ربيع محمود ربيع
أكاديمي وباحث أردني
عند محاكمة ظاهرة تصاعد صورة اليهودي في الرواية العربيّة، وقبل اتِّخاذ موقف منها، ينبغي لنا أن نسأل: مَن هو اليهودي الذي تتناوله أغلب هذه الروايات؟ هل هو "الإسرائيلي" أو "اليهودي" العربي الذي يعيش في الدول العربيّة ويحمل جنسيَّتها؟ وبما أنَّ اليهود العرب، الذين رفضوا الهجرة إلى "إسرائيل" وآثروا البقاء في بلادهم، هم أقليّة، فمن الطبيعي أن تتناولهم الرواية مثلما تتناول أيّ أقليّة أخرى، لكن لماذا تكون الحصّة الأكبر في مثل هذه الروايات التي صدرت في العقد الأخير للأقليّة اليهوديّة؟
لا يحتاج المتابع للساحة الثقافية العربيّة وللإصدارات الأدبية في العقد الأخير، إلى كثير من التأمُّل كي يلاحظ كثرة الروايات العربيّة التي تتناول اليهود موضوعًا لها، بل إنّ كثيرًا منها يحمل عنوانًا له علاقة مباشرة باليهود، من هذه الروايات على سبيل المثال لا الحصر: "اليهودي الحالي" و"حمّام اليهودي" و"غربة يهوديّة" و"يهوديّة مخلصة" و"أنا وحاييم" و"حماتي وشارون". وهو أمر يطرح كثيرًا من التساؤلات حول زيادة الاهتمام باليهود في الرواية العربيّة، إضافة إلى أنَّ هناك مَن يربط هذا التحوُّل بتوجُّه الدول العربيّة المتصاعد إلى تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني وفتح صفحة علاقات سياسية واقتصادية جديدة. ويستدلّ على ذلك من خلال الحضور الواضح لبعض هذه الروايات في الجوائز العربيّة، وذلك على اعتبار أنَّ الثقافة تتماشى مع التوجُّهات السياسية للدول وتمهّد لها الطريق.
نحتاج قبل أيّ محاولة لاتِّخاذ موقف تجاه هذه الظاهرة، أن نسأل أنفسنا عدة أسئلة تخص هذا الموضوع؛ فأولًا: مَن هو اليهودي الذي تتناوله أغلب هذه الروايات؟ هل هو "الإسرائيلي" أو "اليهودي" العربي الذي يعيش في الدول العربيّة ويحمل جنسيَّتها؟ ستكون الإجابة بأنَّ أغلب الروايات تتحدّث عن اليهودي العربي، وبما أنَّ اليهود العرب، الذين رفضوا الهجرة إلى "إسرائيل" وآثروا البقاء في بلادهم، جزء من الأمة العربيّة وهم مواطنون يحملون جنسيات البلاد التي يعيشون فيها، فإنَّ تناولهم في الأدب العربي أمر طبيعي ولا يقلّ شرعيّة عن تناول أيّ أقليّة عرقيّة أو دينيّة أخرى. ولقد شهدت الألفية الثالثة كثيرًا من الروايات العربيّة التي تناولت تاريخ الأقليات ومآسيها ومشاكلها، وقد تندرج كثير من الروايات التي تناولت الشخصيّة اليهوديّة ضمن هذا الباب.
ولكنّ سؤالًا آخر يطلُّ من بين ثنايا السؤال الأول: لماذا تكون الحصّة الأكبر في هذه الروايات للأقلية اليهوديّة؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، يجب ان نفرّق بين نوعين من الكتب المدموغ على غلافها وصف "رواية" وهما: الرواية التي تعبّر عن تجربة عميقة وتمثّل أدبًا حقيقيًّا من جهة، وبين الرواية الفقاعة التي تستجلب شهرتها من خارجها ومن اللعب على الأوتار الحسّاسة. ولأنّ الأخيرة غير واثقة بنفسها وبإمكاناتها الفنيّة فإنّها تستهدف جلب الانتباه بأي وسيلة متاحة، وأول هذه الوسائل العنوان؛ فنجدها تسعى إلى إثارة الانتباه من خلال عناوين مثيرة غالبًا ما تحمل دلالة على اليهوديّة بشكل مباشر. وهي قاعدة عامة لا تخلو من الاستثناء وسنعود إلى توضيح ذلك بعد قليل.
الرواية الفنيّة المكتوبة بنَفَس إبداعي أصيل لا تحتاج -غالبًا- أن تعلن عن محتواها بشكل دعائي مباشر، ولا تسعى إلى الاصطدام بمشاعر القرّاء بشكل سطحي لا يستهدف غير تحقيق الشهرة، بل تسعى إلى السيطرة على تفكير القارئ وتغيير وجهة نظره في الحياة؛ فهي رواية العُمق لا الانزلاق على السطح. ومن الأمثلة على هذه الرواية، من بين الروايات التي تناولت حياة اليهود العرب رواية "حارس التبغ" للكاتب العراقي علي بدر التي تدور حول حياة موسيقار عراقي يهودي يتعلّق قلبه بالعراق بعد هجرة يهود العراق شبه الإجبارية إلى "إسرائيل". وفي هذه الرواية يستكمل الكاتب كل الشروط الفنيّة والإبداعية، إنه يأخذكَ إلى عالمه ويذكِّركَ بيهود العراق الذين كان يمكن أن نكسب الكثير منهم في معركتنا ضدّ الصهيونيّة بدلًا من أنْ نسلِّمهم لها.
أمّا الرواية الفقاعة فهي عكس ذلك تمامًا؛ فهي فاقدة للشروط الفنيّة والإبداعيّة التي هي أساس الرواية، وجلَّ ما تقدِّمه هو تحقيق الشهرة من خلال استهداف جمهور واسع من الأشخاص غير المهتمين بالأدب والثقافة والدخول في صراع معهم. ذلك أنَّ قارئ الأدب المتمرّس يسعى إلى قراءة الروايات ذات الجودة الفنيّة، ومن الصعب الإيقاع بهذا القارئ في معارك خارج اهتماماته، كما ليس من مصلحة الكاتب مواجهته لأنه سيسعى إلى هدم المعمار الذي تقوم عليه الرواية وبيان أوجه الضعف فيها دون إطلاق التهم أو التركيز على نوايا الكاتب. وهو الأمر الذي يحرمه من الشهرة القائمة على لعب دور الضحية الذي يهاجمه المجتمع بسبب آرائه وكتاباته. أمّا الإنسان غير القارئ -بالمعنى الثقافي للكلمة- فهو الذي ينشغل بفكرة النوايا الكامنة خلف الأشياء، وبالتالي يسهل استفزازه وإثارته ويسعى إلى شراء الرواية ومحاكمتها محاكمة غير أدبية، إضافةً إلى أنَّ هذه الفئة هي التي تلفت انتباه الآخر- الغربي الذي يقوم بترجمة مثل هذه الأعمال والاحتفاء بها.
هناك شواهد كثيرة على أعمال تصدَّرت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا بسبب نجاحها في الحصول على تهمة "التطبيع بالكتابة"، ممّا أثار جدلًا واسعًا مثل الصخب الذي أثير مؤخرًا في السعودية بخصوص رواية "غربة يهوديّة" للكاتبة السعودية رجاء بندر، فقد حققت الرواية رقمًا قياسيًّا في قوائم الكتب الأكثر مبيعًا بعد أسابيع قليلة من صدورها على الرغم من اتِّهام الكاتبة من قِبَل روائيّة سعوديّة أخرى بالسرقة والاقتباس غير المشروع(1).
وإن كان ربط العنوان باليهود يأتي غالبًا لأسباب الدعاية والشهرة، فإنَّ هذه قاعدة لا تخلو من شواذ؛ فالروائي اليمني علي المقري -على سبيل المثال- أطلق على روايته اسم "اليهودي الحالي"، وكلمة "الحالي" في الدارجة اليمنيّة تعني "الجيّد"، والعنوان يستحضر يهوديًّا غير جيّد هو اليهودي الذي ترك بلاده ملتحقًا بالسرديّة الصهيونيّة التي هي بالأساس سرديّة كراهيّة، لكن أحداث الرواية تدور حول قصة حب مأساوية بين سالم اليهودي وفاطمة المسلمة، وهي قصّة حب تنتهي بالتمرّد على الواقع والحواجز الدينيّة، وإن كان سالم سيفقد محبوبته مبكرًا فإنه سيعيش مخلصًا لهذا الحب.
في "اليهودي الحالي" يسلّط الروائي الضوء على حقبة من تاريخ اليهود في اليمن، والظلم الذي تعرضوا له على يد الإمام، كما يسلّط الضوء على الكراهية والبغض اللذين يكنّهما الطرفان لبعضهما بعضًا في تلك الفترة. فهو لا يجامل التاريخ الرسمي الذي يرغب المسلمون في رؤيته بأحسن وجه، وفي الوقت نفسه يكشف عن آليّة عمل ماكنة الكراهية في السرديات الدينية، وكيف كان اليهود يحلمون بالبطش بالمسلمين والقضاء عليهم عبر استدعاء سرديّة المخلّص واستحضار حلم أورشليم المقدَّسة التي تحضر تتويجًا للكراهية. وفي وسط هذه الكراهية تضيق الدنيا بحب العاشقين، فحتى المقابر (مقابر اليهود والمسلمين) ستضيق بحبهما، وسيأتي من ينبش قبريهما ويخرجهما ليُدفنا في منطقة معزولة ومجهولة.
وأخيرًا، فإنّ تهمة التطبيع تهمة فضفاضة يمكن التلاعب بها بسهولة، وتوظيفها في العداوات الشخصيّة والكيد للكتّاب والمثقفين بغرض التشهير بهم. فالأوْلى أن يتمّ ضبط هذا المصطلح وتوضيح حدوده: فكيف يكون الكاتب مطبِّعًا وهو لم يُقِم أيّ علاقة مع الكيان الصهيوني؟ وكل ما قام به أنه كتب رواية عن أقليّة دينيّة تعيش في بلده، بوصفه وطنها الوحيد وترفض فكرة الهجرة إلى وطن زائف. ومن جهة أخرى يجب أن نفوّت الفرصة على مقتنصيها من أشباه الكتّاب والروائيين، بحيث يكون المعيار الفني هو صاحب الأولوية في محاكمة الأدب العربي.
- - - - - - - - -
• هامش:
، 25-1-2020.www.okaz.com.sa (1) انظر: