نوافذ ثقافيّة
محمد سلام جميعان
شاعر وناقد أردني
mjomian@gmail.com
ثقافة عربيّة
الباشق الذهبي/ راشد عيسى
هذا كتاب لا يُغني التعريف به عن قراءته، فقد نزل فيه مؤلفه عن أعراف الكتابة وامتزج بجحيمها اللغوي والنقدي، وصولًا على جنّة المعنى، وهو يحلّق في كل هذه الحالات جميعها في سماء شعر محمود درويش، ويسائل الذات ويحفِّز الآخر لإعادة قراءة هذه الظاهرة المتجدِّدة في الأيديولوجيا والشعر والنقد، حتى تأسطرت في الوجدان. فما بين الانبهار والتمجيد، والانتصار على الجرح، والتعبير عن الهوية المُقاوِمة، يجيب الكتاب عن سؤال مركزيٍّ فحواه: أيُّ سرٍّ ذاك الذي جعل درويش وشعره ينال تلك المكانة الوطنية والعالمية، وما البيئات الحاضنة له ولشعره حتى نال إعجاب المثقفين والمُدن ودارسي الأدب ومتذوقيه، والمترجمين؟
يقارب راشد عيسى الظاهرة الدرويشية بمسبار نقدي تجتمع فيه علوانية الذوق التعبيري وفرادة اللغة مع الحنكة النقدية الهادئة والذكية، والأحكام المدروسة بمهارة صيّاد برّي. فالمتعة الجمالية متمازجة بصلابة التعبير النقدي، ومنح المحاججة قوّتها عند تفكيك الكارزما التي يتمتع بها درويش، والتي أعاد المؤلف أسانيدها إلى استقلالية درويش، ووسامته، وجماليات إلقائه، وبيئته الحاضنة، ويقظته الإعلامية. فتحت كلّ مفردة من هذه المفردات توصيفًا وتحليلًا وتدليلًا على برهان القول نقدًا وشعرًا فيما يتصل بخصوصية الفن الشعري الدرويشي، المتمثِّل في الغنائية العذبة، والفاعلية اللغوية، والمهرجانات البلاغية، وتنامي الرؤى، والاستدعاء التراثي والمثيولوجي، وتنوّع المعمار الشعري.
وعطفًا على النظر النقدي المجرَّد، شفع راشد عيسى مرئيّاته النقدية، بإطار تحليليٍّ لظاهرتين من الظواهر الشعرية التي ينماز بها شعر درويش، وهما: تحوُّلات متفاعلن، وأسلوب النداء.
أخيرًا، يبلغ الكتاب منتهاه بالرسالة القصيدة التي يوجهها راشد إلى محمود درويش، فتكتمل دهشة القارئ بالكتاب والكاتب.
مرايا الحضور/ سمير اليوسف
يندرج هذا الكتاب في سياق سلسلة فائحة بعبق الوفاء، أوفى بها الكاتب شيعة من الأدباء الأردنيين الأحياء والراحلين حقّهم من الإنصاف الثقافي، بالالتفات إلى تجاربهم الذاتية والأدبية، وتوجيه الجيل الجديد إلى كوكبة أثْرَت حياتنا الأدبية في شتّى مناحي الفكر والحياة.
يضيء كتاب "مرايا الحضور" على تجربة الأديب والمفكّر إبراهيم العجلوني، ويقع في أربعة أبواب، أولها المقدِّماتُ التي كتبها نخبة من أعلام الفكر والصحافة، وثانيها للكتب الأربعين التي أنتجها العجلوني، ومقالاته، بما في ذلك مجلة "المواقف" التي أصدرها العجلوني في أواخر الثمانينات، وثالثها لمساجلات وتعقيبات وردود أحدثتها آراؤه في الحياة الفكرية في الأردن، ورابعها لعدد من المقابلات الصحفيّة التي أُجريت معه، فأضاء خلالها كثيرًا من آرائه ورؤاه وأفكاره. وهذا كلُّه يشكّل قيمة موضوعية للكتاب لا غنى عنها لترسُّم هذه التجربة الفريدة في حواضنها وفواعلها الفكرية والأدبية والحياتية.
من فيض الوجدان/ كفاية عوجان
ما بين الهمسة الناعمة والصَّرخة المكتومة، تَعبُر الكلماتُ على جِسْر الفكرة في هذا الكِتاب، دون انشغال الكاتبة بطول الحالة أو قِصَرها. ونصوص الكتاب تحمل مناخها الخاصّ وأسلوبها الذي لا تُشايع فيه الأنماط السائدة في الكتابة الأنثوية. فالوجدانُ الكامن في هذه النصوص يتمثَّل فيه الارتقاء بالانفعال والعواطف وتداخلها وترابطها بين الدافع والموضوع والفكرة والوعي.
وتعكس هذه النصوصُ التي أبدعَتْها "كفاية" على صفحات أنفسنا الأشعةَ الصادرة عمّا يحيط بنا من معاني، وهذه الأشعة المنعكسة تصبح من صميم ذاتنا. وليس أدلُّ على هذا من النصِّ الأوَّل الذي صدَّرت به الكاتبة كتابها، وهو مناجاة النفس بما هي حلقة الاتصال بين الطبيعة والعقل.
ولأنَّ الوعي الإنساني لا يعمل في فراغ، فإنَّ عناصر الطبيعة الأربعة "الماء، والتراب، والهواء، والنار" كانت حاضرة في نصّ "نفس"، فالنار حارقة لفرحٍ محروق ومطموس تلظّت النفس فيها بعذاباتها، والرياح: الريح، حركة مضادة للسكون، وهي في نصوص هذا الكتاب كذلك تكون ريحًا رخاء داعية للاسترواح، أو عاتية تنذر بالقلق والانزعاج، واقتلاع الأحلام. والتراب المَذْرور هو الوجود الناقص للكائن الحيّ، وليس ثمّة اكتمال وخلاص إلا بالمطر والغيم والبحر، فمن الماء كان كلُّ شيء حيّ. وتكاد نصوصُها لا تخلو من عنصر من هذه العناصر الأربعة، فالتمثيل هنا والتكرار هناك، يكشف عن الوحدة النفسية في مجموع هذه النُّصوص.
ومن الوجهة الفنيّة فإنَّنا نجدُ في هذه النُّصوص ما في اللوحة الفنيَّة من لون، وما في الموسيقى من نَغَم، وما في الشِّعر من إيقاع، ليس على وجه التَّفصيل والتَّحديد وإنَّما على سبيل الكلّيَّة والعموم في حساسيَّة الكتابة. وللقارئ أوّلًا وآخرًا أنْ يرى في هذه النُّصوص موجةَ بحرٍ، أو رفرفة جناح عصفور عند الغروب، أو غيمةً تلقي بتحيّتها العابرة، أو نسمة تتشمَّسُ في فضاء الحُلم.
ثقافة عالمية
نظام التفاهة/ آلان دونو- ترجمة وتعليق د.مشاعل الهاجري
يدور موضوع كتاب "نظام التفاهة" حول فكرة خطيرة يجب البدء بمناقشتها ومقاومتها: "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدّى تدريجيًّا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.
ويضيف المؤلف: "يلحظ المرء صعودًا غريبًا لقواعد تتَّسم بالرَّداءة والانحطاط المعياريّين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطّة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيَّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية.
ويفكك "آلان دونو" فكرته ببساطة متناهية ويبدأ كما يُقال "من الأخير" مباشرة دون لفٍّ أو دوران: "ضع كتبك المعقّدة جانبًا، فكتب المُحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخورًا، ولا روحانيًّا، ولا حتى مرتاحًا، لأنَّ ذلك يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور. هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة: وسّع من حدقة عينيك، وأرْخِ من شفاهك. ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة، وينبغي أن يُظهر ذلك. عندما تَتحدّث عن نفسك، قلّل من إحساسِكَ بذاتك إلى شيء لا معنى له".
ويتساءل "اَلان دونو": "ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟" ويجيب: "إنه القدرة على التعرف على شخصٍ تافهٍ آخر، معًا يدعم التافهون بعضهم البعض، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعةٍ تكبُر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع".
وهنا يبدأ دونو بالحديث عن "عدَّة النَّصب" التي توصل الشخص التافه إلى أعلى المناصب: "ما يهم هنا لا يتعلق بتجنُّب الغباء، وإنَّما بالحرص على إحاطته بصور السلطة"... "كُن مرتاحًا في إخفاء أوجه قُصورك في سلوكِك المعتاد، ادّعِ دائمًا أنك شخصٌ براغماتي، وكن مستعدًا لتطوير نفسك؛ فالتفاهة لا تعاني من نقصٍ لا بالقدرة ولا بالكفاءة".
ولا يكتفي "دونو" بذلك، بل يدخلنا إلى الأتيكات أو المظاهر التي يتبعها الشخص التافه لكي يشعرك أنه مهمّ أو مميز: "ينبغي أن يكون المرء قادرًا على تشغيل تطبيقات الحاسب الآلي، ملء استمارة ما من دون شكوى، ترديد عباراتِ مثل "المعايير العُليا لحوكمة الشركات" و"مقترحٌ قيّم" مع توجيه التحية في الوقت ذاته للأشخاص المناسبين".
ويوغل "دونو" في تفكيك الشخصية التافهة، فيعطي نموذجًا عن التفاهة التي وصلت إليها الجامعات فيقول: إنّ "الخبير"، الذي يتعرّف عليه غالبية أكاديميّي الجامعات اليوم على أنفسهم فيه، يمثل النموذج المركزي للتفاهة، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل "المثقف" الذي يحمل الالتزام بالقيم والمثل. ويرى أنّ جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعًا للخبراء، لا للمثقفين.