاب إلى ديمقراطية الوثيقة، كما ينقلنا الهامش من وهميّة السّرد والتخييل الروائي إلى الإيهام الوثائقي، فضلًا عمّا نجده في هذه (المدوّنة) من حيلة سردية تتعلّق بالرُّؤية، ذلك أنّ "ظافر" أراد أن يضيء شيئًا من شخصيّته أثناء طفولته، فعثر على هذا الشيء عند مدير المدرسة الذي زاره في مكتبه طلبًا للمساعدة في توظيف ابنه، فطلب منه "ظافر" أن يحدّثه عن طفولته في المدرسة، فيتحدّث المدير، ونجد جزءًا من المدوّنة/ السيرة على لسان المدير(ص40).
ونعثر في هذه المدوّنة على حدث له أهميّة في تكوين شخصيّة ظافر فيما بعد، وهو علاقته بالدكتور (عبدالحميد القلب) الذي يعدّه نموذجًا لأستاذ الجامعة السّيّئ؛ فهذا الأستاذ ميّال إلى النساء، وجهوي، أو (عنصري) يضع العلامة وفق ذلك، وعندما يطلب منه "ظافر" في سنته الأولى تأجيل الاختبار يكون ردّه ردًّا غير متوقَّع، ويصف مجتمع "ظافر" كلّه بعدم الأحقيّة في دراسة القانون، وأنّ هذا المجتمع ليس له إلّا الفلاحة والزراعة، وأنّ للقانون أهله إلخ، وهنا نحن أمام السرد الذاتي، والرُّؤية من الخلف، إذا عددنا "ظافر" راويًا ثانيًا، فهو يروي ما حدث معه في مقابلة الدكتور "القلب"(ص47)، أو "الكلب" كما يسمّيه، وإذ يتخفَّف السارد من الرُّؤية من الخلف، ويحتال بالسّيريّ من خلال المدوّنة الشخصيّة، فإننا أمام رؤية ناقصة، إذ لم نسمع من الدكتور "القلب" شيئًا عمّا وصفه به "ظافر" على مساحة النص، وهذا من إشكالات السيرة الروائية في مجال الرُّؤية، حيث تنتقل الرواية من كونها فنًّا ديمقراطيًّا، يسمح للشخصيات بالظهور على مسرح النص إلى المناخ الانتقائي الذي يسمح لبعض الشخصيات بالظهور دون الأخرى، وهو ما يجرّ القارئ إلى التعاطف مع الشخصيّة الساردة، دون أن يُعطى المجال لسماع/ قراءة وجهة نظر الشخصيّة الأخرى، ونحن هنا نتعاطف مع طالب الجامعة الطامح النَّشط، ولا نتعاطف مع أستاذ الجامعة لأنَّنا لم نسمع منه إلا نقلًا، وربّما نتعاطف معه فيما بعد عندما جاء "القلب" إلى مكتب "ظافر" بعد أن أصبح وزيرًا، جاءه مقدِّمًا طلبًا ليصبح خبيرًا دوليًّا، فكانت المقابلة الانتقاميّة التي قابله بها ظافر، ومات بعدها بسكتة قلبيّة.
وفي مدوّنة "ظافر" نجد الرُّؤية من الخلف عندما يكون الحديث عن "سعديّة"، الحبيبة والزوجة فيما بعد، فهو بين الاعترافات، والحديث الجوّاني، والسرد الموضوعي، والسرد الذاتي، وهذا ديدن السرد السيرذاتي، إذ لا تسيطر رؤية محدَّدة، وإنَّما تتعدَّد الرُّؤى بين الرُّؤية من الخلف، والرُّؤية المصاحبة، والرُّؤية من الخارج عندما ينقل عن "سعديّة"، أو يضعنا في أجواء الحوار كما في الصفحة 69، والحديث عن ابنهما "محمود" المُصاب بالتوحّد.
وفي زواجه الثاني من "هيام" كان السرد مصطبغًا بالنمط السيرذاتي، ولم نجد لـِ"هيام" صوتًا بقدر ما وجدناه لـِ"سعديّة" في هذه المدوّنة.
• صوت المؤلّف والتخطيب التبويبيّ
والتخطيب هنا تخطيب تبويبيّ، يأتي في أبواب الفصول، أو بعض أبوابها، ومن هذا ما جاء في الصفحة 85، إذ يختار من قصيدة امرئ القيس المشهورة (بكى صاحبي) وقصيدة قطريّ بن الفجاءة (أقول لها) محدِّثًا نفسه، ثم يختار من آراء "روسّو" رأيًا انتقائيًّا حول شعور الشخص عندما يتعرَّض للازدراء، وما يترتَّب على هذا الشعور في سلوكه فيما بعد. وربما يكون ما يجمع هذه الاختيارات هو الطموح، وما يتطلّبه الطموح من مغامرة، وقوّة.
ثمّ تأتي حيلة روائيّة أخرى، هي ورقة مكتوبة محفوظة لدى "أم ظافر"، كان قد كتبها "أبو ظافر"، قبل مماته، يشرح بها إصابته في حرب الـ(48)، ويوصي "ظافر" باستخراج الرصاصة من ساقه ووضعها مزيّنة في بيته.
يبدأ الفصل الثاني بعنوان جذّاب: "سعديّة... جاذبيّة المرأة والروح والسموّ"(ص90)، وقد جاء هذا الفصل مبوّبًا بأرقام، حيث بدأ بالحديث و(الرُّؤية من الخلف) عن "سعديّة"، ووفاة والدها "سيد عبدالرحمن" وقد دهسته شاحنة، وتعرُّضها للظلم بإقناعها بالتنازل عن حق لم تفهمه ليعود السائق الذي دهس أباها إلى بيته في اليوم نفسه. ثمّ انتقال "سعديّة" للعيش مع عائلة المحامي "سفيان الخطيب" صديق والدها، ونسمع صوتًا ربّما للمؤلف، أو الراوي الضمني، يتحدّث عن الطفولة، وعن موت الآباء، وعن الحياة، وهذا مرتبط بالتخطيب الذي جاء في مدخل الفصل، فهو حديث مليء بالشجن والإنسانية والشاعرية(ص99).
• الوقفة الوصفيّة: الوقفة الحرّة والوقفة المُؤدلَجة
تُعدُّ الوقفات الوصفيّة من أساليب التوريط الجمالي، للتعاطف أو اللاتعاطف مع الشخصيّة أو الحدث، ومن الرواية نقتبس هذه الوقفة: "سمراء جميلة ترتدي أجمل التنانير القصيرة دونها كولونات شفّافة تتَّخذ لون بشرتها الداكنة... تكشف فتنتها بجسد يجمع بين اللاعبات القويّات"(102)، ونحن هنا نغادر، لا شعوريًّا، مضامير البحث عن الرُّؤية، لأنّنا أمام وقفة وصفيّة تورّطنا بالتعاطف الجمالي مع (شكل) "سعديّة" بعد أن نتساءل:هذا كلام مَن؟ والوقفة الوصفيّة عادة تكون محايدة، تترك الأشياء تتحدّث عن ذاتها، ويوقف القارئ القراءة، أو يعلّقها ليتبيّن الجمال أو عدمه، وتصبح غير محايدة عندما يتسلّل منها صوت (الواصف)، وعينه.
ومن خلال الرُّؤية من الخلف نتعرَّف على شخصيّة "سعديّة"، وتكوّنها المساند للفقراء، وانتمائها السياسي، ومشاركتها في حملة النائبة الشركسية المعارضة توجان فيصل...إلخ، وتعرّفها إلى "ظافر محمود"، وزواجهما وهما طالبان، كما نعرف قصّة والدتها اليمنيّة من خلال أحد جرحى الحرب اليمنيّة في العام 1994؛ إذ جاء للأردن للعلاج، حيث كان هذا الجريح خالها، وأخذ يسأل عنها إلى أن اهتدى بأن زارته في المشفى، وأخبرها بوفاة والدتها "إيلاف".
وننتقل إلى الجزء الثاني من هذا الفصل إلى مدوّنة "سيف الخطيب"، ابن المحامي "سفيان الخطيب"، وهذه المدوّنة كُتبت باللغة الإنجليزية، وتُرجمت في هامش الرواية، ولا أجد أيّ مسوّغ لكتابتها باللغة الإنجليزية، إلا محاولة الإيهام السردي، أي أنها منقولة عن مدوّنة لمدوِّن يعيش في لندن، ويكتب باللغة الإنجليزية، ويبدو لي هذا المسوّغ ضعيفًا، إلا إذا وجدت له مسوّغًا آخر، خاصّة وأن المدوّنة مترجمة في الهامش.
في هذه المدوّنة يعرِّف "سيف" بنفسه وعائلته، وأصل تسمية الخطيب، وحياته في لندن، وعلاقته الخاصة بسعديّة التي تعدُّ أقرب المقرّبين إليه، ووجهة نظره بـِ"ظافر محمود"، فنرى في هذه المدوّنة رأيًا آخر بـِ"ظافر"، قد يوافق رأي "سعديّة" بعد عِشرةٍ معه.
في الحزء الثالث من هذا الفصل نقف مع مدوّنة "سعديّة موسى"، وفيها حديث عن "ظافر"، وما وفَّرته له من ظروف تساعده في السير في طريقه التي ارتضاها لنفسه، على الرغم من موقفها المعارض للحكومة، وانتمائها لحزب يساري، ونقرأ عن كبحها لـِ"ظافر" من الانتقام من "عبدالحميد القلب"، وترى أنَّ نهاية هذا الأستاذ كانت على يد زوجها "ظافر" عندما طرده من مكتبه وأهانه وأصيب بعدها بسكتة وهو يغادر مكتب "ظافر".
وتأتي القصّة هنا منقولة بلسان سعديّة، ولسنا أمام شخصيّة لنعرف مدى معرفتها، وإنّما أمام حدث، وهذا الحدث هو ما تمّ في مكتب "ظافر" مع "عبدالحميد"، وتفاصيل تلك المقابلة الدقيقة، ولا بدّ أن تكون "سعديّة" قد بنت القصّة من تكرار "ظافر" لها، ونحن هنا أمام راوٍ ثانٍ للحدث.
تتواصل المدوّنة بطبيعة الحياة مع "ظافر" حتى قراره الزواج، والارتباط بـِ"هيام"، وهنا تصبح العلاقة علاقة أخرى، ولكنها ليست ككل علاقة بين أي امرأة ورجل يريد أن يتزوج عليها، وإنّما علاقة امرأة قويّة أدارت صراعها إدارة قويّة، حكيمة.
وعلى الرغم من هذه القوّة والحكمة، فإننا نقف على مشهديّة إنسانيّة رائعة تديرها، وتنقل أحداثها "سعديّة" في حديث جوّاني، ورؤية مصاحبة، حيث تتأمَّل ملابسه، وترتِّبها بتؤدة، وتعيد ترتيبها، بقلب ويد عاشقة، وحديث قلب جريح... مع هذا تدير، فيما بعد، علاقة ودٍّ مع "هيام" التي ستصاب بالسرطان وتموت به.
وتطلّ علينا حكمة "سعديّة" عندما تصف زواج "ظافر" من "هيام": "لم يخدعني، ولا أحسبه خدع هيام، رجل لا يعرف المخادعة، يذهب إلى هدفه دون أن يحسب عواقبه..."(145).
وفي المدوّنة نقرأ عن مرض التوحّد ما يصحح الأخطاء الشائعة عنه، وهو ما يضعنا في أجواء انشغالات "سعديّة" الخاصة تجاه ابنها المصاب بالتوحّد.
كما نجد "بوست" آخر عن "حنة آرندت" اليهودية المناوئة للدولة العبرية، وتختار من كلامها ما تجد فيه عزاء لها، أو توصيفًا لعلاقتها بـِ"ظافر"، وتنقل عنها: "المعاناة من الخطأ أهون بكثير من ارتكاب الخطأ؛ لأنّ المظلوم ممكن أن يكون صديقًا للشخص الذي أوقع عليه الظلم، أو لأيّ أحد في هذا العالم، ولكن الظالم لا يجد مَن يصادقه"(146).
• عودة إلى الإيهام بالوثيقة: وثيقة قادمة من القبر
في استدخال غرائبي، تأتي وثيقة كتبها "سيد عبدالرحمن" من قبره، وفيها يعرّف بنفسه، وأبيه، وزوجته "إيلاف"، وحرب اليمن، قبل توحيدها، وابنته سعديّة، وعلاقته بالمحامي "سفيان الخطيب" ووصيّته له بـ"سعديّة". وتأتي الوثيقة حيلة سرديّة للتعريف بـ"سيد عبدالرحمن" الذي لا يعرف التدوين/ الزمن/ الإلكتروني، والعجائبي هنا أن تكون هذه الوثيقة في مكتب ابنته "سعديّة"/ المحامية(ص147)، والمهم هنا الربط بين أمنيته في العودة إلى الحياة للحفاظ على "سعديّة"، والإشارة إلى الخدش الذي في جبينها، وهو خدش أحدثه "ظافر" الطفل الذي أتى به أبوه ليعالجه الشيخ من عدم النُّطق في جبين الطفلة "سعديّة" التي أتى بها أبوها ليعالجها الشيخ من مرض ما، ولا يعرف أحدهما أنَّ الأيام ستجعل ذلك الطفل يتزوّج تلك الطفلة، كما أنّهما لا يعرفان الآن سبب ذلك الخدش، وتنتهي الرواية دون أن يعرف أيّ منهما سببه، ولكنّ الرمزيّة في هذا الخدش تكمن في أنّ مَن يساعد "سعديّة" بإزالته هي "هيام"، ضرّة "سعديّة" التي تدلّها على طبيب ماهر يزيل الخدش الذي كان يشكّل هلالًا في جبينها.
• الفصل الثالث: "هيام"
يخصّص هذا الفصل لـ"هيام"، الزوجة الثانية لـ"ظافر"، وهنا تسيطر الرُّؤية من الخلف، ونعرف عن "تلّ الورد"، وعائلة "أبي علي"، وأولاده الأربعة، ثلاثة شباب وفتاة/ هيام التي تصبح طبيبة، ويصبح الشباب مهندسَيْن ومعلّم رياضيات متفوّق، ويتزوّج الشابان "محمد" و"محمود" ابنتي الدكتور سفيان المغترب في لندن، "سارا" و"زارا"، وتكون الوساطة في التعارف "سعديّة".
أمّا "علي" المتفوق بالرياضيات فيتّهم بالانتماء لخليّة إرهابيّة ويحكم بالإعدام، ويُفرج عنه عندما تثبت براءته.
تتزوّج "هيام" من ابن بلدتها "ظافر"، الذي تولّى الدفاع عن أخيها محاميًا، واستطاع إثبات براءته، وإذا كان هذا الفصل مقدّمًا بالرُّؤية من الخلف، فإنّه لم يخلُ من (التخطيب الروائي) عندما يتساءل السارد عن سرّ زواج "هيام" من "ظافر"، ويقترح السبب: "ذلك من غرائز الجسد ونزوات القلوب.. هذه القلوب الراجفة تحت سياط الحب والرغبة والغرائز"(ص170)، كما سنرى الراوي العليم الذي يفتح الرؤوس "كان في عالم مختلف.. كان غارقًا في شفتيها وهي تتكلم دون أن تعي شيئًا"(171).
الجزء الثاني من الفصل الثالث للأستاذ "علي"، وقد جاء بصوت "عليّ"، أي الرُّؤية السيرذاتيّة، المصاحبة، هو الراوي والشخصيّة معًا، وفي المدوّنة نرى وجهة نظره في المعتقل، وأثره في نفسه، ومحاولته الانتحار، وبعض الأخبار عن العائلة، ونرى تذييلًا هامشيًّا عن آراء ابن تيمية التي يضعها "علي" في سياقها التاريخي، وينتقد مَن يحاول السكن في الماضي، ومغادرة الحاضر والمستقبل معًا(195).
حيلة سرديّة أخرى نجدها، مَن الراوي؟ أو المؤلف لهذه الرواية؟ وهو بما يسمّى الرواية داخل الرواية، ونجد أنَّ المؤلف هو غير الاسم المكتوب على غلاف الرواية، وإنما هو لباحثة أردنيّة مهتمّة بتوثيق التراث الأردني...(ص198).
الجزء الثالث من هذا الفصل هو مدوّنة الدكتور "إلياس"، و"إلياس" هو الطبيب المختص بالأورام السرطانية، وهو الذي تقدّم لخطبة "هيام"، ولكنها رفضته، فاستمرّ على رفض الزواج، ويأتي القدر على يديه بأن يستأصل ثديي هيام المصابين بالسرطان، فنجده بين المتشفّي، والطبيب الوفي لقسمه الطبي.
الجزء الرابع من هذا الفصل هو (مدوّنة الدكتورة هيام أبوعلي)، وهو مدوّنة مكتوبة بضمير المتكلم، وبالبؤرة الداخليّة، والرُّؤية المصاحبة، وفيها نجد أن المدوّنة قد كتبت في غرفة العمليات، أثناء تلقيها العلاج من مرض السرطان، ونجد تداعي الذكريات، وانكشاف الذات على ما يؤلمها من فعل قامت به، هو زواجها من "ظافر"، وطعنها لزوجته "سعديّة" التي لا تستحق هذه الطعنة، ثم الانفتاح على الذات بأسئلة تحاول بها الإجابة عمّا قامت به، ونرى ارتفاع اللغة الشعريّة عندما تصف بدايات العلاقة التي توطّدت بينهما قبل الزواج، ثمّ قرارهما بالزواج، وفي هذه المدوّنة نجد أجلى وجوه عنوان الرواية، مِن زاوية أنثى، ففي المدوّنة الحوار الجوّاني الذي تديره "هيام" باقتدار، وبلغة شاعرة، وانكشاف وكشف عن الأفكار، وتداعيها، والشعور بالندم، قبل الزواج لا بعده، وتيار الحب الجارف الذي قادها إلى ذلك الزواج، ووصفها لـ"سعديّة" واعترافها بقوّة "سعديّة" وطغيان شخصيتها، وإنسانيتها أيضًا. لغة "هيام" في مدوّنتها لغة شاعرة لا لغة طبيبة، وهو ما يذكرنا أنها كتبت ديوانًا من الشعر بداية حياتها الطبية، ثم غضّت الطرف عن المسير في طريق الكتابة إلى أن جاءت هذه اللحظة التي يكون فيها الإنسان أمام ذاته، وتكون فيها الكتابة الرفيقة الجميلة التي يستطيع بها الإنسان أن يفلت روحه تحلّق مخفّفة من أوزارها.
• التبويب الختامي أو العتبات النهائيّة
هنا تأتي الرُّؤية البصريّة منقولة بعين الكاميرا، ولكنّها بالضرورة رؤية من الخلف، نظرًا لانتقائيتها، وما تمثله من معان:
مركز الهيام الطبي....
مركز الظافر... للإيجار
مرشحتكم للتغيير سعديّة موسى
ويذكِّرنا هذا التبويب الختامي بالقطع السينمائي، ولكنّه يجعلنا نعيد ترتيب القراءة التي أنهيناها ونتأمّل ما آلت إليه الشخصيات، ويذكِّرنا أيضًا بأنَّ الشخصيات الرئيسة الفاعلة في هذا العمل الروائي هي هيام، وظافر، وسعديّة.
ثم نهاية الرواية باسم الراوي الذي يدوّن اسم المؤلف صراحة (محمد العمري) ويخالف ما ورد في أثناء النص من أنّ ابنة الباحث الأردني الشهير في التراث هي التي كتبتها.
ومِن تتبُّع الرُّؤية في الرواية نجد مفاصل الرُّؤية من الخلف، التي يعرف فيها الراوي أكثر من الشخصيّة قد تكرّرت ثماني مرات، وتكرّرت الرُّؤية المصاحبة، التي تكون فيها معرفة الراوي مساوية لمعرفة الشخصيّة ست مرات، بينما تكرَّرت الرؤية من الداخل، التي تعرف فيها الشخصيّة أكثر من الراوي مرّة واحدة، وتكرَّر النموذج السير ذاتي مرتين، وتكرَّر وجود الراوي العليم مرتين، وتكرَّر التخطيب الروائي مرتين، وتكرَّرت الوقفة الوصفيّة مرتين.
وبالاستناد إلى لغة الأرقام، فإنّنا نجد سيطرة للرؤية من الخلف، ولكن بالاستناد إلى بناء الرواية نجد توزيع الرُّؤية قد جاء متماسكًا، إذا ما عرفنا أنّ الرُّؤية من الخلف المسيطرة قد جاءت لتعميق هذا التماسك الروائي، فيما جاءت الرُّؤية المصاحبة لإتاحة الفرصة لظهور الشخصيات بأصواتها على مسرح الرواية، وكذا النموذج السير ذاتي، والظهور الوحيد لنموذج الرُّؤية من الخارج، أو من الخارج مسوّغ في مثل هذه الرواية التجريبيّة، التي حاولت أن تزاوج بين انتمائها لزمنها، وانجذاب أحداثها لزمن فائت.