د. محمد السعودي
أكاديمي وكاتب أردني
العلاقة بين الثّقافة والمجتمع علاقة روحيّة في الأصل، وهكذا كانت في الشّهرين الماضيين. فحينما اضطرّ أهلنا للجلوس في بيوتهم بسبب الجائحة (كورونا)، وعلى الرّغم ممّا كان في الجوّ العام من خوف وترقّب، نهضت وزارة الثقافة ببرامج واثقة فرّجت فيها عليهم؛ فتلقوها بقبول بهيّ؛ ولذا فإنّ الحديث في إنجازات الدولة الأردنيّة ووزارة الثقافة هنا واجب علينا بعد انقضاء الإجازة، وإذا لم أذكر في البدء هذا، سأكون كمن يغمض عينيه عن دهشة الصباح، لنقول لمن اجتهد في الإعداد والتقديم والمشاركة والتحكيم: شكرًا على ما قدّمتم. وليس لي في هذا النتاج يدٌ أو جَهدٌ لأمتدحه، إنما أدوّنه هنا على تعلّقٍ منّي ومتابعة، وجِدّة أخذَت تزداد؛ وهي أن تصبح الثقافة والإبداع في بيوتنا مثل الماء، لا يخلو منه بيت، ولا يستغني عنه أحد، فأُسقينا من بين الفنون النّثريّة والشّعريّة والموسيقى والرّسم والتّمثيل وغيره إبداعًا نضرًا أسرّ عددًا كبيرة من النّاس.
إنّ مثل ما شَرَعت به وزارة الثّقافة من أعمال غير نمطيّة أثناء الجائحة كمثل من يبذر حقله فينتظر حصاده؛ فرعاية النّفوس أوْلى من أيّ رعاية أخرى، بل إنَّ بناء الإنسان مقدّم على أيّ بناء، كيف لا؟! وهو أساس هذا الكون وعماده، فقد كُرّم بالعقل.. والإبداع عقل قبل أيّ شيء ثمّ روح وموهبة ودربة، وأقدّر أنّ الوزارة اختطّت دربًا جديدًا حوّلت فيه الثقافة إلى فعل ثقافي مجتمعي، حرّك طاقات البيوت، وألهم المتابعين.. فشاهد المبدعون الصّغار صورَهم وأحاديثهم وضحكاتهم وحركاتهم على شاشات التّلفزة وصفحات التّواصل الاجتماعي، فملأ هذا الفعل قلوب الأمهات والآباء سعادةً، وساهم في رسم أُطر جديدة لأرواح هؤلاء الصّغار، فحضور المؤسّسات يكون بالأَثر الذي تنقشه في خواطرهم، وليس بغيره، لأنّ ذاكرة الطّفولة أو ذاكرة المبدع خاصّة هي من ستشهد علينا.
وللشعر دعوته الجديدة للإنسان والكون مع بدايات الألفيّة الثّالثة، ومجلّة "أفكار" توّاقة للجديد منذ نشأتها قبل نصف قرن أو يزيد، فلم تعد الحياة كما كانت بسيطة هادئة، فقد دخلت عليها السرعة في كل شيء؛ ولهذا تضاعفت هوّة النقد وتراكمت أزمته، وإنْ كنّا نشكوها كثيرًا فقد أصبحت اليوم همًّا عظيمًا؛ تكدّس بسببها الإبداع على الرفوف وتناثر على مواقع التواصل الاجتماعي دون اهتمام، وكثُرت النقول هنا وهناك، فدبّت فوضى الملكية الفكريّة، ولا دافع لنا من هذا كلّه إلا تنظيم أنفسنا وتفعيل الحوار الثقافي.. ولا أظنّ أَنّ في هذا الأَمر سوءًا قدْر أننا في عالم أخذت أنفاسه تضيق لتنوّع التجديد وسرعته. وما مجتمعنا الأردني عن هذه الحركات الفكرية ببعيد، ولعله في بؤرة المشهد اليومي لاقترابه من قضيّة الأمّة فلسطين، وللمحور الثابت الذي تجسّده الدولة الأردنيّة منذ مئة عام، فتبدّل الصّراع بين الإنسان والطّبيعة، ودخلت في حياتنا عوالم جديدة تنتظر المتابعة، تجاوزت الأُسس السابقة في تأثيرها على المشهد اليومي، فإن لم يعالجها مبدع ملتهب أو ناقد ثاقب الرؤى فمَنْ يعالجها؟! وفي هذا العدد وقفات نقديّة واعدة تلقّفت جيلًا جديدًا من المبدعين الأردنيين نُشرت أعمالهم بعد عام ألفين، ولعلّ هذه اللفتة جزء من الحل في رَدْم أزمة النّقد التي نعيشها، وأرى أنَّ هذا العدد من الأعداد التي ستترك أثرًا في نفوس القرّاء كما ترك فيّ بعد القراءة الأولى؛ لأنّه طريفٌ فيما قدّم من رؤى حرّة في الإبداع والنقد، جذّاب لأنّ النّقاد الشباب يتأمّلون نصوص الشّباب المبدعين روحًا وفكرًا وفنًّا.