د. غسان إسماعيل عبدالخالق
أكاديمي وناقد أردني
يقفُ هذا الملف عند ظاهرة تصاعُد حضور الشخصيّة اليهوديّة في الرواية العربيّة، ويخلص المشاركون في الملف إلى أنَّ أسباب هذه الظاهرة ترجع إمّا لإدانة هذه الشخصيّة، أو للتمييز بين شخصيّة اليهودي الصهيوني واليهودي الإنسان، وفي بعض الرِّوايات تمَّ توظيف هذه الشخصيّة من أجل مجاراة واقع التطبيع السياسي مع إسرائيل، ثم الميل إلى استفزاز القارئ ولفت انتباهه، ثم مغازلة صنّاع القرار الثقافي العالمي طمعًا في التأهُّل لبعض الجوائز العالميّة!
بَعْدَ أنْ كلّفني رئيس وأعضاء هيئة تحرير مجلّة أفكار –مشكورين- بإعداد هذا الملف السّاخن، ظننتُ أنَّ عدد مَن استوقفهم التساؤل عن أسباب تصاعد الشخصيّة اليهوديّة في الرواية العربيّة قليل جدًا، لكنني -في خضم البحث عمّن يكون مفيدًا للإسهام في هذا الملف- فوجئتُ بأنَّ العدد أكبر بكثير ممّا كنتُ أظن، أي أنَّ الخرق اتَّسع على الراتق منذ زمن، لكن الغالبية الغالبة من العارفين/ المتسائلين، آثروا تجاهل المسألة ومالوا إلى دفن رؤوسهم/ أسئلتهم في رمال الواقع العربي المتحرّك، أسوة بكل طيور النعام في إفريقيا! وكأنَّ تجاهل الإشارة إلى إيداع مجنون الحيّ في مصحّة المجانين يمكن أن يتكفّل بنفي وجوده!
وأيًا كان الأمر، فقد يكون من لزوم ما يلزم، التنويه بحقيقة أنَّ أيّ بحث يتصدّى لدراسة ظاهرة تصاعد الشخصيّة اليهوديّة في الرواية العربيّة، لا بدّ أن يتوقّف في المحطات الرئيسة التالية:
• رواية (الوارث) لخليل بيدس، 1920.
• رواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ، 1947.
• رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني، 1969.
• رواية (أنا وحاييم) للحبيب السائح، 2018.
فما بين أوّلها وآخرها، جرى كثير من المياه والدماء والتحوّلات، تحت جسر الرواية والروائيين العرب، بدءًا من ذهنيّة الرفض المطلق مرورًا بذهنيّة التمييز بين الأيديولوجي والإنساني وانتهاء بذهنيّة استمراء (النوم في سرير العدو)!
وحتى أختصر على نفسي وعلى القرّاء، مشقة الجدل بخصوص ما يجوز وما لا يجوز الكتابة عنه في الثقافة العربيّة المعاصرة، فيسعدني أن أتطوّع لتذكير الجميع بالدِّراسة الاستشرافيّة اللّامعة التي أعدّها ونشرها، المناضل والكاتب الفلسطيني الفذّ، الشهيد غسان كنفاني، تحت عنوان (في الأدب الصهيوني)، وبتكليف من مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينيّة عام (1967)! كما يسعدني أن أتطوّع لنقل ما جاء في مستهلّ المقدّمة التي صُدّرت بها هذه الدراسة الرائدة، وقد كتبها مدير المركز أنيس صايغ: (هذه أوَّل دراسة بقلم عربي وباللغة العربيّة، على حدّ ما نعلم، في الأدب الصهيوني، بأساليبه وفنونه ومراميه السياسيّة العدوانيّة، خلال فترة طويلة من الزمن، ومن خلال آثار العشرات من الكُتّاب الصهيونيين البارزين. والذي دعا مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية أن يكلف الأستاذ غسان كنفاني بوضع هذه الدراسة -وكانت فكرتها ونواتها موجودتين لدى المؤلّف من قبل- هو شعور المركز بأهميّة هذه الناحية المهمّة من النّتاج الصهيوني التي أغفلها الباحثون العرب ممّن حصروا اهتماماتهم في الحقل السياسي فقط من الحركة والعمل الصهيونيين، بالرّغم من العلاقة المتينة التي يبيِّنها هذا الكتاب، القائمة بين السياسة وبين الأدب في الحركة والعمل الصهيونيين المذكورين)! وإذا كان من المتعذّر طبعًا المزاودة على مركز البحوث الفلسطينيّة وعلى الشهيد غسان كنفاني اللذين تصدَّيا لدراسة الأدب الصهيوني في خضمّ هزيمة حزيران، فإنَّ الأجدر بالمثقفين العقلانيين النقديين العرب، الآن، والشيء بالشيء يُذكر ويُقاس، أن يتصدّوا لرصد ومعاينة المِزَق التي لحقت بثوب الثقافة العربيّة بوجه عام، وبثوب السَّرد الروائي العربي بوجه خاص، في ضوء التحوُّلات التي طالت واقع الصراع العربي الإسرائيلي.
لماذا تتصاعد شخصيّة اليهودي في الرواية العربيّة؟ هذا هو السؤال الذي أجاب عنه -بجدارة واقتدار ملحوظين- الزملاء المشاركون في هذا الملف وهم: (د.تيسير أبوعودة، حسين نشوان، أمين دراوشة، ربيع ربيع، عاتكة الحصان). ومع أنهم أجابوا عنه من زوايا نظر متعدِّدة، إلا أنني سأسمح لنفسي بتلخيص إجاباتهم للقارئ العزيز على النحو التالي: لقد تصاعَدَت شخصيّة اليهودي في الرواية العربيّة لخمسة أسباب: إدانة هذه الشخصيّة بإطلاق، ثم التمييز بين شخصيّة اليهودي الصهيوني واليهودي الإنسان، ثم مجاراة واقع التطبيع السياسي مع إسرائيل، ثم الميل إلى استفزاز القارئ ولفت انتباهه، ثم مغازلة صنّاع القرار الثقافي العالمي طمعًا في التأهُّل لبعض الجوائز العالميّة!