سامح المحاريق
كاتب أردني
ما زالت كائنات الطبيعة تحت المجهريّة تعتبر الإنسان غير محصَّن أمام جموحها، فيتحرَّك فيروس كورونا، ويدخل الصِّراع مع الجسد الإنساني. وفي هذه اللحظة العصيبة من تاريخ البشريّة وأمام انفضاح ضعف الإنسان وهشاشته، فإنَّ عقول العلماء ومعادلاتهم لا تعود كافية، بل تصير الحاجة ماسّة للإنسان المتمسِّك بالوعي الذي توارثه عبْر رحلته على الأرض، ولذلك كانت الحكاية التي تبقى موزَّعة بين العلم والفن.
في لحظةٍ ما من التاريخ السَّحيق للبشريّة تشكَّل وعيٌ إنسانيٌّ مفارقٌ يتعالى عن السَّعي الحيواني لالتقاط ثمار الطبيعة، وقتها أدرك الإنسان أنه مختلف عن شركائه في الكوكب، وبدأ يسرد حكايته الخاصة، فكان باستطاعة المخيّلة الإنسانيّة أن تجترح أمورًا أعقد بكثير من تلك الذاكرة الجينيّة التي جعلت الأسماك وعلى امتداد ملايين السنين تتابع النَّمط نفسه من هجراتها من المياه الباردة إلى الدافئة، أو العكس.
بقيت القصص التي تُروى في الكهف قابلة للإضافة والتَّحوير مع كل جيل لتمضي في طريق اعتقد الإنسان أنه سيبقى مستمرًا بالتقدُّم فيها، وأنه سيكسر كل لحظة ضعف أمام الطبيعة، لدرجة أنَّ المخيّلة الإنسانيّة تصوَّرت سفنًا فضائيّة عملاقة متحرِّرة من كل شروط كوكب الأرض وطبيعته. لكنّنا للأسف، وربَّما لحسن الحظ، لم نصل إلى لحظة فُلك نوح الفضائيّ، وما زالت الإنسانيّة خاضعة لشرط الطبيعة الصارم؛ وما زالت كائنات الطبيعة تحت المجهريّة تعتبر الإنسان غير محصَّن أمام جموحها، مثله مثل أيّ تكوين من الخلايا الحيّة والدهن والسوائل، وفيروس كورونا، وهو الكائن الذي ليس حيًّا بالكامل بالمعنى العلمي، لا يُعنى بأن يكتب أيّ قصة أو يحمل أيّ تاريخ، هو يتحرَّك بكلِّ جموح الطبيعة، ويمارس غريزته في البقاء ولو كانت تتضمَّن إفناء الأجساد التي تستضيفه. الفيروس ليس معنيًّا بالتسويات أو الحلول الوسط، هو يدخل الصِّراع مع الجسد الإنساني بكل عماء في معركة لا تتحمَّل استمرار التعايش معه.
القلة من العلماء يمكن أن تتحرَّك ضمن منظومة العقل الإنساني في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ البشرية، تلاءمت عقولهم منذ البداية مع معادلات وجداول الكيمياء الحيويّة، ولكنهم يحتاجون أيضًا إنسانًا متماسكًا أمام لحظة العراء التي تفضح ضعفه وهشاشته من جديد؛ إنسانًا يتمسَّك بالوعي الذي توارثه عبْر رحلته على الأرض، ولذلك كانت الحكاية التي تبقى موزَّعة بين العلم والفن.
في القرن الرابع عشر كان الطاعون يضرب أوروبا بأكملها، وتذهب الأسر المقتدرة إلى الريف ابتعادًا عن المدن الموبوءة، وعن مجموعة من الفتية والفتيات يكتب "جيوفاني بوكاشيو" عمله الخالد "الديكاميرون" الذي يشكِّل أحد آخر الأعمال الكلاسيكيّة الكبيرة قبل أن تدخل أوروبا الحداثة على روافع كثيرة، ومنها الوباء نفسه، فالعالم بعده لم يعُد العالم القديم نفسه. فهل نحن على شفا نقلة مشابهة ربَّما تكون أكثر عمقًا وتأثيرًا في الإنسانيّة، وربَّما تحتاج إلى سنوات من أجل أن تتَّضح معالمها الكاملة؟ ولتفهُّم عمق هذه الصدمة التي حاقت بالإنسان المعاصر ينبغي قراءة ما أنجزه الإنسان وما دوَّنه واستقراء مخاوفه وأسئلته.
حاوَلَتْ وزارة الثقافة الأردنيّة أن تشجِّع الملايين على البقاء في البيوت، وأن تصطنع شيئًا من القيمة على تجربة بقائهم القسريّة، فاجتهدت في تقديم مسابقة "موهبتي من بيتي"، وتقدِّم مجلة "أفكار" في هذا الملف إطلالة على التجربة من خلال استقراء المشاركات التي تقدَّمت للجائزة، ولكن ذلك لا يعني استقراء كامل التجربة من منظور علمَيْ الاجتماع والنَّفس وكل ما يتقاطع بينهما، وذلك مشروع كبير ولكنه سيقدِّم قراءة مقطعيّة دقيقة للمشهد العام الذي لم يكن مواتيًا أن تفهمه بكامله، وسيُظهِر جزءًا من التكوين الثقافي والحضاري للشخصيّة الأردنيّة من مدخل خصوصيّتها ومن منظور تواشجها مع الشخصيّة العالميّة في مواجهتها للوباء.
تقدِّم مجلة "أفكار" ملفًا يقرأ بعضًا من فصول الوباء، وحكاية الإنسان معه من زوايا مختلفة، وتبقى فرصة القراءة مفتوحة حين تتسرَّب بعض الممارسات التي تعلَّمناها أثناء محنة الوباء لتصبح جزءًا من أنماط حياتنا المختلفة، ووقتها يمكن أن نتحدَّث عن عالم ما قبل وما بعد، أمّا اليوم، فليس أمامنا سوى الأزمة التي نتمنّى أن ترحل سريعًا، وبأقصى قدر ممكن من الدروس، وأقل ما يمكن من الخسائر.