ليث سعيد الرواجفة
باحث يدرس دكتوراه اللغة العربية وآدابها في الجامعة الهاشمية
asmalaith201@gmail.com
بعد مراجعة معظم ما كُتِبَ حول فيروس "كورونا" المستجدّ، لاحظتُ أننا نعيش مرحلة غريبة تدمج بين هدف تسجيل التاريخ وتوثيق لحظات العزلة، دون أيّ جرأة لتدوين أحداث مرتبطة بقصة حضارة إنسانية على شفا جرفٍ هاوٍ، وكأنَّ أركولوجيا الفعل التاريخي مطبقة على العقليّة الفلسفيّة التشاؤميّة، التي تنظر إلى عتمة الوجود والعزلة بعين مدمعة، وعين مغمضة خشية المستقبل. وفي النهاية، فإنَّ كورونا ثورة الهامش الخفيّ، على كل مركزية ظنَّت نفسها محصَّنة من جميع الجهات.
يعيش العالم هذه الأيام صراعًا بين طورين؛ الأوَّل أركيولوجي(*) ثابت مُسلَّم به، يعبَّر عن كل البداهات الراسخة وفق أسس ثقافة مركزية عالمية تحيل إلى الرأسمالية المحتومة بهيمنتها. والطَّور الثاني جينالوجي(**) تتمخَّض في داخله تكوينات ثقافية لظاهرة لم يشهد مثلها العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مما يوحي بفرض قطيعة بين ضلعي بردايم(***) العالم الحديث القائم على ركني الفرد والمال من جهة، وقطيعة بين الفرد والعالم من جهة أخرى، وهو السيناريو الذي لم تتوقعه أي فلسفة مهما كانت سوداوية في رسم صور هلاك العالم ونهايته.
مع جائحة كورونا التي غزت العالم، باتت الخطورة تكمن في أنَّ المواجهة ليست بين طرفين متوازيين في العقل والقوة والهدف؛ بل هي مواجهة بين الإنسان، وطرف آخر غير مرئي وغير عاقل يهدِّد وجوده. بعد أن تمكَّن الثاني (كورونا) من نسف مركزية الأول الهشّة التي بنى أركانها على إمبراطوريات ماليّة وعسكريّة وجغرافيّة تمثِّل خط الدفاع الأول عن هويته، هذه الإمبراطوريات قسَّمت العالم إلى قسمين؛ الأول قروي متخلِّف أطلق عليه العالم الثالث، والثاني مدني متحضِّر يقع على عاتقه الإحياء والإعمار والاستعمار والتنوير، إلى أن جاء كورونا ليطابق بين الأطراف المختلفة، ويجعل المدني يهرب إلى القروي ليحمي نفسه من كل إفرازات العولمة، فبتنا نشهد صورة جديدة للعالم تؤسِّس لمشروعيّة الوطن الأخير الذي تنشده (أنا الإنسان) الضعيف اليائس، الإنسان الذي فشلت كل أدواته التكنولوجية التي استعرضها وتفاخر بها عبر سرديّات جعلها مقابلة للسرديّات الكبرى بعد أن ثار عليها وحطّم مركزيّاتها، وكفر بكل ميتافيزيقا اللوغوس والمقدّس.
إنَّ جينالوجيا كورونا تؤسس لسرد موضوعي ومعياري في آن، يقوم هذا السرد على خطاب يتغلغل في أعماق أنساق المعرفة المختلفة، على اعتبار كورونا حقيقة -والحقيقة بناء خطابي- تقول وستقول ما يخرج عن كل القواعد التي حكمت العالم في عهده الأركيولوجي، بعد أن كسرت معظم القيود المُحدِّدَة للمعاني التي فرضتها السلطة بشتى أشكالها (السياسية، الجغرافية، الدينية، الاجتماعية، الإثنية).
بعد مراجعة معظم ما كُتِبَ حول الفايروس المستجد هذه الأيام، لاحظتُ أننا نعيش مرحلة غريبة تدمج بين هدف تسجيل التاريخ وتوثيق لحظات العزلة من جهة، دون أي جرأة لتدوين أحداث مرتبطة بقصة حضارة إنسانية على شفا جرفٍ هاوٍ، وكأنَّ أركولوجيا الفعل التاريخي مطبقة على العقلية الفلسفية التشاؤمية، التي تنظر إلى عتمة الوجود والعزلة بعين مدمعة، وعين مغمضة خشية المستقبل، وكأنَّ الحضارة الأركيولوجية مقدَّسة يخشى أنصارها من أي همجية جينالوجية جديدة، علمًا أنَّ الهمجية الذاتية الفردية رسختها حضارة الرأسمالية، وهي كامنة في أصولها التي جعلت الإنسان يستعبد أخاه الإنسان، ويتناسى حقوق الكائنات الأخرى في هذا الكون وعلى هذا الكوكب، من حيوانات ونباتات وهي مكوّنات علينا أن نتشارك معها في الحياة.
التاريخ -كما يُقال- في معظمه ليس إلا قصة توحُّش الإنسان وهمجيته في صراعه مع ذاته، وغيره، وتصوير مليء بالاستعارات حول سباقه الكولونيالي. لكن في هذه المرحلة جاء فيروس كورونا ليوقف كل شيء، وليغيّر كل شيء، جاء كورونا ليعيد الإنسان إلى رحابه الكوني والوجودي الذي أفرزه، ويؤسس لكتابة حضارة جديدة بمدادٍ ينهض بها من همجيتها الرأسمالية، وينفك بها من إسار أركيولوجيتها المركزية إلى جينالوجيا كانت هامشية وغير مرئية، تسمح بتحليقها -أي الحضارة الجديدة- عاليًا فوق كل المعطيات التي فرضتها شروط الهيمنة والتبعية، ليلتقي الإنسان بذاته، بأسرته، بمجتمعه، بوطنه، بقيادته، وليتقبل الإنسان حدودًا جديدة للحرية سقفها الصحة العامة.
قال الدكتور زهير عبيدات: "كورونا هو معلَّم يجب أن نصغي إليه جيدًا على مستوى الدول والأشخاص"(1)، وما قاله الدكتور عبيدات نابع من مسؤولية المثقف ودوره في التعاطي مع هذه الجائحة التي فرضت العزلة ابتداءً بالأفراد، وصولًا إلى الدول. وكان الدكتور سعيد يقطين(2) قد ذهب إلى الاشارة لبعض إيجابيات كورونا بما حققه من توقف لحركة الإنسان السريعة، وجعله يعيش في محطة تأمُّل من شأنها التمعُّن عميقًا في أخطائه، وتقصيره، وسلبياته، مما سيؤول إلى إيجاد حلول لهذه الأخطاء، والسلبيات. كما أنَّ كورونا قد أسهم بشكل مباشر في إعادة الثقة بين السلطة والشعب، وأحيا القيم الإنسانية من تعاطف، وترابط، وتلاحم مجتمعي وإنساني. ورأى يقطين أنَّ كورونا فرصة لتفجير الطاقات الإنسانية خصوصًا في الدول النامية التي ستكسر كل صور العجز والعوز، واقتدى بالصين المغلقة، والمكتفية ذاتيًا.
وما ذهب إليه عبيدات ويقطين حول علاقة الفرد بالسلطة كان قد أشار إليه "فوكو" حين رأى أنَّ السلطة غير قمعية على نحو مطلق، ولكنها منتجة، فهي تشكل الخطاب، والمعرفة، والهيئات، والذوات، فيقول "فوكو": "ما يجعل قبضة السلطة جيدة، وما يجعلها مقبولة، هو ببساطة أنها لا تجثم على صدورنا باعتبارها قوة رفض فحسب، ولكنها تخترق وتنتج أشياء وتثير لذة وتشكل معرفة وتنتج خطابًا. فلا بد من اعتبارها شبكة منتجة تسري خلال كامل الجسم الاجتماعي، أكثر من كونها حالة سلبية وظيفتها القمع"(3)؛ وبذلك فإنَّ السلطة توفر شروط الإمكان لما هو اجتماعي، وإنساني، وتنظم العلاقات، وتنهض، وتبني.
إنَّ البحث في إيجابيات كورونا، أو جماليات خطابه أمر مهم، ولكن أذهب في هذه المرحلة مع رأي الدكتور إبراهيم السعافين الذي قال: "إنَّ كل الإيجابيات التي تتحقّق للإنسان في مثل هذه الظّروف لا تساوي لحظة ألم يعيشها إنسان على ظهر هذا الكوكب"(4). فمن المبكر البحث في الإيجابيات، والأهم –برأيي- هو البحث في جينالوجيا كورونا، وتقويضه للمركزية الأركولوجية الرأسمالية، ودوره في إيجاد نظام عالمي جديد يراهن على وعي الناس، ويعرف جيدًا كيف يستثمر التكنولوجيا وكل إفرازات الحداثة، ويواجه العولمة -القائمة على ثورة الاتصالات وحركة التجارة والتنقل الدولي- التي أسهمت في سرعة انتشار هذا الوباء. وأرى أننا سنكون أمام نظام عالمي جديد يقوم على منظومة الأمن الصحي الذي لا يخاف من شيء إلا على وجود الإنسان، مما سيغيِّر في الأجندات السياسية والعسكرية والعلاقات الدولية والتحالفات. وسيذهب العالم إلى تعميق التعاون العلمي والصحي، وإيجاد منظومة أكثر جديّة من منظمة الصحة العالمية، منظومة صحيّة تمتلك ضابطة عدليّة توازي الإنتربول الدولي في انتشارها وتعاونها. وفي النهاية، كورونا ثورة الهامش الخفي، على كل مركزية ظنَّت نفسها محصَّنة من جميع الجهات.
• شرح المصطلحات:
(*)أركيولوجيا: (الحفريات) أو علم الآثار مُصطلح يشير إلى دراسة آثار الماضي وأطلاله الحضارية والثقافية والاجتماعية وليست الحاضرة. والأركيولوجي غالبًا ما يخضع في دراسته للمنطق والموضوعية العقلانية، ووفق هذا المصطلح أصبح الإنسان فكرة، والجماعة لم تعد مجموعة أشخاص أو أناس، وإنما اجتماع على فكرة، وغالبًا ما تكون تلك الفكرة مهيمن عليها من سلطة أسهمت في وصولها إلينا، فأرى أنَّ الأفكار الحرة تم محو معظمها.
(**)جينالوجيا: تأريخ جديد للحقيقة البعيدة عن كل منطلقاتها الميتافيزيقية المتعالية التي رسختها الظواهر الهيجيلية، تأريخ تتعرّى فيه كل صور عدم التجانس، وصراعات المراكز المهيمنة، وسعيها لإخضاع الهامش واإقصائه. فتسعى الجينالوجيا إلى تمييز الأحداث بعيدًا عن كل غائيّة رتيبة، وتأخذ من أحداث اللحظة الراهنة كأفق للتفكير بعيدًا عن القيم المتعالية. لذلك أرى فيها أفقًا رحبًا للتفكير في خطاب جائحة كورنا.
(***)الباردايم: مصطلح يُشير إلى نمط أو طابع تفكير الإنسان في الأشياء بناءً على ثقافته وخبرته السابقة والمكتسبة، واستسلامه أمام نمطيتها النموذجية والراسخة في ذهنه، والتي من شأنها التحكُّم في سلوكه وموقفه.
• الهوامش:
(1) زهير عبيدات وآخرون، (أدب الأوبئة) أعمال أدبية وفنية استشرفت المستقبل وتنبأت بالحاضر، صحيفة الرأي الأردنية، 8/4/2020، عمّان، الأردن.
(2) انظر: سعيد يقطين، كورونا: الاعتماد على الذات، صحيفة القدس العربي، 7/4/ 2020، صحيفة إلكترونية. وانظر: كورونا: استعادة الثقة، صحيفة القدس العربي، 31/3/2020، صحيفة إلكترونية.
(3) ماريان يورغنسن ولويز فيليبس، تحليل الخطاب- النظرية والمنهج، ترجمة: شوقي بوعناني، مراجعة: محمد المومني، ط1، 2019، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، البحرين، ص38.
(4) إبراهيم السعافين، في زمن كورونا... كل الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، ميدل إيست أونلاين، 5/4/2020، صحيفة إلكترونية.
(5)