رشيد أمشنوك
كاتب وباحث مغربي
في هذا المقال تحليل لبعض تجلّيات أزمات الإنسان في زمن كورونا، في علاقته مع ذاته، وعالمه، ونمط استهلاكه، ونظرته للعالم، وغيرها من المنطلقات، وفيه تأكيد على ضرورة تشييد "عمران أخوي" على أرضية إنسانية صلبة، يحرِّر الإنسان من أسر "أنانيّته" ليهبَّ لخدمة أخيه الإنسان لمواجهة كل المحن التي تتربص به، وتفحص هشاشته وهوانه وعجزه لوحده.
• مقدّمة
اجتاح الوباء العالم، وفي مساحة زمنية قصيرة استحال شبحًا مخيفًا يقضُّ مضجع كل إنسان ونظام. لم يتردَّد في ذلك، لاسيّما وأنه يُعدُّ كائنًا غير مرئيّ لا يمكن التحكم في سرعة انتشاره ودرجة استفحاله الاجتماعي خارج دائرة التحكم التقني. إبان هذا الوضع المستجد في الصين وبعده في كل مكان، تناسلت التحليلات والقراءات السياسية لتداعياته الاجتماعية والاقتصادية على الدول، وعلى الرغم من اختلاف منطلقاتها وزوايا النظر إليها، إلا أنَّ الجميع يجمع على أنه "فيروس متمرد" لا يُبقي ولا يَذر، لذا يحتاج كل الحيطة والحذر. ويستوجب معه يقظة أخلاقية استثنائية تحد من آثاره وخطورته على الإنسان.
الإنسان الذي نتحدَّث عنه في هذا المقال هو الذي نصَّبته "المركزيّة الإنسيّة" بوصلةَ العالم ومركزه وسيدًا على الطبيعة مالكًا لها بالتعبير الديكارتي الشهير. هو الإنسان الذي أسرته "أنانيّته الاستهلاكية" فأعْمَت بصيرته عند أول اختبار طبيعي. هو الإنسان الذي يسبِّح بحمد عقلانيته العلوميّة وزعيمته "الحداثة الفيلسوفة"، فاكتشف تهافتهما بخروج الطبيعة عن إرادة "نزعته الوضعية العلموية". نُسائل كذلك الإنسان الذي يعيش على إيقاع "التناقضات والمفارقات الاجتماعية"، تارة يعلن تضامنه وخيريَّته المتأصلة في طبيعته، وتارة يخفيها ليعود إلى جشعه ونزوعاته الرأسمالية المادية المحضة. نناقش كذلك إمكانية بناء إنسان بهويّة أخلاقيّة كوكبيّة تخرجه من جحر "انغلاقه" و"تيهه الوجودي" و"انسلاخه الهوياتي"، ليعلن القطيعة مع كل مظاهر "الجشع الاستهلاكي" و"الاغتراب القيمي".
هذا هو الإنسان، إذن، الذي سنتوقف في هذا المقال عند تحليل بعض تجلّيات أزماته في زمن كورونا، في علاقته مع ذاته، وعالمه، ونمط استهلاكه، ونظرته للعالم، وغيرها من المنطلقات، لنؤكد في متم هذا العمل على ضرورة تشييد "عمران أخوي" على أرضية إنسانية صلبة، يحرر الإنسان من أسر "أنانيته" ليهبَّ لخدمة أخيه الإنسان لمواجهة كل المحن التي تتربص به، وتفحص هشاشته وهوانه وعجزه لوحده. فما هي الدروس المستخلصة من الجائحة؟ وما هي مظاهر أزمة الإنسان المعاصر؟ ولماذا الإنسانية بحاجة إلى "أخلاق كوكبية" لتصحح علاقتها بذاتها وبالطبيعة؟ وهل العالم قادر على تمثُّل هذا "الاختيار القيمي" في ظلِّ "الرأسمالية الاقتصادية المتوحشة"؟
• وباء كورونا: دلالات ودروس
1- الإنسان والطبيعة
أعاد الوباء إلى الواجهة سؤالًا فلسفيًّا مهمًّا، يتمحور حول حقيقة الإنسان وماهيته الأنطولوجية وعلاقته بالطبيعة، بعد أن اكتشف ضعف سيادته المزعومة وتهافت الأطروحة الفلسفية الديكارتية القاضية بمركزية الإنسان وسيطرته المطلقة على العالم بفضل عقله الأداتي وتطوُّره التقني؛ إذ في واقع الأمر لم يزده ذلك إلا أسْرًا وتقييدًا بتعبير "هايدغر" حيث "يوجد تحت قوة تتحداه وليس حرًّا إزاءها"(1) ويقصد هنا قوة التقنية وماهيتها الآسرة لكينونته، ومن ثمَّ صارت علاقته بالطبيعة أكثر توترًا واضطرابًا كما يقول الفيلسوف الفرنسي "ميشيل سير" منتقدًا ما أسماه "التحكُّم الديكارتي" المزعوم، وبالتالي دعوته إلى البحث عن التحكُّم في تحكُّمنا، الذي لم يعد منضبطًا ولا مقنّنًا، بل يتجاوز هدفه، وبتعبيره انقلب التحكم الخالص على نفسه. يقول "سير": "إنَّ التحكم لا يدوم طويلًا بفعل تفاعلاته المتشابكة فيتحوّل إلى عبودية، كما أنَّ الملكية تبقى تحكمًا أو تنتهي إلى الهدم"(2). لسنا إذن سادة على الطبيعة، ويجب أن نصالح ذاوتنا لنتعاقد معها على أساس الأخذ والعطاء، لا على أساس الاستنزاف المخلّ والمعيب. أن نفهمها ونعرفها وندرك خيراتها الجمّة. نعم، لكن أن نمعن في استغلالها بدعوى تحقيق السعادة المزعومة عبر شرعنة اقتصاد الرَّفاه والاستهلاك الأناني المفرط، فذاك مطلب غير مشروع ولا ينصف الأجيال التي تتوق لتعيش في أمن وأمان. الإنسانية بحاجة إلى تعاقد إيكولوجي جديد يرمِّم التصدعات التي خلَّفتها التدخلات الإنسانية غير العقلانية، لتعود إلى مرافئ الأمان مطمئنّة سالمة غانمة بحسب "مايكل زيمرمان"(3).
كورونا لم يكن فقط فيروسًا قاتلًا، بل هو امتحان طبيعي- كوني ليستعيد الإنسان علاقته الصحيحة والسليمة مع الوجود ومكوّناته، وليدرك كذلك أنه "كائن طارئ زائل" يتحتم عليه أن يلتقط الرسالة جيدًا، وأن يعرف موقعه في العالم ومعنى وجوده ووظيفته الاستخلافيّة وغايته الوجوديّة، وهي محاور رئيسة تشكل حقيقة أيسه في زحمة الأيديولوجيات المائتة والفلسفات المادية التي اكتشف عورها، كما يرى "موران" في كتابه "إلى أين يسير العالم"، إذْ اعتبر أنَّ الإنسان المعاصر ما يزال يئنّ تحت وطأة العنف والدمار، ولم يقضِ بعد على الوحشية الاستهلاكية، وتهاوت مقولات العولمة وشعاراتها، بسبب الرأسمالية المتغولة كما يعبِّر "موران" دائمًا، والتي خلّفت مشاكل جمّة يعاني منها الكوكب الآن، وأهمها تدمير البيئة وتعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية فضلًا عن تأزيم العديد من الأنظمة السياسية الديمقراطية، كما تعطلت القيم الإنسانية النبيلة، التي لا مناص منها لترسو سفينة البشرية على بحر السلام، وتثق في مستقبلها.
2- عجز العلم ونقد المركزية البشرية
إلى حدود اللحظة عجز التقدُّم العلمي، في زمن "الحداثة السائلة"، عن مجاراة إيقاع الفيروس الفتّاك وقدرته الخارقة على الانتشار متخذًا الإنسان ناقلًا له ومحتضنًا. تتوالى جهود العلماء في مختبراتهم، وعلى الرغم ممّا راكموه من تجارب وخبرات جمّة في مختلف المجالات إلا أنَّ إرادتهم وقفت عاجزة أمام كائن غير محسوس لإيجاد لقاح مناسب يخفف وطأة الألم عن المصابين ويبشر الإنسانية جمعاء ليهنأ لها بال وهي تصارع الموت بشكل متواصل، وما أصعبه نفسيًّا. ليس الهدف هو تبخيس هذه الجهود، فأصحابها يستحقون كل التقدير والاحترام. لكن لنشير في هذا السياق إلى أنَّ قوانين "الحتميّة العلميّة" كما بشَّرت بها الفلسفة الوضعية منذ زمن، لا تكفي لتفسير العالم الطبيعي والاجتماعي وتحليل قوانينه والتنبؤ بأسبابه بيقين علمي مطلق، طالما تتجاهل "نسبيّة العلم" وأفقه المحدود ومساراته المتغيرة، وبالتالي فتأسيس العلاقة بين الإنسان والطبيعة على أرضية علمية يستوجب كذلك إدراك قوانين العالم التي تخضع لإرادة إلهيّة مطلقة، لا لإرادة إنسانية نسبية ومحدودة. وبالتالي يظلّ العلم تبعًا لحقيقة ثابتة ومطلقة، يجب على الإنسان أن يسير في اتجاهها، لا أن يجافي منطقها بدعوى الانتصار للعقل العلمي وعقلنة أية علاقة وأيّ فعل إنساني أو طبيعي. إنّ "العقل العلومي"(4) كما يسميه "ياسين"، لا يمكن أن يفتح أفقًا جديدًا للمعرفة ويشيد بنيانًا رصينًا إلا بتجاوزه للعقل الفلسفي وإيمانه بنسبيّته ومحدوديّته. يقول ياسين: "أعلنت الفلسفة إفلاسها وعجزها عندما دفع العقل التجريبي إلى عهدتها أسئلة لا جواب عنها، فراكمتها وصنَّفتها في مخازن المجهول وعلّقت عليها لافتة (براسيكولوجيا). وكأنَّ تصنيف المجهولات وتأليف الموسوعات في ما يجهله الإنسان، وتعليق اللافتات الطنانة علم وإنجاز معرفي"(5).
إنَّ العقل العلمي كيفما كانت قيمته الإبستيمولوجية كـَ"براديغم" للتفسير والتحليل والتأويل يظل عاجزًا وحده عن التنبؤ بظواهر الطبيعة والتحكم في مساراتها، مما يشي بعجز "الإنسان" كذات عارفة عن تأكيد مركزيّته وسيادته المزعومة بالمعنى المطلق للسيادة عبر بوابة "المعرفة العلمية". فيروس كورونا بيَّن للعالَم أنَّ التفكير الوضعي العلمي أقصى ما يمكن أن ينتجه لا يتجاوز حدود "النسبيّة"، وتبقى بالتالي استقراءاته واستدلالاته مجرد افتراضات وتخمينات، لأنَّ "التعميمات الناموسية" بتعبير "أبراهام كابلان"(6)، التي يجب أن تكون صادقة كونيًّا وغير مقيدة مكانيًّا وزمانيًّا، يمكن أن تخرج عن سلطة العالم، فتصير تنبؤاته المؤسسة على التعميم غير دقيقة، لأنه يقوم في نظر "لينكولن" و"غوبا" على مغالطات إبستيمولوجية تبين في مجملها "نسبية الاختيار الوضعاني"(7) ومحدودية قيمته التفسيرية. كما أنَّ الأسئلة بحسب طه عبدالرحمن لا تلقى أبدًا الإجابة داخل نطاق النظرية العلمية، وهكذا "يتضح أنَّ النظر في مقاصد المنهج العقلي العلمي قد يطلب النسبية والتفاضل بدل الوحدة والتكامل، ويطلب الاسترقاق بدل التحرير، ويطلب الفوضى بدل النظام"(8)، وبالتالي يمكن للعقلانية العلمية أن تكون ضارة كما يرى طه.
3- نقد الحداثة الاستهلاكية والرأسمالية المتوحشة وتهافت القيم المعلنة
أظهر هذا الوباء -بحسب "موران"- أنَّ الحداثة الاستهلاكية عرَّت حقيقة الوحدة الأوروبية المزعومة، وبينت أنّ قيم التعاون والتضامن والتفكير في الآخر والوعي المشترك بالمصير الإنساني، هي عناوين جوفاء لا موقع لها في منظومة الدول الأوروبية، فباتت كل واحدة تفكر في نفسها، بمنطق أنا وبعدي الطوفان! بل وآثرت دول أخرى يُعتقد أنها الأقوى اقتصاديًّا أن تضحّي بالإنسان على حساب المال والرأسمال، والنتيجة إعطاء الأولوية للحسابات المالية قبل القيم الإنسانية، وغياب سياسة أوروبية دولية، كما يرى "موران"، في تناقض صارخ مع دعواتها لتقدير الإنسان وحقوقه الطبيعية والمدنية الكونية، وهو ما يدفع أيّ لبيب ليتساءل عن قيمة الرأسمالية ومنظومتها الاقتصادية الربحية حينما يتم تغييب الإنسان وتتعطل مكانته. بل وأين هي الاختيارات الاستراتيجية لهذه الأنساق لتدبير مثل هذه الجوائح والأمراض التي لم ولن تستأذن الإنسان أو تخبره بقدومها؟ وأيّ قوة هذه، التي تتبعثر أوراقها بسبب حرب طبيعية غير مرئية؟ أم أنَّ المفاهيم يلزم أن تصحَّح، إذ لا قوة فوق قوة الطبيعة، وأنَّ الفاعل الاقتصادي كيفما كانت شهرته وسيولته المادية يبقى ذرَّة ضمن نسق عام لا يملك السيادة المطلقة عليه، ممّا يلزمه أن يخضع له، مؤمنًا بضعف قدرته، وهذا الذي يجعله قويًّا في نظرنا، حينما يثق في ذلك وتعكسه إنجازاته. فلا تؤلهوا رأسماليتكم! وتذروها تعبث بقيمكم الأصيلة، ألم ترسب عند أول اختبار طبيعي أمام كائن غير مرئي!
الكل صار يتحدَّث عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة لفيروس كورونا، والجميع أصبح مقتنعًا أنَّ كارثة إنسانية غير منتظرة وقعت، مخلّفة تساؤلات وجودية وأخلاقية غاية في العمق، لا تسائل الإنسان فقط وقيمه وتعرّي هشاشة قناعاته وإيمانه بالقدر المقدَّر عليه، لكن تُسائل كذلك الفلسفات الغربية التي نظرت للإنسان في علاقته مع عالمه، وتنبأت بمستقبل حضاراته، وأفصحت له عن سر سعادته ليتوق إلى تحقيقها، وعن مصدر شقائه ليفر منه، وأعمت بصيرته بقوة العلم وسلطان العقل دون غيرهما، وجعلت الحداثة العنوان الأبرز لأي تقدم إنساني، بل وهي المدخل الرئيس لكل رقيّ منتظر. والحداثة كما يقول ياسين هي السلاح المادي لإخلاء الطريق أمام الرأسمالية والأفكار التي تبنيها، وهي النقد الأيديولوجي لكل تراث رث، وهي أخيرًا السلاح الذي يعبد صنم الربح. لكنها تبدو بشارة غربية لم تفِ بوعودها للعقلاني والعلماني والإنسان المادي، بل تركته وعاءً خاويًا بلا روح.
الرأسمالية المتطرفة والمتوحشة كما ينعتها ياسين، عاجزة عن مسايرة وتيرة الفيروس القاتل، لأنّ غايتها أن يحيا الاقتصاد ويقاوم كل انهيار مرتقب، وهذا ما نجده واضحًا في جلّ تصريحات "ترامب" الغريبة بتعبير "تورين"، إذ تؤكد في جملتها نزعته الاقتصادية وميولاته الرأسمالية ورهاناته الانتخابية ممّا ساهم في تأخُّر إجراءات الحجر الصحي كخيار وقائي ضروري لإيقاف تفشي الفيروس، ممّا خلّف عددًا كبيرًا من المصابين والوفيات في صفوف الأميركيين. إنه عالم غريب بلا فاعلين كما يراه عالم الاجتماع "آلان تورين"(9)، مخلفًا فراغًا في الأفكار الموجَّهة والأطراف الفاعلة أمام حرب غير مرئية، لكن مفاعيلها قوية ومؤثرة كذلك. تفتك بالإنسانية في صمت. ممّا يدفعنا إلى التساؤل: أهي مؤشرات بداية نهاية قيادة الإنسان الغربي للعالم؟ وهل هذه المنظومة الاقتصادية التي اكتشف ضعفها كفيلة بتغيير القيادة؟ أم أنَّ الأزمات القيميّة التي خلّفتها هي من ينذره بالزوال؟ يقول سيد قطب: "إنّ قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لا لأنَّ الحضارة الغربية قد أفلست ماديًّا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية.. ولكن لأنَّ النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة"(10).
وبعيدًا عن وجاهة هذا التحليل من عدمه، فلا مناص من قيادة جديدة للبشرية أساسها قيم إنسانية كونية تتجاوز جغرافيا المكان وفجاج العقائد والفكر، وتتعالى على رهانات السياسة المتموجة ومصالح الدول المتقلبة.
ولا بدَّ كذلك من تبديد الشك على أنَّ الحداثة الرأسمالية عجزت عن تقديم إجابات أخلاقية شافية عن التساؤلات القيمية التي خلّفتها أزمة كورونا، ولم يجد الناس ملاذهم الآمن إلا في التضامن ونكران الذات والتعاون والعمل الجماعي وهو ما يشي بضرورة الانتماء للجماعة بمعناها الإنساني الواسع لتتكاتف الجهود وتتقوّى الإرادات في تصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة وطرد كل النزوعات العدوانية التي لا تكرس سوى الهوّة العميقة بين الناس في العالم.
• مظاهر أزمة الإنسان المعاصر في زمن كورونا
لن يكون زمن كورونا لحظة عابرة في تاريخ البشرية، دون أن تتلقف الإنسانية إشاراتٍ ودروسًا مهمة تصحح مسارها وتعيدها إلى السكة المناسبة. وأول درس هو إفلاسها في عالم القيم كما يقول سيد قطب في مقدمة كتابه "معالم في الطريق"، ممّا جعل البشرية تقف على حافة الهاوية. بل ويعيش الإنسان بتعبير مقبول "أزمة معنى"، فهو حلقة في ناعورة الحياة حقه أن يغتنم العمر القصير، كما تزعم الدهريّة، أو هو عامل من عوامل الإنتاج، يدير العجلة وإلا يُساق للجولاج كما ترى الماركسية، أو هو سوق ومستهلك بحسب الرأسمالية، حقه أن تزيّن له البضاعة وتشهر وتعلّب. أو لنقل بالتعبير الوجودي عبث مرمي في الكون، حقه اللهو والحزن اليائس والانتحار، أو الانخراط في نضالية ماركسية يصنع بها الإنسان لنفسه وجودًا مشرّفًا. أو آلة للّذة. حقه الجنس بلا حدود. لا تنطق بكلمتي الزنا والخنا، فهما مخلفات بالية(11). ألم يكفِ هذا كله لنعلن أنَّ الإنسان المعاصر يعيش أزمة حقيقية، نكشف عن بعض تجلّياتها الأخرى في زمن كورونا، من خلال ما يلي:
1- أزمة الانغلاق والأنانيّة:
لم يكن من المستساغ أن تنغلق كل دولة على نفسها، وتقاوم مصائر مواطنيها بمفردها، ولا تكاد تجد خطابًا سياسيًّا يفكر بلغة المشترك والعمل الجماعي الاستراتيجي لحلّ الأزمة الوبائية إلا نادرًا بين الساسة ورؤساء الدول. وقبيل إعلان إجراءات الحجر الصحي تهافت المواطنون على المتاجر والصيدليات لاقتناء المواد الغذائية ومواد التنظيف بشكل مفرط، إلى أن أفرغت بعض المواقع التجارية عن آخرها كما تظهر فيديوهات مصورة توثق ذلك، مما يكشف عن "الأنانية الاستهلاكية" للإنسان المعاصر، التي لا يمكن فصلها عن "المنظومة الاقتصادية" السائدة وخلفياتها الثقافية والفلسفية.
2- هشاشة الرابط الاجتماعي/ الأسري:
أظهرت مصادر صحفية غربية مثل "نيويورك تايمز" عن ازدياد في الخلافات الأسرية وارتفاع نسب الطلاق في العديد من الدول كالصين وأميركا الشمالية وبعض دول أوروبا وإيران أثناء العزل المنزلي؛ ففي إيران مثلًا: أعلن "بهزاد وحيدنيا" مدير دائرة الاستشارات النفسية في منظمة الرعاية الاجتماعية ارتفاع نسبة الخلافات الأسرية فى إيران 3 أضعاف خلال فترة الحجر الصحى نتيجة انتشار فيروس كورونا المستجد فى البلاد(12). وبحسب وكالة "إيرنا"، فإنَّ المؤسسة تلقت اتصالات هاتفية يوميًّا بلغت 4 آلاف طلب للاستشارات الاجتماعية فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية. ورأى المسؤول الإيراني أنَّ سبب زيادة الخلافات الزوجية في ظل أزمة كورونا هو البقاء فى المنازل وزيادة ساعات التواصل بين الزوجين، مضيفًا إنَّ "غالبية الخلافات تتعلق بتطبيق الإرشادات الصحية داخل المنزل والإجراءات الوقائية عند خروج أحد الزوجين لقضاء حاجة أساسية، إضافة إلى الخلاف على تربية الأطفال. وفي السياق نفسه أشارت لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا إلى أنَّ ظاهرة العنف المنزلي قد ارتفعت وازدادت بسبب فيروس كورونا وتداعياته الاجتماعية والنفسية(13).
يبدو أنَّ وباء كورونا خلّف ندوبًا اجتماعية غائرة، وعرّى هشاشة التماسك الاجتماعي، وهو درس بليغ، يدعونا إلى التفكير في سبل حماية مجتمعاتنا لتكون أقدر على مواجهة العواصف الطبيعية التي تهدِّد لحمتها. ولا أجد لذلك مدخلًا ناجعًا إلا بترسيخ منظومة قيمية صلبة تقوّي الروابط الأسرية والاجتماعية لتنجح في اجتياز هذه الجوائح بأمان وتعود الأسر ومعها الحياة الاجتماعية إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار. وكلّما استقرّت الأسر، استقرّ المجتمع.
3- أزمة ثقة في الذات والإمكانيّات:
خلقت جائحة كورونا أزمة ثقة على أكثر من صعيد، على مستوى التدبير السياسي للأزمة، وعلى المستوى الاقتصادي، وعلى المستوى الاجتماعي من خلال البدائل والإجراءات المواكبة لأيّ قرار مركزي، وعلى مستوى المنظومة الصحية، وعلى الصعيد العلمي والتقني وغيرها من الواجهات.
4- مفارقات "كورونا":
أظهر هذا الوباء العديد من المفارقات الاجتماعية، ومن بينها أنَّ الإنسان أيًّا يكن موقعه قادر في خضم هذه الأزمة على التغوّل إلى حدود تتجاوز الخيال أحيانًا في تجسيد الأنانية المفرطة، مثلما هو قادر على التحليق عاليًا في السماء عبر عزة النفس والكرم في ظروف عصيبة. كما توضحه العديد من الأشكال التضامنية التي اتخذتها فعاليات المجتمع المدني في دول عديدة، لكن في المقابل نلفي مشادات عنيفة على أوراق المراحيض المعروضة في المحلات التجارية بين أناس متحضرين يقيمون في بلدان جذروها ضاربة في التاريخ المعاصر(14).
أظهر الفيروس إذن، تناقضات المجتمعات وتفاوتها في تلقي مبادئ المنظومة القيمية الإنسانية الكونية. ففي الوقت الذي فرَّت فيه بعض الفئات الاجتماعية سواء في الغرب أو في غيره إلى معانقة "المعتقد الديني"، هرعت أخرى إلى نقد منطلقاته بدعوى أنَّ "الفيروس" يحتاج جهودًا علمية حثيثة وغير ذلك مضيعة للوقت. ممّا يفوِّت على المجتمعات فرصة رأب الصدع بين "التكتلات الأيديولوجية"، والانتصار للمؤتلف.
• لا مناص من أخلاق كوكبيّة
أصبح الجميع مقتنعًا أنَّ سفينة الإنسانية لا يمكن أن تتقدَّم إلا بالعمل المشترك والتعاون والتضامن والتنسيق الجماعي لمواجهة كل الجوائح سواء كانت طبيعية أو بشرية أو غيرها. إنَّ الأخوّة الإنسانيّة هي مفتاح الألفية القادمة كما يرى "موران"، وهي منطلق سياسة حقيقية حضارية(15)، وبالتالي فالاهتمام بالإنسان في شموليته وكليته هو مطلب رئيس بحسب ياسين، كي تجد الأمم حلولًا لاضطراباتها وتناقضاتها، وهي من صنع "الإنسان التائه والشره"، الذي وظفته الرأسمالية ليتعاظم البؤس في العالم ويستفحل الفقر وتتعمق الهوة بين الفئات الاجتماعية.
هذا "الفقر الأخلاقي" كما يسميه مقبول(16)، يستوجب يقظة إنسانية عالمية تحمي المجتمعات من شتى أشكال الاغتيال والامتصاص، وتقف وقفة واحدة حينما تتهدَّدها الأوبئة والأمراض الفتاكة، فالتقدُّم الحقيقي ليس الانفراد بالإنجازات الخلاقة على حساب مقدرات الغير، وخيراته الطبيعية، أو إيجاد حلول لمشكلات ذاتية- محلية، أو الانغلاق على الذات وإغلاق المنافذ وكل أشكال التواصل والتعاون، بل التقدُّم والرقيّ والتنمية هو "أنْ تنمو مشاعر الخير ويتطور الوعي لدى الإنسان، لا أنْ تتطور أدوات الحياة ووسائل الفتك بالإنسان والطبيعة... وليس التقدم في أن يعرف أسرار ما حوله ويجهل ماهية نفسه ومصيره"(17).
إنَّ مشروع "الأخلاق العالمية أو الكوكبية" كما يسمّيها المفكر الكاثوليكي "هانس كينغ"، يعتبر فرصة تاريخية لتتجاوز المجتمعات انغلاقها الهوياتي، وتفتح أبوابها للعالم ليعم التسامح والتفاهم والتعاون على أرضية إنسانية مشتركة، وينعم بالخير المشترك في إطار هوية أرضية كونية منفتحة.
لقد بعثر "الكائن الفتاك" مفاهيم الإنسان عن الحياة والوجود وأبان عن ضعف فاعليته المبدعة في مجالات التقنية والعلم والشغل والتبادل، وكشف كذلك عن ضرورة التفكير الجماعي وفق منظومة أخلاقية كوكبية تؤسس لتفاهم شاسع كمدخل للتعاون في مواجهة الكوارث الطبيعية والأوبئة الجائحة.
تبيّن كذلك ضعف الرأسمالية وتهافت العديد من النظريات الفلسفية والسوسيولوجية الكلاسيكية منها والمعاصرة في تفسيرها لما يجري في الواقع الاجتماعي، وفي المقابل ظهرت الحاجة لحقول معرفية جديدة ونظريات علمية تسائل واقع المجتمع الدولي الذي فقد وهجه الساحر الموهم لكثيرين، وتبحث في إمكانيات بناء واقع اجتماعي جديد، بخصوصيات جديدة وفلسفة ثقافية جديدة، ونسق تواصلي جديد، وتفتح للإنسانية أفقًا واسعًا متحررًا من شرك "الأيديولوجيات المتناطحة" ومن قيد "السياسات الاقتصادية الربحية" التي لا تعير لقيم الإنسان أي اعتبار.
ممّا لا شك فيه أنَّ ما بعد جائحة كورونا ليست كما قبلها، وأول ما يمكن أن يُعاد فيه النظر هو "الأولويات القيمية" وضمانات تمثلها في كل مستويات الحياة الإنسانية ومناحي الوجود الاجتماعي، ومداخل ترتيبها كمنطلقات معيارية ضرورية لسلامة المجتمع حاضرًا ومستقبلًا، وحينها يمكن للإنسان أن يستعيد قيمته ومركزيّته لا على أرضية "الحداثة الفيلسوفة" هذه المرَّة، لكن على أرضية أخلاقية كوكبية تحفظ كرامته وإنسانيته وتجيب عن أسئلته الوجودية المؤرِّقة.
سيتأكد كذلك موقع العلم في منظومة الإصلاح، وستكون الدول أكثر يقظة في ترقب كل "مارد طبيعي" غير متوقع عبر صياغة استراتيجيات اجتماعية واقتصادية، وعلى ضوئها تنمو قيم التضامن والتعاون والتكافل، كما يفترض أن يصحح العالَم علاقته بالطبيعة والكون، ليتجاوز ما يسميه عالم الاجتماع الألماني "أولريش بك" (مجتمع المخاطر) الذي تتهدَّده السموم والأوبئة والنفايات وغيرها من المخاطر الطبيعية والإنسانية.
• خاتمة
إنَّ جائحة كورونا لحظة تاريخية مهمّة ليصحِّح الإنسان علاقته بذاته؛ كي يؤمن بحقيقة وجوده ويعترف بضعفه وعجزه ويقفل باب "سيادته" المزعومة ويرجع لنفسه منتقدًا "جشعها الاستهلاكي" و"أنانيتها المستعلية" ومختلف "العادات الجارفة" الحاطة من قيمته. لذا فهو بحاجة ماسة إلى فلسفة جديدة تؤطر تعامله مع العالم المادي والرمزي المحيط به، سيما الذي تعكسه أفعاله وأقواله وأفكاره ومختلف أشكال تفاعله. ثم أخيرًا هي فرصة كذلك لتشييد عمران أخوي على أرضيّة أخلاقيّة كوكبيّة تتجاوز جغرافيا المعتقد وفجاج الفكر ومشوشات الأدلجة.
إنَّ العالم بعد جائحة كورونا، بلا شك سيكون مختلفًا عن ما قبلها، ونأمل أن يكون التغيير للأفضل، وتفكر "المنظومة الرأسمالية" في ذاتها بالمعنى المزدوج للنقد، وتؤسس على ضوئها علاقات دولية تنتصر للمصالح الإنسانية المشتركة، بعيدًا عن المصالح السياسية المتقلبة والرهانات الأيديولوجية المتموِّجة. ولا يمكن أن يتحقق هذا الرهان إلا بإحداث قطيعة مع ماضي "الحداثة" البئيس، ومفارقاتها السوسيولوجية وتناقضاتها الثقافية.
• الهوامش:
(1) هايدغر، مارتن. حوار مع مارتن هايدغر أجراه ريتشارد فيسر، ترجمه عن الألمانية إسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد، عدد 23-1999، ص126-129.
(2) سير، ميشيل. العقد الطبيعي، فلاماريون، 1990، ص58.
(3) ياسين، عبدالسلام. محنة العقل المسلم، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال، طنجة، 1994، ص94.
(4) يميز ياسين بين العلم والعلوم، فالعلم بصيغة الإفراد هو العلم الكامل، وهو العلم بالله وبالإنسان ومصيره، وهذا مصدره الوحي لا سبيل للفكر البشري إليه إلا عن طريق الرسل عليهم السلام. وما يكتسبه الفكر البشري بوسائله المودعة فيه من العلوم الكونية فيليق أن تسمى علومًا بصيغة الجمع. انظر كتابه: محنة العقل المسلم، ص92.
(5) ياسين، عبدالسلام. المرجع السابق، ص94..
(6) Kaplan, Abraham.The Conduct of Inquiry, San Francisco Chandler, 1964, p:91.
(7) Guba, Egon G. and Yvonna S. Lincoln , The Only Generalization Is: There Is No Generalization. in: Roger Gomm, Martyn Hammersley and Peter Foster (eds.). Case Study Methods: Key Issues, Key Texts, Thousand Oaks, CA: Sage, 2000, pp. 27-44 (نقلا عن دراسة حسن أحجيج، التعميم في بحث دراسة الحالة، إضافات، العددان 47-48، 2019)
(8) عبدالرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، 2000، ص66.
(9) https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/
(10) قطب، سيد. معالم في الطريق، دار الشروق، ط6، 1979، ص3.
(11) ياسين، محنة العقل المسلم، ص99.
(12) https://www.youm7.com/story/2020/4/2/
(13) https://www.unescwa.org/sites/www.unescwa.org/files/20-00132_gpid_pb_ar_apr3
(14) ملكاوي، أسماء حسين. كورونا وعلم الاجتماع: أسئلة جديدة، ضمن كتاب جماعي بعنوان "أزمة كورونا وانعكاساتها على علم الاجتماع والعلوم السياسية والعلاقات الدولية"، مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية، 2020، ص20.
(15) موران، إدغار. إلى أين يسير العالم؟، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009، ص7.
(16) مقبول، إدريس، ما وراء السياسة، مطبعة أفريقيا الشرق، 2016، ص396.
(17) مقبول، المرجع نفسه، ص398.