د. سعيد عبيدي
كاتب مغربي
saidabidi33@gmail.com
مِنَ المُلاحَظ في السنوات الأخيرة أنَّ الإنسان أصبح أقل انتباهًا وأكثر تشتُّتًا، ويرى بعض الباحثين أنَّ هذا الأمر يعود إلى طغيان الوسائل الإلكترونية والرقمية على حياتنا؛ فلا أحد ينكر أنَّ البريد الإلكتروني والهواتف الذكيّة ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وغيرها تحوز الكثير من انتباهنا ووقتنا. وفي خضمّ هذه الفوضى يلوح في الأفق سؤال لا بدّ له من إجابات صريحة هو: كيف نتغلب على التشتُّت ونركِّز في عالم تطغى عليه التقنية الرقمية؟
هذا السؤال هو ما حاولت الكاتبة الإنجليزية "فرانسيس بووث" (FRANCES BOOTH) الإجابة عنه من خلال كتابها: "مصيدة التشتُّت: كيف تركِّز في فوضى العالم الرقمي؟ (The DISTRACTION TRAP: How to focus in a digital world?).
والتشتُّت الرقمي يعني -بحسب الكاتبة- التغيير المفاجئ لسلوكنا بسبب الأجهزة الرقمية أو بسبب الإنترنت، وهذا الأمر يدمِّر علاقاتنا ويزيد من مستويات توترنا، ويغيِّر -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- من طريقة عمل أدمغتنا، فالإنترنت يقدِّم بصورة دقيقة ذلك النوع من المحفِّزات الشعوريّة والإدراكيّة التكراريّة والمكثّفة والتفاعليّة للإدمان، والتي ثبت أنها تؤدّي إلى تغيُّرات سريعة في الدوائر والوظائف العقليّة، ودون أن نقصد تقول المسارات الجديدة التي أنشأناها في أدمغتنا: "تفقَّد البريد الإلكتروني"، "غرِّد على موقع تويتر"، "ابحث على محرِّك البحث جوجل"، "انشر تعليقًا على موقع فايسبوك"، "ضع صورة على إنستغرام"، "اجرِ مكالمة على واتساب"... فهذه المسارات الجديدة لا يمكن تجاهلها، بل أكثر من ذلك نعزِّزها في أغلب الأحيان بشكل يومي، وفي أحيان أخرى كل عشر دقائق.
لقد أظهرت مجموعة من الدراسات التي أجريت على دماغ الإنسان أنه في الوقت الذي نبني فيه "مسارات رقميّة" جديدة هناك مسارات قديمة تتعرَّض للإهمال؛ حيث يحلّ الوقت الذي نقضيه في تصفُّح الإنترنت محل الوقت الذي كنّا نقضيه في القراءة، والوقت الذي نقضيه في تبادل الرسائل النصيّة القصيرة محلّ الوقت الذي كنّا نقضيه في كتابة جمل وفقرات كاملة... وبهذا تضعف الدوائر الدماغيّة التي تدعم الوظائف والأنشطة الفكريّة القديمة وتبدأ في الانهيار، وبالتالي يقوم المخ بإعادة تدوير الخلايا العصبيّة ونقاط التشابك العصبي المُهمَلَة لاستخدامها في مسارات أخرى متعلقة بأعمال أخرى أكثر إلحاحًا، وبهذا الشكل نكتسب مهارات ورؤى جديدة، إلّا أننا في الوقت نفسه نخسر مهارات ورؤى قديمة.
إنَّ العالم الرقمي بما يحويه -كما هو ملاحظ- يجذبنا ويبتلع وقتنا بالكامل، ونتيجة صلته الوثيقة بحياتنا وبعلاقاتنا وبناء هويّتنا يصبح الضغط والمخاطرة كبيرين؛ حيث نريد أن نظهر بمظهر معيَّن، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، ونقضي الكثير من الوقت قلقين حول ملفّاتنا الشخصيّة، ونتساءل عمّا ينبغي أن نقوله، ونتطلّع في المقابل لإلقاء نظرات على حياة الآخرين... وكل هذه الأمور تجعلنا مشتّتين نقضي ساعات في بناء وتحسين هويّتنا الإلكترونيّة عوض قضائها في العمل على بعض مكوّنات أنفسنا، والتي قد نكون بحاجة إلى تحسينها، فبِالغَوْص في العالم الرقمي إذن تصبح تصرُّفاتنا قائمة على الاستجابة للآخرين بدلًا من الخيارات الواعية، حيث ننتهي من مهّمة لندخل في أخرى، ومن ردّ لآخر، ونعيش حياة تتحكَّم فيها حاجات الآخرين بدلًا ممّا نحتاج إليه نحن.
إنَّ الأجهزة الرقميّة وما يرتبط بها تؤثِّر على مستخدميها الدائمين، أو بعبارة أدقّ مدمنيها، حيث إنَّ بعضهم قد يقع في خيوط وشباك لا نهاية لها، وبذلك يسيء استخدام هذه الأجهزة ويفرط فيها، ويعتمد عليها اعتمادًا شبه تام في جلّ حياته، ويشعر بالاشتياق الدائم لها، ويحاول تصفية كل التزاماته قبل أن يلج هذا العالم الرقمي، ويصبح شغله الشاغل هو كيف يعود مرَّة أخرى إلى هذه، وبهذا يفقد استقلاليّته ويصبح عبدًا بل وأسيرًا لها، لأنها أصبحت تتحكّم في كل أنشطته الحياتيّة.
ولقد أكّدت الدّراسات والأبحاث -كما أشارت الكاتبة- أنّ "مدمني" الأجهزة الرقميّة تظهر عليهم في الغالب مجموعة من الأعراض، شأنهم في ذلك شأن باقي مرضى الإدمان؛ من هذه الأعراض: استخدام هذه الأجهزة بكميّة زائدة من الوقت لكي يتحقّق الرِّضا، الاستخدام المتكرّر، الجهود غير النّاجحة في ضبط هذا الاستخدام والسّيطرة عليه أو التوقُّف عن استخدامه، الشّعور بعدم الرّاحة والاكتئاب والتهيُّج نتيجة المحاولة للحدّ من استخدام هذه الأجهزة، البقاء فترات طويلة في مواقع التّواصل أكثر ممّا هو مستهدف أصلًا من هذه المواقع، التعرُّض لخطر فقدان العلاقات المهمّة وفرص العمل أو فرص التّعليم، الكذب على الأسرة والمعالجين أو الآخرين بصفة عامّة لإخفاء مدى الانغماس في الأنشطة الإلكترونية، استخدام الإنترنت كأسلوب للهروب من المشاكل أو للتّخفيف من المزاج المتعكّر، ظهور المشاعر السلبية على المدمن كمشاعر اليأس، والشّعور بالذنب والقلق والاكتئاب.
ومن جهة أخرى أشارت بعض الدّراسات إلى أنّ مدمني الأجهزة الرقمية من حواسيب وهواتف نقّالة ولوحات إلكترونية وغيرها يواجهون مشكلات نفسية مثل العزلة الاجتماعية، والاكتئاب، والشّعور بالوحدة، وسوء إدارة الوقت جرّاء الاستخدام المفرط، كما أثبتت هذه الدّراسات أنّ هناك تغيُّرات لدى الأشخاص الذين يستخدمون هذه الأجهزة لمدّة تفوق 12 شهرًا في مشاركتهم الاجتماعيّة والنفسيّة؛ واضطرابات نفسيّة أخرى بما في ذلك الاضطراب العاطفي.
وقبل أن تطرح الكاتبة الخطوات العمليّة لمزيد من التركيز والقضاء على التشتُّت الذي تسبِّبه الأجهزة الرقميّة أكّدت أنَّ هذه الأجهزة عندما تكون في مجال رؤية الإنسان عادة ما تجعله يفكر في الولوج إلى الإنترنت بشكل أوسع، وهذا الأمر يدمِّر المحادثات التي نجريها وجهًا لوجه سواء في العمل أو في البيت أو في الشارع؛ فقد أظهرت أبحاث أجراها علماء نفس في جامعة "إسيكس" البريطانية أنَّ الأجهزة الرقميّة عندما تكون موجودة في مجال الرُّؤية خلال مقابلة ما -حتى وإن لم يتم استخدامها- يكون لها تأثير سلبي على التقارب والتواصل وجودة المحادثة، ومن المرجَّح أنْ يشعر الأشخاص بأنَّ مَن يتحدَّثون إليه لا يُظهر اهتمامًا وتفهُّمًا.
وللخروج من هذه الدوّامة المصاحبة للعالم الرقمي تطرح الكاتبة "فرانسيس بووث" في نهاية كتابها إجراءات عمليّة لخَّصتها في ضرورة الإيمان بأنَّ الأجهزة الرقميّة تجعلنا مشتتين وفاقدين لجزء كبير من الانتباه والتركيز، لذلك يجب مقاطعتها ولو لفترات قصيرة من حين لآخر، والتحكُّم في الوقت الذي نقضيه بين كمّاشتيها؛ فإن لم نحافظ على هذه المقاطعة فقد نتعرَّض لخطر التعمُّق أكثر في رحلة طويلة من التشتُّت، فنحن نعرف جيدًا كيف يمكن لرابط واحد أن يؤدّي إلى رابط آخر وكيف يتحوَّل إرسال رسالة بريد إلكتروني فحسب إلى ساعات من التجوُّل في عالم الشبكة الإلكترونيّة.