د. صبحي الشرقاوي
أستاذ التربية الموسيقية- الجامعة الهاشمية
subhisharqawi@yahoo.com
كان التفاعل مع هذا اللَّون الغنائي "الابتهالات الدينية" كبيرًا في مسابقة "موهبتي من بيتي"، وجاء ليعبِّر عن حالة من الوجْد والتفاعل الحقيقيّ المرتبط بمناسبة شهر رمضان العزيزة على قلوب فئة كبيرة من أبناء الشعب الأردني، فالإنشاد الديني لطالما كان واحدًا من أهم الرَّكائز الرَّئيسة للشعائر الدينيّة منذ أقدم العصور. وتعدُّ الابتهالات الدينيّة من المواضيع المُلازمة للحياة الدينيّة منذ بداية الدعوة الإسلاميّة.
"بدلًا من أن تلعنوا الظلام أضيئوا شمعة"، لطالما كنتُ معجبًا بهذه المقولة، لكنَّني بالتأكيد أكثر إعجابًا حينما أرى أنَّ هناك –فعلًا- مَن يضيء شمعة حقيقية تضيء طريق شعب أو جيل أو وطن، يقف في ظرف استثنائيّ وطارئ من الصعوبات التي اجتمَعَتْ لتشكِّل حالة من هاجس اليأس والخوف، وربَّما التشاؤم وانعدام الأمل على مستوى العالم كله... كيف لا وقد كان ظرف جائحة "كورونا" أمرًا طارئًا ومستجدًّا وغير مسبوق على جيل من الشباب كان ينتظر بكثير من الأمل قدوم فصلٍ جميل؛ الرَّبيع بكلِّ رشاقته ورومانسيّته، ثم الصيف بحريّته وانطلاقه، خاصة بعد أن يكون طلبتنا في المدارس والجامعات قد أنهوا متطلّبات مدارسهم وجامعاتهم... ثم يأتي هذا الطارئ "الغول" الذي صبغ لون كل شيء بلون لا أريد أن أصفه بالقاتم، بل بالمؤلم القاتل... ثم... يأتي الإبداع والفكر الخلّاق ليحتلَّ دوْر القيادة في إضاءة شموع التفاؤل والأمل... فتأتي وزارة الثقافة بفكرة إبداعيّة خلّاقة بنّاءة لتُعيد الأنفاس إلى إيقاعها المُموسق الجميل الذي يعيد الأمل والعمل لأجل عودة ليست طبيعيّة، بل سامية خلّاقة للكشف عن معنى جديد لم يخطر ببال أيّ كان، حتى ولا في أيّ مكان في العالم؛ فكرة كشفت عن كنوز جعلتنا نهضم "كورونا" دون توابل أو بهارات، جعلتنا نهضمها بحلاوة الإبداع لنصبغها رغمًا عنها بلون مميَّز ما عُرف إلّا هنا... هنا في الأردن.
أكاد لا أبالغ إن قلتُ: إنَّ "كورونا" ربَّما كانت فرصة أتيحت للكثير من أبنائنا وأهاليهم لمعرفة إمكانات وقدرات لم نكن لنعرفها لولا هذه الـ"كورونا" وما نتج عنها ممّا نسمّيه "الحجر البيتي" والذي أسمّيه "الاعتكاف الإبداعي"؛ فكانت فرصة مثاليّة ليتعرَّف كل واحد من أبنائنا على مكنونات نفسه وما تختزنه من قدرات، ربّما لم تُتَح الفرصة لها لتفور خارج صندوق التفكير التقليدي في الحياة التي اعتدناها، وأكَّدت عليها ورسَّختها منظومة السلوكات والمعاملات التربوية التقليدية؛ فالمدرسة ووقت الدوام المرهق قيَّدت الكثير من الطاقات الإبداعية، لهذا فإنه عندما أتيحت فرصة الوقت ومساحة البقاء في البيت لفترات أطول، بدأت تتفتَّق هذه الطاقات عن مواهب لم تكن مكتشفة، أو لم تكن قد أتيحت لها الفرصة كي تنمو وتكبر.
لقد عرف كل واحد من أبنائنا قدراته وإمكاناته وتجرَّأ عليها وأنطقها، كل ذلك ما كان ليكون إلّا بوعي وفكر قادته وزارة الثقافة بحنكة وذكاء؛ وهي بذلك لم يكن هدفها عصفورين بحجر –كما يُقال- بل كومة من العصافير المغرِّدة الناطقة على مساحة وطن بأكمله، طاقات من الإبداع والخلق والموهبة التي ما توقَّعها أحد، أو على أقل تعديل ما خطر ببال أحد أن يفكر بمشروع شمولي واحد كي يصل إليها وبهذه السهولة واليُسر، مستخدمًا وموظِّفًا تكنولوجيا العصر والتي كانت فرصة مواتية لاختبار شبابنا في كيفيّة استثمار قدراتهم وطاقاتهم الإبداعية الخلّاقة للقيام بفعل لا يمكن أن يوصف إلا بأنه أكثر من إبداعي، بل عبقري.
وقد قامت وزراة الثقافة الأردنيّة بإطلاق مشروع "موهبتي من بيتي" بتوقيت ذكي وطريقة أكثر ذكاءً حينما عرفت كيف تستثمر وقت "الحجْر" الذي تمَّ تطبيقه بظرف استثنائي نتيجة لحالة استثنائية يمرُّ بها العالم أجمع، فكان أن وظَّفت إمكاناتٍ بسيطةً متاحةً تقنيًّا وبلغةٍ عصريةٍ تحاكي إمكاناتٍ متوفرةً عند كل شابٍ تقريبًا، الأمر الذي خلق لهذا المشروع مساحةً من المشاركة لم تكن بحساب أحد على الاطلاق... ولم يحظَ أيّ برنامج مرئي أو مسموع بمثل ما حظي به مشروع "موهبتي من بيتي"، والسبب -كما أسلفنا- هو توافر الظروف والإمكانات والرغبة الأكيدة عند الجميع للخروج من جوّ جائحة "كورونا"، والأهمّ من كل ذلك أنَّ هذا الخروج كان إبداعيًّا استثماريًّا حضاريًّا راقيًا كشف عن مواهب وإبداعات في عدد من المحاور منها؛ الفنون التشكيلية- الرسم والتصوير، الفنون الدرامية- التمثيل والإخراج، النصوص الأدبية- القصة والشعر، الفنون السمعية- الموسيقى والغناء، والابتهالات الدينية، موضوع حديثنا في هذه الورقة والتي سنتحدث بها عن موضوع مهم يُعد من أهم المواضيع الملازمة للحياة الدينيّة منذ بداية الدعوة الإسلاميّة، فقد جاء الإسلام ليقرّ الصوت الحسن، كما هو واضح في الآية الكريمة "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"(سورة لقمان، آية19) ودليل ذلك هو اختيار الرسول (صلى الله عليه وسلم) لبلال الحبشي أوَّل مؤذِّن في الإسلام كونه أندى صوتًا؛ وهذا دليلٌ على اهتمام العرب بحلاوة الصوت ومعاني التجويد فيه.
كان الإنشاد والغناء الديني أحد أهم الرَّكائز الرئيسة للشعائر الدينيّة منذ أقدم العصور، فقد كان الطواف حول الكعبة قبل الإسلام، مصحوبًا بالتهليل والتلبية، وبالتأكيد فإنَّ ذلك لم يقتصر على الدين الإسلامي فقط، بل لقد استخدمت معظم الأديان الغناء والموسيقى والأناشيد ووظَّفتها توظيفًا يخدم معتقدها وفكرها الدينيّ.
ومن أنواع النشيد الديني، النشيد الصوفي الذي يمكن وصفه بأنه رحلة روحيّة، يتم إنشاؤها ببطء، بناءً على نظام أخلاقي صارم، والروحانيّة هنا تعني الإيمان في القلب، والذي يتم إدراكه من خلال القوّة الروحانيّة الموسيقيّة التي تساعد العقل والروح على أن ترتكز على فكرة الوصول إلى مرحلة الوجد، ممّا يقود إلى الانتقال نحو الإنشاد، الذي يؤدي إلى رضا الله سبحانه وتعالى وهو الهدف المرغوب والمنشود.
وقد أصبح الإنشاد من أوثق ما يربط الناس بالدين، وكأنما أدرك هؤلاء المنشدون ما للإنشاد من سحر في النفوس وتأثير على الطبائع، فحوّلوا مجتمعاتهم إلى مواطن روحيّة تردّد فيها الألحان الشجيّة.
والإنشاد هو واحدة من طرق ووسائل الاتصال والتواصل، لما فيه من دعاء وابتهال منظَّم ومحبَّب لدى السامع، يتناول فيه المنشد أو المؤدي كلمات وعبارات تتحدَّث عن مدح الرسول الأكرم، وكلماتٍ تتحدَّث عن نعيم الجنّة والتقرُّب إلى الله بشكل لا يخلو من التبتُّل والتضرُّع والانكسار لعظمة الخالق طمعًا ورغبةً للفوز بالجنّة ورهبةً للنجاة من النار والعقاب، كل ذلك بصياغة لحنيّة وصوت شجيّ جميل رقيق يؤثر في نفس السامع ويعبِّر عن إحساسٍ عالٍ عند المؤدّي.
لم يقتصر الإنشاد الديني على الأداء الجماعي فقط، فقد تطوَّر موضوع الإنشاد الديني ليواكب تطوُّر العصر ومصطلحاته وتحديدًا في منتصف القرن التاسع عشر حيث أصبح هناك نوع يسمى الغناء والابتهالات الدينية التي لا تستوجب الأداء الجماعي بالضَّرورة، ومن أمثلة ذلك ما أدَّته "أم كلثوم" من غناء ديني في رائعتها "سلوا قلبي" و"الثلاثية المقدسة" و"الرضا والنور"، و"القلب يعشق كل جميل" وغيرها الكثير، كذلك ما ابتهل به "سيد النقشبندي" الصوت الذي يطاول عنان الروح جمالًا وأداءً في رائعته "مولاي إني ببابك"، والمقرئ الشيخ "طه الفشني" في رائعته "يا أيها المختار"، و"محمد الكحلاوي" في أغنيته الدينية "لأجل النبي"... والكثير الكثير ممّا يصعب حصره في هذا السياق.
عودًا بنا إلى ما قدَّمه المتسابقون في برناج "موهبتي من بيتي"، فلا شكَّ في أنه يحاكي ما اختزنته ذاكرة كل منهم من مجموع ما تلقَّت أذنه من سماع مقصود أو غير مقصود، فهو لا يستطيع -أيًّا كان مزاجه- أن يفصل سمعه عن ما يحيط به؛ الأب والأم والجد والجدة يستمعون إلى هذه الأنماط الغنائيّة لا سيما وأنَّ مسابقة حقل "الابتهالات والأناشيد الدينية" كانت في شهر مبارك فضيل؛ شهر رمضان، وهذا أيضًا مؤشر كبير على ذكاء القائمين على هذه المسابقة وهذا المشرع الريادي المتميز في وزارة الثقافة، وعليه فقد كانت المشاركات والتفاعل مع هذا اللون الغنائي "الابتهالات الدينية" كبيرًا ومعبِّرًا عن حالة من الوجْد والتفاعل الحقيقي المرتبط بمناسبة دينيّة عزيزة على قلوب فئة كبيرة من أبناء الشعب الأردني، الأمر الذي جعل النتائج أكبر وأعظم ممّا توقَّع المشرفون ولجان التحكيم المتخصصة التي عملت بجدّ وجهد مخلصين حتى تصل إلى أدق وأصدق النتائج، وممّا ساعد في الكشف عن مواهب حقيقية هو الأعداد الكبيرة جدًا من المشاركين في مجال الابتهالات والإنشاد الديني كما أيضًا المجالات الفنية الأخرى، كل ذلك أتاح للجنة التحكيم المتخصصة التمحيص والمفاضلة لاختيار الأكثر تميُّزًا وفق معايير وضعتها اللجنة بشكل دقيق.
لقد قدَّم المشاركون في هذه المسابقة وفي هذا الفرع منها بالتحديد ابتهالات وأناشيد دينيّة لكبار الملحنين والمنشدين في هذا المجال، وكان التميُّز واضحًا عند عدد كبير من هؤلاء، وبرزت قدرات وإمكانات ومواهب صوتيّة جديرة بالرِّعاية والاهتمام، سواء من الأهل أو من المؤسسات التعليمية التي ينتمي لها هؤلاء الطلبة، أو من الجهات الرسمية المعنيّة بالاستثمار في الطاقات الإبداعية، لإتاحة الفرصة لها للتقدُّم والظهور على المستويين المحلي والعربي والعالمي.
لا يمكن لأحد أن ينكر أنَّ أدوات العصر أصبحت مختلفة تمامًا لمواجهة الحياة الجديدة، إذ لا بدَّ لنا في هذا المقام أنْ نذكر أنَّ تخصصات فنيّة جديدة وفتح الآفاق للمبدعين في كل المجالات لعرض طاقاتهم وإبداعاتهم للوصول إلى منتج فني وطني قادر على المنافسة على المستوى المحلي والعربي أصبح ضرورةً ومطلبًا وصناعةً لا بدَّ من العناية بها.
أخيرًا بكل الاحترام والتقدير نقول: شكرًا لوزارة الثقافة التي أدارت مثل هذا المشروع المنجز المثمر.