معالي الدكتور باسم الطويسي
وزير الثقافة
على مدى الحقب الطويلة من تاريخ البشرية، كانت الموهبة في الأغلب الأداة الأولى للتغيير وإعادة صياغة التاريخ، والموهوبون هم مَن طَوَّعَ الطبيعة والبشر والعلاقات والأحداث من أجل تغيير نوعيّة الحياة أو جعل الحياة أكثر احتمالًا؛ ولعلَّ قصةَ التقدُّم البشريِّ تُختصر في جانبٍ مهمٍّ منها بقصَّة الموهبة، وكيف تتوفّق هذه الطاقة المميّزة في معظم اللحظات الحرجة في إنقاذ البشرية أو تغيير مسارها.
في شهر آذار 2020، وفي أجواء وباء فيروس "كورونا" الغامض، وبعد أيام قليلة من الإعلان عن إجراءات الإغلاق والحجْر الصحي التي لم يألفها الأردنيّون في تاريخهم المعاصر والحديث، وما ترتَّب على ذلك من وقفٍ للفعاليات العامة؛ إذْ كادت الحياة الثقافية تختنق، ليس في الأردنِّ فقط، بل وفي معظم دول العالم، إلى جانب ما صاحَبَ هذه الأجواء من شعورٍ بالوحدة والعزلة... جاءت فكرة تنفيذ مسابقة ثقافيّة كبرى تُوجَّهُ للأُسرة، وتحديدًا الأطفال والشباب، وتستثمر في العالم الرقمي، وتحاول أن تكتشف المواهب.
كانت الفكرة غامضةً وغريبةً على بعض الزملاء، ولكنْ، ما هي إلا أيامٌ قليلة حتى استوعب الجميع نظريّة التغيير التي تحتاج إلى روح عملٍ جماعيَّةٍ في ظروفٍ استثنائيةٍ وجُهدٍ وموازنةٍ مُغرية.
في الحقيقة، لم نكن نتوقَّع أن تجد هذه المسابقة التي حملت عنوان (موهبتي من بيتي) كُلَّ هذه الاستجابة والمشاركة، وأن تُحقق نحو 96 ألف مُشارَكَة مُوثَّقة على قاعدة بيانات المواهب لدى الوزارة، ونحو 38 مليون مُشاهَدَة على مدى نحو ثلاثة أشهر.
على المستوى الشخصي، حاولتُ الاستفادةَ من خلفيَّتي الأكاديمية التي تجمع بين دراسات الإعلام والتغيير الاجتماعي والثقافي والدراسات المتخصصة في الإعلام الرَّقْمي، في وضع خطّة النفاذ والوصول إلى أكبر قدرٍ من الجمهور، وحفز المواهب الحقيقيَّة على الاشتباك مع المسابقة، لكنْ، في الحقيقة جاءت المواهب أكبرَ بكثير من حُدوسنا نوعًا وكمًّا، وجاء الاشتباك حميميًّا مملوءًا بالصدق والموهبة الفطرية التي تغلَّبتْ على كلِّ الأدوات الرقميّة التي وظَّفناها في هذا العمل، وكانت الصّدمة الجميلة أنها عدوى انتقلت إلى دولٍ عربية أُخرى؛ إذ قامت نحو سبع دولٍ عربية بتطوير نُسَخٍ أُخرى من المسابقة، وبالمنهجيّة الأردنيّة ذاتها.
على مدى ثلاثة أشهر، عمل فريقٌ يتألف من نحو 90 موظفًا إلى جانب 32 مُحكِّمًا من خارج الوزارة على إدارة أكبر مسابقةٍ ثقافية في تاريخ المملكة، وأَعلمُ حجم الجهد الذي بُذِلَ في ظروفٍ استثنائية وغير مسبوقةٍ، لضمان الوفاء بالالتزامات والردِّ على آلافٍ من الاستفسارات من أطفالٍ وشبابٍ وأُمَّهاتٍ وآباء طوال الأسبوع، من أجل ضمان كفاءة الإجراءات والنزاهة في العمل.
لقد حمَّلتْنا نتائج هذه المسابقة مسؤوليةً كبيرة؛ فقد أفرزت 916 شابًا وشابةً وطفلًا وطفلةً توافقت لجان التحكيم على أنَّهم موهوبون في مجالات المسابقة: (الكتابة الإبداعية، الموسيقى والغناء، الفنون التشكيلية، المسرح والتمثيل، إنتاج الفيديوهات، الخطّ العربيّ، الأناشيد الإسلامية)، لذا قرَّرت الوزارة استدامة المسابقة ضمن برامجها الدائمة بحيثُ تُنظَّم في كلِّ عام، كما تمّ تطوير (البرنامج الوطني لرعاية المواهب) الذي يسعى إلى رعاية المواهب والعمل على بناء قدراتها ودعم إنتاجها الثقافيِّ وصولًا إلى المساعدة في صناعة النجوم، ويلاقي هذا البرنامج دعمًا من قِبَل مؤسساتٍ وطنية ودولية.
في هذا العدد من (أفكار) مجموعةٌ من الدراسات النقدية لهذه النصوص الإبداعيَّة في القصة والشعر التي تمنحنا القدرة على الخيال بأنَّ العشرات من هؤلاء الشباب ستولدُ من بينهم أسماءٌ مُهِمَّة في عالم الكتابة الإبداعية، كما هي الحال في الغناء والموسيقى والتمثيل والفنون المتعددة، وسوف يمدُّون الحياة الثقافية بدماء جديدةٍ وحيواتٍ متعددة، وكما قيل، فإنَّ كُلَّ طفلٍ يولد فنانًا، ولكنَّ التنشئة والظروف المحيطة به هي التي تجعله يستمر في إبداعه أو يتوب عنه! وعلينا أيضًا أن نتصوَّر كم من أطفالنا في الأردنِّ وفي العالم العربيِّ كان من الممكن أن يكونوا أهمَّ من طه حسين وأدونيس في الأدب والإبداع، ويقدِّموا فنًّا لا يقلُّ قيمةً عن فيروز أو تصاميم تضاهي ما أبدعتْ زها حديدي، ولكنْ، لطالما عاندت الحياة هؤلاء، ولم يُكتب لمواهبهم أن ترى النور أو حتى تُكتشف!
الموهبة ترتبط بقدرة أيِّ مجتمعٍ على استثمار طاقة أبنائه على الخيال، أي: التغيير المبدع؛ فالموهوبون هم أقدر فئات المجتمع على استثمار الخيال وجعله يشتغل لصالح الحياة والتقدُّم، وهم بذلك الأقدر على إخراج مجتمعاتهم من التكرار والتشابه.
في عام 2009 تقدمتْ مجموعةٌ من الخبراء الاقتصاديين والدستوريين في المملكة المتحدة برسالة إلى ملكة بريطانيا حذَّروا فيها من تدنِّي مستويات الخيال الفرديِّ والجماعيِّ لدى النُّخَب البريطانية، الأمر الذي عدُّوه يؤثِّر مباشرةً على مصالح المملكة المتحدة وقُدرتها على التكيُّف مع التحوُّلات والصدمات المفاجئة، كما هي الحال في دَوْر تراجع الخيال الجماعيِّ في ضَعف التنبُّه للفرص والتهديدات في البيئتينِ الداخلية والخارجية، وجاءت الإجابة إلى الحاجة لمراجعة برامج المواهب والمزيد من الجهود في اكتشاف الموهوبين ورعايتهم.
نتطلَّع أن تنتقل عدوى رعاية المواهب في الثقافة والفنون إلى العلوم والتكنولوجيا والرياضة والمجالات العمليَّة الأُخرى... إننا في لحظةٍ تاريخيّة فارقة وحرجة تحتاج إلى كيمياء جديدة مع الأجيال الناشئة التي ما تزال تملك طاقةً تَبثُّ الأملَ وتحفّزُنا للنَّظر بتفاؤلٍ نحو المستقبل.