د.عطالله الحجايا
ناقد وأكاديمي أردني
محمد العزام شاعر أردني من مواليد مدينة إربد عام 1976، بزغ نجمه مع بداية العقد الأوَّل من هذا القرن، وبدأ يشارك في المهرجانات والأمسيات الشعريّة المختلفة التي كانت ذروتها مشاركة متميِّزة في برنامج أمير الشعراء الذي وصل فيه إلى المراحل النهائيّة بمشاركة لافتة. وبعد أن حلّق في قصيدة التفعيلة في ديوانه الأول، فإنه وعلى عكس تجارب أخرى، كتب القصيدة التقليديّة في ديوانه الثاني.
أصْدَرَ العزام مجموعتين شعريتين؛ الأولى ديوانه "أرى في الماء غير الماء" (2015) الصادر عن أكاديمية الشعر في أبوظبي، والثانية ديوان "لا تنتظر أحدًا" (2018) الصادر عن دار فضاءات في عمّان، وتكشف المجموعتان الشعريّتان عن شاعر مكتمل ناضج التجربة، راوح بين قصيدتي التفعيلة وقصيدة الشطرين، فكان مجليًا في كل منهما ولم تخفت أيّ منهما في ظلال الأخرى؛ بل أبدع في كليهما وإن كان قد بدأ بقصيدة التفعيلة، ثم عاد إلى قصيدة الشطرين على خلاف كثير من الشعراء الذين بدأت تجربتهم مقلّدين في القصيدة الخليلية، ثم بعد نضجهم الشعري انقطعوا إلى قصيدة التفعيلة، ولكن البُعد الفنّي الموضوعي عند العزام ظلَّ في سويّة متنامية لم يؤثِّر فيه هذا الانتقال بين الإيقاعين الموسيقيين اللذين عمد للكتابة بهما. ولعلَّ التعليل الموضوعي لهذا الانتقال إلى القصيدة العمودية في مجموعته الشعرية الثانية "لا تنتظر أحدًا" في الوقت الذي كانت مجموعته الأولى، الصادرة قبل الثانية بثلاثة أعوام، زاخرة بقصائد التفعيلة التي بدأ فيها الشاعر متمكنًا من قصيدة التفعيلة، هو أنّ البيئة التي يعيش فيها الشاعر وهي بيئة الإمارات العربية المتحدة، والبيئة الخليجيّة بعامة ما تزال محافظة شعريًّا على القصيدة الخليلية -مع وجود استثناءات مهمّة- أقول إنّ هذه البيئة لعبت دورًا كبيرًا في عودة الشاعر إلى القصيدة التقليدية بعد أن حلّق في قصيدة التفعيلة وقطع بها شأوًا بعيدًا.
واللافت كما أشرتُ أنَّ التجربة لدى الشاعر لم تخفت في أيّ من الأسلوبين الشعريين اللذين كتب بهما، فقد استطاع العزام أن يحمِّل القصيدة التقليدية الأسئلة الوجودية التي كان ميدانها القصيدة الحديثة عند الكثير من شعراء الحداثة، لكنه تجاوز ذلك في مزج واضح بين الفيلسوف والصوفي وبين الوجد والوجودية، فكانت قصائده مليئة بالأسئلة التي أثارت القلق لدى الإنسان المعاصر لا سيما أولئك الذين يتنازعهم اتجهان متناقضان زمانيًّا بين حنين للتراث واستلهامه، وبين الغوص في جحيم الواقع ومعاناته، وهو ما يعلِّل ذهاب الشاعر إلى التناصات الكثيرة التي وظَّفها في قصائده، فهو مطلّ جيد على التراث يستلهم قصصه لاسيّما القصص القرآني منه ليعالج واقعًا مثفلًا بالهموم والأسئلة الحائرة.
والعزام في توظيفه للتراث الديني لم يكن منشغلًا بلغة هذا التراث ومفرداته قدر انشغاله بمضامينه ودلالات قصصه، يقول في قصيدة بعنوان "آخر ما قلته للذئب":
"أفتش عن رؤياي في كل لحظة
أضعتُ صواعي عندها وسنابلي".
فهو لا يتحدث عن قصة يوسف بمقدار قلقه برؤياه الخاصة التي أثقلت كاهله، وأوقعته في التيه والضياغ الذي يتجلّى في ختام القصيدة:
"فخذ يا صديقي ما تشاء ودلّني
على آخري إني أضعتُ أوائلي".
فالوعي بالضّياع لدى الشاعر ناتج عن إدراك للواقع لم يرد به الشاعر أن يحمل سواه أسبابه، فهو يدركها جيدًا ويحيط بها.
ويضيق العزام بالأسئلة التي تكثر في قصائده، ولكنه ينثرها في ثنايا الشعر في محاولة للخلاص:
"لماذا طرقنا كل باب ولم نجد
على الباب إلا من غبارٍ وأسئلة؟
لماذا اخترعنا للخلاص صليبه
وصرنا نرى في بسمة الدرب جلجلة؟
وهل نكتفي بالغيم تحت سمائنا
ولو كان وجه الغيم يلبس مقصلة!".
إنَّ هذه الأسئلة التي لا يجد لها الشاعر إجابات، تدفعه إلى أن يجرّد من نفسه آخر يحاوره محاورة الأعداء:
"وقد كنتُ وحدي حينها إذ رأيتني
أجرِّد من نفسي عدوًّا لأقتله
سأحملني ميتًا... وأمسي بلا هدى
لعلّ غرابًا ما يحطّ لأسأله!".
فالقلق الذي يدفع الشاعر هو قلق الإنسان المعاصر من أسئلة الوجود التي لا يجد لها إجابة تقنعه؛ وهي ما دفعه لتوظيف حكاية ولدي آدم مستعينًا برمز الغراب دون الإشارة إلى القصة، معتمدًا على ثقافة المتلقّي في لملمة أطراف الحكاية.
ويظلّ هذا الاتكاء على الموروث عند الشاعر ملمحًا ظاهرًا في العديد من القصائد، وهو يجعل المتلقي شريكًا في هذا القلق وهذه الحيرة التي يعكسها شعره:
"سأجعل روحي
طريدتكم في سفوح المساء
فمَن كان منكم على وطن في الحقيقة
فليرمها بحجر".
شأن آخر أشْغَلَ العزام في معاناة الإنسان المعاصر؛ وهو ما يتعرَّض له الإنسان المعاصر ولا سيّما العربيّ من استهانة بحياته وحرمته، فهو يأخذ على الإعلام تحديدًا استهانته بالإنسان وهو يعرض صور القتل في شتى الساحات:
"كنتُ المسجّى فوق شاشتكم
فلا تستغربوا
قدماي في وجه الرصيف
ورأسي الملقى
على كتفين من أسفلت
يتناوبان على رواية قصتي
طعم الرصاص المرّ
يزعجني
ويفتح ألف نافذة
على وجه انتظاري
هل سيكفي الموت؟".
والإنسان الذي يؤرِّق العزام هو ذلك الإنسان الذي كان ضحيّة أخيه الإنسان الذي دفعه إلى الشوارع:
"وظلّ منتصبًا
يراقص هذه الريح التي انفلتت كثور
في شوارعنا
فلا تتعجّلوا
ولتجمعوا كل الصراخ إذا تكدَّس في حناجركم
ولا تتعجّلوا
فالآن.... صار بوسعكم أن تصنعوا منّي
دقيقة صمت".
وفي تجربة العزام يستمرّ هذا القلق الوجودي والأسئلة المثقلة:
"مَن خربشنا في حيط الخلق يتامى؟
مَن ذا ألهم أوّلنا الأسماء؟
جرح مفتوح
متّسع جدًا
هذا الكون المجهول
ولكن يملؤه حرف
منذور لليتم القاسي
منذور للغرباء
كم يملؤه المجروح
بحرف نداء".
فالشاعر يمزج البُعد السياسي المباشر أحيانًا بالبُعد الوجوديّ؛ ممّا يكشف عن قدرة فنيّة عالية تميِّز تجربته الشعرية:
"ما قيمة الباب إن السقفَ مخترقُ
لا ترهق القفل، فالأعداء قد مرقوا
كلّ النوافذ مذ أغلقتها انطفأت
لملم بقاياك فالماضون قد عتقوا".
أمّا البُعد الوجداني عند العزام، فهو حكاية مختلفة، حيث نجده قادرًا على الغوص بعيدًا في هذه التجربة في تجلٍّ عالٍ:
"ما زال لاسمك خدُّ الغيم ما زالا
يسيل من حدقات النّاي موّالا
إذْ قلت للياسمين اشرب حرير يدي
لكي ترى كيف يغدو الشعر خلخالا
وعدت من آخر الأحلام سالمة
تركتني في أقاصي النوم تمثالا".
ويظلُّ العزام يفاجئنا بأسئلته بصورة مدهشة تنمُّ عن وعي تام بما يكتب:
"حتّام والأشجار ينحر خصرها
جشع المناشير الذي لا يغفر
فقصيدة أخرى وراء قصيدة
هطلت وسفح العمر لا يتشجّر".
وأخيرًا، فهذه إطلالة على تجربة الشاعر محمد العزام، وهي تجربة ثريّة تستحقّ المزيد من الدراسات، إذْ لا تشكِّل هذه القراءة دراسة نقديّة بمقدار كونها نزهة في حدائق العزام الوارفة، فالشاعر يمتلك أسلوبًا مميّزًا في بناء صوره الشعريّة بأدوات فنيّة عالية، وما يزال قادرًا على العطاء المميّز.