فؤاد خصاونة
كاتب وأكاديمي أردني
احتَلَّت صناعة الرُّسوم المتحرِّكة الصينيّة مراتب متقدِّمة ودخلت كمنافس قوي خلال العقود الماضية من باب صناعة التَّرفيه الثقافي، فصناعة الرُّسوم المتحرِّكة شهدت تنافسيّة عالميّة كبيرة نظرًا لِما تحمله من أبعاد ثقافيّة وتنويريّة وتربويّة في تنشئة الشباب، إضافة إلى دورها المهمّ في الترويج الثقافي والمحافظة على العادات والتقاليد في البلدان المختلفة.
نعيشُ اليوم في عصر الإعلام الجديد، حيث تصدِّر البلدان المتقدمة قِيَمها الثقافيّة وأيديولوجياتها إلى البلدان النامية عن طريق الرُّسوم المتحرِّكة، التي تُعدُّ مؤثِّرًا قويًّا على جيل الشباب، لذلك قامت الصين باتِّخاذ حزمة من الإجراءات النشطة في باب صناعة التَّرفيه، وإثرائها، ونشر الثقافة الصينيّة، وتعزيز الثقة الثقافيّة من خلال الرُّسوم المتحرِّكة، وتمثَّلت الإجراءات الأولى في نشر القصص والأساطير الصينيّة، وهذا النشر القصصي تمَّت صناعته بمسلسلات وأفلام رسوم متحرِّكة ساهمت في تشكيل صورة ذهنيّة جديدة لدى الشباب عن الصين وعزَّزت مفهوم القوّة الناعمة الذي اتَّخذته الصين منهجًا لها.
في الشهور الماضية كنتُ قد استمتعتُ بحضور محاضرة ألقاها مدير معهد الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة لجامعة التكنولوجيا في بكين البرفسور "وانغ قوة هوا" عن تطوُّر الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة في الصين، وهو ما أثار شجوني عن هذا التطوُّر الهائل للرُّسوم المتحرِّكة ودخولها كحيِّز ثقافي مهمّ، فصناعة الرُّسوم المتحرِّكة الصينيّة قد احتلّت مراتب متقدِّمة ودخلت كمنافس قوي خلال العقود الماضية من باب صناعة الترفيه الثقافي، فعالم صناعة الرُّسوم المتحرِّكة في العالم شهد تنافسيّة كبيرة لِما يحمله من أبعاد ثقافيّة وتنويريّة وتربويّة في تنشئة الشباب، إضافة إلى دوره الكبير في الترويج الثقافي والمحافظة على العادات والتقاليد في البلدان المختلفة.
وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى الإجراءات الحكوميّة في الصين والتي ساهمت في صناعة الترفيه، فخلال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، تمّت الإشارة إلى أهميّة صناعة الترفيه، وبالأخص صناعة الرُّسوم المتحرِّكة والتي تُعدُّ جانبًا مهمًا من جوانب الثقافة الصينيّة لِما تحمله من رساله ثقافيّه على أنَّها "روح البلد والأمّة"، ولا بدّ من الإشارة إلى حالة الوعي التي ساهمت في النشر الثقافي في الصين، لأنَّ ذلك قد اعتُبر سببًا في قوّة الأمة، فدون الثقة الثقافيّة، لن يكون هناك تجديد كبير وازدهار ثقافي للصين.
إنَّ صناعة الرُّسوم المتحرِّكة ما هي إلا عبارة عن تجريد وصقل للعالم الحقيقي، ونشر القيم الثقافيّة والأيديولوجيات بشكل غير محسوس، ومن خلال الرُّسوم المتحرِّكة يمكننا تعدّي حاجز اللغة في التواصل، وتصبح الرُّسوم المتحرِّكة هي الناقل الرئيس للثقافة، بل تساهم أيضًا في تشكيل المعايير الجماليّة والعادات الثقافيّة وسلوك المستهلك. وقد لعبت الرُّسوم المتحرِّكة الصينيّة دورًا مهمًّا في هذا المجال، وتطورت صناعة الرُّسوم المتحرِّكة في الصين مع صعود الاقتصاد الصيني.
جاءت بدايات عمليّة صناعة الترفيه بعد تأسيس جمهوريّة الصين الشعبيّة، وكانت الرُّسوم المتحرِّكة بمثابة نموذج تعليمي للأطفال والمراهقين في البداية، ومنذ نجاح فيلم الرُّسوم المتحرِّكة "Heroic Little Sisters of the Grassland" عام 1965 وقدرته على نقل الواقعيّة الاجتماعيّة الصينيّة في الرُّسوم المتحرِّكة بدأت عملية التنبُّه لأهميّة استخدام الرُّسوم المتحرِّكة في النشر الثقافي، ومسلسل "The Buffalo Boy's Flute" عام 1963 وأيضًا مسلسل الرُّسوم المتحرِّكة "After School" عام 1972 الذي نجح في تعليم القيم الاجتماعيّة للحزب، وبعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، تطوّرت صناعه الرُّسوم المتحرِّكة في الصين وزادت عملية الانفتاح، بالإضافة إلى التطورات الحاصلة على الهيكل الاجتماعي، والنظام الصناعي، والنظام الاقتصادي، وتغيّرت مفاهيم الناس الثقافيّة ومفاهيم الاستهلاك والقيم أيضًا، لتبدأ عملية جديدة في صناعة الرُّسوم المتحرِّكة لمواجهة التغيُّرات في المجتمع الصيني، ولتنافس التدفُّق الكبير لأفلام الرُّسوم المتحرِّكة الأوروبية والأميركية، وبعد عام 2004 كان للسياسات الحكومية الفاعلة دورٌ كبيرٌ في التنمية الثقافيّة للشباب الصيني ونشر الرُّسوم المتحرِّكة الصينيّة في الخارج، وكنّا قد شاهدنا فيلم الرُّسوم المتحرِّكة الروائي "Thru the Moebius Strip" الذي أنتج في العام نفسه.
ومنذ العام 2007، أصدرت وزارة التجارة الصينيّة والهيئات المختصة بالثقافة والترفيه مجموعة من الكتيِّبات والإرشادات حول صناعة وتصدير المنتجات والخدمات الثقافيّة، والتي كانت في مجملها تصبّ في مجال صناعة الترفيه الثقافي، ومنها ما نصّ على أنّ "أيّ شركة تم تحديدها على أنها مؤسسة متخصصة في صناعة الرُّسوم المتحرِّكة يجب أن تمتلك حقوق الملكيّة الفكريّة للشخصيّات والقصص في منتجاتها الترفيهية، وأن تعكس في رسوماتها المتحرِّكة خصائص من الثقافة الصينيّة، ولديها قدرة على تسويق صناعتها الترفيهيّة عالميًّا"، كل ذلك ساهم في توسُّع نشر الثقافة الصينيّة حول العالم ودخول أفلام الرُّسوم المتحرِّكة شتى دول العالم، فالأمر لم يقتصر على الصناعة والتسويق التجاري للأفلام، بل أضحى وسيلة لنشر الثقافة والعادات والتقاليد الصينيّة حول العالم، ففي عام 2015 شاهدنا الإنتاج الرائع لفيلم الرُّسوم المتحرِّكة "Monkey King: Hero Is Back".
ومنذ العام 2016، أصبحت صناعة الرُّسوم المتحرِّكة الصينيّة تسير بخطى ناجحة نحو العالمية، وبات جزء مهمّ من نشر الثقافة الصينيّة قائمًا على الرُّسوم المتحرِّكة، ونجحت الشركات المتخصصة في الصين في تسويق ونشر الرُّسوم المتحرِّكة حول العالم، ونشاهد اليوم العديد من مسلسلات وأفلام الرُّسوم المتحرِّكة تغزو العالم وتساهم في نشر الوعي والترفيه الثقافي ونشر العادات والتقاليد الصينيّة، وقد شهدنا في الأردن عرض فيلم الرُّسوم المتحرِّكة (Boonie Bears: The Big Top Secret) والذي تمّ إنتاجه عام 2016 وهو الجزء الثالث من سلسله Boonie Bears الصينيّة.
إنّ صناعة الرُّسوم المتحرِّكة بالصين تسير بخطوات ثابته نحو التنافسيّة العالميّة وتساهم بشكل كبير بتعريف الشباب حول العالم بالثقافة الصينيّة والعادات والتقاليد، وحالة الوعي الثقافي هذه تسير بثبات إلى القوى الناعمة التي تستخدمها الصين كمنهاج يغزو العالم ثقافيًا، فاليوم نجد أنفسنا متأثرين ومطلعين بشكل أكبر نحو الثقافة الصينيّة وصناعتهم للترفيه الثقافي.