يوميّات موحشة في زمن "كورونا"
محمد العامري
شاعر وفنّان تشكيلي أردني
النَصّ الفائز مناصفة بالجائزة الأولى لمسابقة وزارة الثقافة (كُلّ مُرّ سيمُرّ) "كتابة اليوميات في زمن كورونا"
"التَّواصل الحقيقي بين الكائنات لا يتمّ إلّا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق اللاتواصل الظاهر، عن طريق التبادل المُلغَّز والخالي من الكلام، الشَّبيه بالصلاة الباطنيّة".
إميل سيوران
فنان، كاتب، فيلسوف (1911- 1995)
1- مصحّة الصَّمت
كنتُ دائمًا أتذمَّر من الضَّجيج، وأسمّيه التّلوُّث السمعيّ، يشكِّل لي إحدى العذابات المجانية واليومية، أجفلُ من الضجيج والحشود معًا، فروحي أقرب إلى بريّة ساكتة، لا تتحدَّث إلا همسًا. في أيام الحَجْر الصّحيّ انتبهتُ إلى الصّمت الهائل في شوارع عمّان، شوارع فارغة من الخُطى، وهسيس أشجار تبحث عن سكّانها، شعرتُ أنّ الضجيج يعاني من مرض ما، مرض الصَّمت، تصوَّرتُ لو أنني أجد مصحّة للصَّمت ربَّما ينطق بالخُطى التي تيبَّست في البيوت، خطىً تعطَّلت مفاصلها عن المشي، أقرب إلى أرجل دُمىً تحتاج مَن يحرِّكها في مسرح البيت.
لم تعُد تلك الأرجل ليّنة، تحتاج إلى زيت الرصيف، تحلم بالمشي على الماء تعاني من ربقة المساحات الصغيرة، كانت خُطاي تختنق كأنها غارقة في بركة صمت عميقة، انتبهت لضرورات الضجيج، لم أدرك أهميّته إلا بمفارقات الصَّمت الجاف؛ الصَّمت القسري، الذي وقعت أقدامه في كل زاوية من المكان، توقَّف كل شيء عن الحركة، ارتطام لعقرب الساعة بحجر في الطريق، صدأ الوقت وثقله في ظلال الأشجار، حريّة القطط وتسكُّع مجموعة من الكلاب في الشارع، أصبح الشارع أقرب إلى بريّة للحيوانات التي عانت طويلًا من قسوة الإنسان.
ماعز جبلي يتجول في في شوارع لاندودنو Llandudno
أنظُرُ بسعادة كبيرة على الرغم من قسوة الوقت في الحَجْر الصحي إلى تلك الحيوانات التي تجول في شوارع المدن المغلقة بحريّة كبيرة، عشقتُ الماعز الجبلي الذي يمرح دون ذعر في شوارع "لاندودنو"، أنظر إلى تلك القرون العظمية التي تزيِّن رأسه وهي تبقر جسد الصَّمت في المدن الفارغة، وعجبتُ كيف لوباء قاسٍ أن ينتصرَ للحيوان دونما قصد، لقد تنفَّسَت الأرض من ربقة أدخنة المصانع فاقتربت من بريّتها الطازجة.
تمنَّيتُ أنْ أكون قطًّا بريًّا كي أتجوَّل بحريّتي في شوارع عمّان، كنتُ أغبط تلك الكائنات الحرّة حين أقبض عليها من نافذة بيتي في المدينة الرياضيّة، وهي تتمختر بلا خوف أو وجل.
كرهتُ الصَّمت وأصبحتُ أستدرج ضجيجًا كنتُ أنبذه بالأمس.
2- تابوت أزرق
صارت الكنبة الطويلة بلونها الأزرق المائل إلى دكنة اللون الباذنجانيّ هي المكان المفضَّل في البيت، بل صارت بيتي الذي أحب، حيث أقضي جُلَّ وقتي المملّ على ظهرها منبطحًا وأمامي مجموعة من الألوان المائية وأوراق الرسم، ودفترٌ لأيّة فكرة تداهمني بشكل مباغت، إلى جانب كلِّ ذلك سجائري وكأسٌ من الشاي، شعرتُ للحظة بأنَّ الكنبة أقرب إلى تابوت أزرق يلمُّ جسدي، حيث أقضي ساعات طوال وأنا أمتطي تلك الكنبة، أحسّها حمارًا من القطن، أو صندوقًا لعاجز يمارس التحديق في ساعة الحائط، صرتُ أشعر ببرودة الأشياء المحيطة بي، الدقائق ثقيلةٌ تمشي في طواف غريب في جوف الساعة المستديرة، الظلُّ يجفّ على الجدران، تضميد فيه كثير من التحايل لتفتيت الوقت، أيّة مساحة هذه التي تتحوّل إلى منزل مليء بالأسئلة الخائفة، أسئلة عن الإيمان والموت والقدرات الكونيّة الخارقة الأقرب إلى خرافات الجدّات؟!
واجهتُ كل ذلك متحصِّنا بما قرأت من كتب وأسئلة فلسفيّة عن الطاقة والانسجام.
لكنَّ عائلتي أصبحت تُكثر من الصَّلوات، فوجدتني في مساحة للعبادة، فلم يعد المنزل كما عرفته من قبل، سؤال لم أصرّح به، لكنه يطحنني كصرير آلة صدئة.
لم أتحرَّك من تابوتي الأزرق، فكان المكان الأكثر أمانًا بالنسبة لي، الكنبة الزرقاء ذات الملمس الطريّ، هي وحدها حماري الذي يحملني للأحلام بعيدًا عن الخوف الذي يحيط بي من كل جانب.
3- ظلال تجفُّ على الحائط
وقت يكتنفه الوقت، مستطيلُ الشاشة التي تبثُّ بيانات الموتى جرّاء فيروس "كورونا"، تصريحات "ترامب"، مؤتمرات صحافية عن بيانات الوباء في المحافظات الأردنية، لقاءات الخبراء على شاشة "الجزيرة"، جغرافيا الـ"فيس بوك" التي تحوَّلت إلى مصحّات للعلاج واقتراحات هائلة للأعشاب الطبيّة، الأعشاب التي كانت تجفِّفها جدّتي على قماشة ملوّنة في مصطبة الدار، صيدليّات متنقلة ونفايات كثيرة من الكلام.
صامتٌ أمام وباء القول، ومتحفِّظٌ كذلك، رجعتُ بذاكرتي إلى رواية "الطاعون" لـ"ألبير كاميه" Albert Camus التي صدرت في العام 1947 من القرن الفارط، تلك الرواية التي تروي قصة عاملين في المجال الطبي يتآزران في عملهما زمن الطاعون بمدينة وهران الجزائرية. استرجعت أحداث الرواية التي تطرح أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية، إلى جانب الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تعرضُها الرواية من طبقة الأطباء إلى المطلوبين للعدالة، كون الوباء وقع على الطبقة المسحوقة، لربما أجد جوابًا تاريخانيًّا على كل هذا الهذيان، تذكّرت مباشرة الإفراج عن السجناء في مركز "سواقة" في الأردن؛ إذ يصبح الوباء عدلًا لهؤلاء ولو بشكل واهم.
الشاشة لم تتوقف عن بثّ الخوف في جوف المنزل، العائلة كلها عبارة عن كومة من الخوف تتكوّم على الكنبات، رَدْمٌ هائلٌ بين المعرفة والفكرة الغيبيّة، أرى ظلّي وقد جفّ على الحائط حيث بدا يابسًا لا حراكَ فيه.
أوقات مشفوعة بالشكوك، مدينة خانت المشاة، لتراكم معتزلاتنا بدُكْنَة الواقع حتى في سرير النوم والأحلام، فربما توفّر لي رواية "ألبير كاميه" جزءًا من العزاء لهذا العالم، كل شيء يتوقف فجأة عند سماع خبر يؤثث مضمونه جلستنا بالموتى وازدياد أعدادهم في كل لحظة.
الخوف يتسارع ويسيح في زوايا البيت مثل ماسورة ماء مثقوبة، كنتُ أُرمِّمُ كلَّ هذا البؤس بالذهاب إلى المطبخ لأعبث بالأواني كي تمدّني بصوتها المعدني من باب كسر فكرة الصَّمت، أصنع قهوتي وأعود لسجائري التي بدت كجثث بيضاء في المنفضة.
صار الوقت أكثر رماديّة من رماد سجائري، حيث لا وضوح في صفات هذا الفيروس، ولا أفق في العثور على الترياق. مرَّة أخرى، يقترب الخوف منّي ليصبح لصيقًا بي، لا شيء في خارج المعتزل، سوى نواحُ كلبٍ هجرته المدينة، نواحٌ أقرب إلى استغاثات ذئبٍ في إبط الجبل، محاولاتٌ دؤوبة للتملّص من السّأم الجارح، محاولًا تفكيكَ شيفرة السأم طامحًا بانتصار وهمي، كما لو أنني مربوطٌ بصخرة صلدة لا فكاك منها، مكابداتٌ لا تنتهي من ضاغطات الوقت والنشرة الإخبارية التي تنزُّ موتًا في كلِّ لحظة، كأنني أمام طريق مخاتلة لا نهاية لها.
أعبث في كلِّ تفاصيل المنزل محاولًا تغيير مواقع الأشياء، لكنها تبدو ثابتة تمامًا كجسدي الممدّد على الكنبة الزرقاء.
يبدو أنَّ ماكينة الأشياء قد تعطَّلت، حيث لا عثور على ما أبحث عنه في سكوت الوقت وقسوته المناكفة لوجودي.
أنا أنت أيها الظل الذي جفَّ على الجدران لا ضوءٌ يحرِّكني في ردوم السقيفة.
4- وحدتي الفتّاكة
اليوم ما بعد منتصف الليل تحديدًا في الساعة الثالثة والنصف فجرًا، أدرك في وحدتي العودة المظفّرة لبشاعة العالم، عودة متخفية في تيجان "كورونا" الأقرب إلى زهرة الخرفيش، فالشكل الكوروني كما ظهر في عدسات المايكروسكوب يذكِّرني بوردة نبتت على كومة من النفايات، لقد كان "لوتريامين" Comte de Lautréamont حقيقيًّا في أناشيده عندما مجّد القُبحَ، وجعلَ منه رسالة كونيّة تغريك في التفاعل مع أناشيده "المالدورية" Les Chants de Maldoror شعرتُ بقشعريرة حين تأمَّلت ذلك الشكل الكوروني الجميل وقوّة بشاعته وفتكه غير المسبوق في العالم.
كانت وحدتي أبشع من وحدة "لوتريامين" وتوصيفاته الدقيقة للقبح والعَدم، كدت أبكي من هشاشة الكون الذي نعيش فيه، فالقوة المفرطة للوباء أعادت الأرض كلها إلى الشجرة، وما جاورها من أعشاب خشنة وناعمة، أدركت حقيقة اغتراب أرضنا عنّا، فقد عبثنا بها بجهالة لا توصف عندما صنعنا جائحة لشدة طمعنا بامتلاك الأشياء، احتضارٌ رماديٌّ لكلِّ شيء تقع عليه عينك: خشونة النوم، وكوابيس حمراء تحرق حلمك، نهايات غير مؤكدة.
اندثار خطىً كانت بالأمس تحرث شوارع المدينة.
وحدي الآن تردمني فأس الفكرة، مسارات وعلائق ساكتة، ريبة من شارع نسي سكّانه.
أيُّ فجرٍ هذا الذي لم أسمع فيه سوى هسيس لجارة خجولة في فجرها الداكن؟!
مصائرُ ورزنامةٌ فقدت أعصابها من بطء الأرقام والتواريخ التي تنزُّ موتًا، لم ترمّم وحدتي سوى مجموعة من اللوحات التي تزيِّن حائط الغرفة، كانت ألوانها تشعُّ بالحياة، تناكف الموت وتبثّ طاقة لونيّة وموسيقيّة هائلة، تؤنسني تلك الأعمال، حيث يكاد الحصان يخرج من الإطار ليقودني إلى فراغ حرّ، المرأة التي رسمتها قبل عشرين عامًا كانت على وشك النهوض، كلُّ شيءٍ من حولي باردٌ، فلم يَعُدْ كأسُ الشاي يجد مسوّغات الدفء في تلك الوحشة الغاشمة، والمزهرية في الركن القريب من مكتبتي فقدت مشمومها، وصارت محض بتلات ذابلة وكاسدة، مثخنٌ بصمت ثقيل؛ لا لسان لهذا الفجر الغامق.
خيبات تتوالد بتسارع عجيب، غرقٌ بلا بحر، وجروحٌ بيضاءُ لا دم فيها.
أمضي وحدي إلى المتاهات، لم أجد ثقبًا واحدًا كي أُمرّر فيه بعض بكائي، لكني بقيت أمكث في الكرسي أمرجح أقدامي في كل الاتجاهات، تمامًا كهذا العالم الذي يتمرجح في وبائه المستجد.
5- كائنٌ يحلم بالمشي
في المعتزل كنت دائم المحاولة في تخيّل الركض وإطلاق أرجلي في الفراغ، لم أتخيَّل هذا الأمر من قبل، لكنه هجم عليّ جراء المعتزل القسري، فهي تهيؤاتُ سجينٍ يحلم بالرصيف والضوء، يبدو لي أنّ طبيعة الفعل الآني والمتكرِّر للجسد تنتج رغباتٍ لم يعتد عليها جسدك من قبل، هي غريزة كامنة حين تنقصك تواجهك وتطالبك بتلبية تلك الرغبات.
نعم أحلم بالرصيف
أحلم بالمشي والقفز كقطٍّ بريّ
أحلم بهواء غير معلَّب
أحلم بشمس خفيفة تضرب وجهي،
حاصرتني الجدران بظلالها الباردة،
أصابتني بقشعريرة الموت، وهذيان الخروج،
كما لو أنني في خزّان إسمنتي شديد البياض، لا تعرُّجات فيه، جدران استاتيكيّة صامتة، لا شيء سوى روائح الأطعمة التي تتسلّل إليك من باب المطبخ، حيث أصبح الطعام مساحة لوظائف المعدة، ومحرّكات معويّة كسولة تشبة تجمّد أرجلك على الكنبة.
رسمتُ تخطيطًا سورياليًّا لرجل مكبَّل الأقدام، رجل يحلم بالرصيف هو أنا بهيئة أخرى.
تخطيط حبر- كائن يحلم بالمشي
سائرًا وسط البيت، أحكُّ الجدران لعلها تتحرَّك، كتفي يرتطم بخزانةٍ لا داعيَ لها، حيث انتهت مهمّة الملابس، لا خروج ولا دخول، اجْلِسْ أيُّها الحالم بالمشي، فقد خسرت ديمقراطية الجسد، جسدي حبيس الفكرة، وسط البيت نفسه والأحداث الفاقدة للدهشة نفسها، كأنني أحاولُ بين لحظة وأخرى استرجاع ذاكرة الأقدام، فَقَدتْ أقدامي ذاكرتها وأصيبت بـِ"كوما" مرشومة بالثآليل.
"كوفيد" وضعنا أمام مرآة الأعمار الموحشة، فصرنا بمثابة أزرار إلكترونية نبني وهمًا افتراضيًّا للجيران والأحبّة.
نستقبل يوميًا مئات من باقات الورد إلكترونيًّا، باقات بلا رائحة أو ملمس، ما زلت أحلم بالرصيف، أتغزَّل بجماله عبر زجاج النافذة التي تطلّ على وجهه الشّحوبي.
رصيفٌ خالٍ من أقدامي، وتحوُّلاتِ ظلّي في منعرجاته، طافحٌ بالوحشة والريبة المشفّرة، لم يهرش جسده المُشاة والعُشّاق منذ زمن ليس بقليل.
فالحظر كمائن للأقدام، كمينٌ لعاشقين اشتاقا للقاء اليد باليد، لم ندرك من قبل ضرورات ملمس اليد إلا حين غادرتها المصافحة، كلُّ شيء تعطلت وظيفته،
أنفاسك المكمَّمة،
يدك التي تصحّرت من نأي المصافحة،
أقدامك التي نسيت القفز،
ليلك نهارك ونهارك ليلك،
ظلك الذي غاب في ظلال بيتك،
ذقنك الذي امتلأ بهشير الشَّعَر،
صوتك الخفيض،
كل شيء تعطّل حتى أحلامك.
6- أشجارٌ خارج البيت
النافذة التي تُطلُّ على فراغ الشارع هي الأنف الوحيد الذي أتنفّسُ منه الإيقاعَ الهامد في الخارج، أنف البيت هو أنفي، ومستطيل النافذة هو عيني التي أرقب عبرها ما تيسّر من ظلٍّ ميِّتٍ على حافة جدران الجيران.
أغرتني تلك المفاصل والفروع لأشجار تقف لتحرس صمتنا في الرصيف، أشجار تمدُّ أذرعها الخضراء نحو النوافذ، تحاول أنْ تُسجّلَ أصواتًا كانت بالأمس تحتها، وأنْ ترصدَ همسات عشاق حرستهم من تلصّص المارّة.
في جسد الشجرة مفاصلُ وتقاطعاتٌ وخطوطٌ تكتب بصوتها الخفيض تاريخًا من السّكوت، كنّا بالأمس نحكُّ أكتافنا في جذوعها، نتعربش بأغصانها ونخدش جسدها كي نسجِّل أسماءنا التي نامت في ألياف جذعها، اليوم تباعدنا قسرًا ولم يَعُدْ بمقدورنا التحرُّشُ بظلها، ننظر إليها من نافذة عالية في الطابق الثالث، ونمدُّ لهاثنا كحبل مبلل بالتعب إلى أغصانها، لعلها تسجّل أنين معتزلاتنا الغارقة بالارتباك.
تلك الأشجار الواقفة التي تموسق الريح بخشخشة أوراقها الرطبة، لتقول شيئا عن الحبّ أضحت كئيبةً بعد أنْ حبست العزلةُ عُشّاقها وغدوا لا يقوون على سماعها،
فَمٌ مَغْلَقٌ بمغاليق الحَجْر،
ويَدٌ كفّتْ عن تحسُّس الثمرة،
مصراعُ بابٍ لم يفتح فمه إلا قليلًا،
غيابٌ فَذٌّ لفضائل الدهشة،
نأيٌ للعبور إلى ضفِّة الرَّصيف.
انسرابُ روائحِ الكحول إلى السرير، وزهورٌ نائمةٌ في نسيج الأغطية.
كلُّ شيءٍ في المعتزل يخافك وتخافه، كما لو أنك في حقلٍ من شوك الصبار، فأنت ساكنٌ في فداحة المُخيّلة التي تشتغل كماكينة شرسة تفرم واقعًا مؤلمًا لتنجو منه.
صرتُ أقارنُ في تفاصيل الشجرة المرسومة على الجدار والشجرة التي تتراقص على كتف الرصيف، كأنني بين وهم وواقع نتمنّاه.
شجرةُ الرّصيف تهمس وتلثغ بموسيقى الهواء، لكنَّ الشجرةَ في إطار اللوحة متوقفةٌ بحركة واحدة أراد لها الرسّام ذلك، شجرةٌ لا يُستظلُّ بها لكنّها تمنحك في إطارها المصلوب على الحائط وهمًا بالحياة والظلال، ولعلَّ ما يعاظمُ فداحة الرؤيا أنها غير صالحة للعمشقة، تمامًا كما رسم الفرنسي "بول سيزان" Paul Cézanne تفاحاتِه المشهورة وهي مِن ثَمَّ تفاحاتٌ غير صالحة للأكل، تفاحاتُ "سيزان" تحيلك إلى عافية الشجرة التي طرحت تلك التفاحات، يعني صحة الحياة ووفرة الجداول، كانت تلك التفاحات تمرينًا قاسيًا للحياة في الأشياء الصامتة.
هي مقاربات لكائن يحدِّق في التفاصيل الصّغيرة جراءَ الحَجْر الصّحي، حيث تصبح المسافة بينك وبين الأشياء قريبة منك حدّ الالتصاق، تضيقُ المساحة فتصبحُ أقلّ من حقيقتها الواقعية، فمساحة البيت النفسيّة في المعتزل مساحة غرفةٍ واحدةٍ على الرغم من تعدُّد الحجرات.
تفاحات "سيزان"
كان البيت قد عاد إلى صفاته الأولى، صخرة الكهف التي كانت تنام في فم الجبل، كل شي يشبه الحَجَرْ، قاسٍ بصفاته، فالوقت حجر وكذلك الظلال بدت ككتل ليلية متجمِّدة، تمنَّيتُ لو أنّي ذلك الحجر الذي يعتلي جبلًا في البريّة، حجر ينعم بحرية الهواء ودفء الشمس، وكان الشاعر تميم بن مقبل على حق حين قال:
ما أطيب العيش لو أنَّ الفتى حجر … تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ
أشعرُ باحتشاد الفراغ في كلِّ مساحة البيت، أكادُ أصرخ من قُطعان الظّلال التي تكاثرت في أنحاء البيت، أركضُ إلى النّافذة وأرى الشجرةَ لم تزل ترقصُ مع جوقة الريح بتناغم أغبطها عليه، ليتني تلك الشجرة التي تنام على كتف الرصيف.
7- خزائن معطَّلة
خزانتي شجرة تئنّ من فأس الحطاب، تمامًا كروحي تئنّ من ثقل الوقت.
لم أحلم بالمشي من قبل مثل هذه الأيام، أيام الحجْر الصحي وتداعياته المؤلمة، صحيح أنّ عادتي شبه اليومية المشي في غابة المدينة الرياضيّة، حُرِمت من هذه العادة التي كانت تدوزن يومي كله، لقد غبتُ عن أشجار الغابة وتفاصيل أعشابها، وتلك الروائح للأعشاب الجافة المندّاة فجرًا.
في المعتزل صارت هوايتي اليوميّة العبث بتفاصيل الأشياء، حيث هجمَت على ذاكرتي خزانةُ الأحذية كجزء من هواياتي؛ جمع الأحذية، فحين أكتئب أشتري حذاء ولا أعلم ما هو ارتباط الكآبة بشراء الأحذية، فبحثتُ بالأمر فوجدت "كوندليزا رايس" Condoleezza Rice تعاني من مسألة الاكتئاب نفسها.
ما جعلني أعبث بخزانة الأحذية هو الفضول لكسر العزلة، والانشغال بأشياء أحبها، فالوقت في المعتزل يستطيل ويصبح طويلًا ومملًا، تذكَّرتُ في خضمّ مشاهدتي لأحذيتي ما رسمه "فان كوخ" Vincent van Gogh لأحذيته التي اشْتُهرت في كثير من أعماله.
أحذيتي النائمة في جوف الخزانة، بدت كأنها فقدت وظيفتها التي صُنِعتْ من أجلها، فالمشي لديّ مقترن بالتفكير بمشاريع إبداعيّة، حيث تثيرني تلك الظلال التي تتحرّك في الغابة.
يثيرني المشي باكتشافات جديدة ومفاجئة، اكتشاف فكرة غائبة تحضر بقوّة وبشكل مفاجئ.
لقد هجم على ذاكرتي "روسو" Jean-Jacques Rousseau الذي كان يقدّس المشي طويلًا، "روسو" الذي دشّن الرومانطيقية، حيث كان يمشي بلا هدف محدّد، وكثيرًا ما كنت أتوقف أمام مشهد لظلال عشبة مجاورة لصخرة أو حجر، كان المشي بالنسبة لي بسرعات مختلفة، السريع والبطيء، الصاعد والهابط، متعة فقدتُها عندما نظرتُ إلى أحذيتي التي بدت ككائنات جلديّة ميتة.
كل حذاء يتّكئُ على الآخر، أنظر إلى ذلك الحذاء الأسود الذي بدا فاغرًا فمه ظمئًا للمشي، تذكّرت أحذية "فان كوخ" الذي وثّق مجموعة من الأحذية كونه الفنان الأكثر رسمًا للأحذية، كانت أحذية "فان كوخ" تعبِّر عن أحذية الفقراء والمُزارعين، أحذية لها تاريخٌ طويلٌ في المشي وذاكرةٌ في التّسكُّع.
لكنَّ أحذيتي لا تتشابه والأحذية التي رسمها "كوخ"، فقد اشتريتها أثناء سفري إلى بلدان مختلفة في العالم، فكلُّ حذاء يذكّرني ببلد سافرتُ إليه.
أحذية ذاوية في ظلال الخزانة، لا تقوى على الحركة، صامتة، وفارطة أربطتها لتبدو كلعاب يسيل على شدقي الأحذية.
زوج أحذية – "فان كوخ"
أنظر إليها وفي ذهني ما ذهب إليه "فريدريك غرو" Frédéric Gros في كتابه "المشي فلسفة" تلك الأحذية التي نُزعت منها فلسفة وجودها عبر التاريخ منذ الخُفّ إلى آلاف التصاميم العبقرية لهذا الكائن.
أحذية نُزِعت منها فضائلُ المشي واللمعان في وضوح الشمس، وأذكر لجوء "فريديريك غرو" أيضًا إلى استعمال الأدب والتاريخ والفلسفة. إنه يتحدَّث عن "أرثور رامبو" Arthur Rimbaud و"إغراء الهرب" المستمر لديه مدفوعًا إلى المشي حين تقوده قدماه تعبيرًا عن "حاجة إلى الحرية وإلى الشمس".
وفي نهاية الأمر يغدو المشي صورة أخرى من أنواع متعة الهروب من السكونيّة إلى الحركة، وممارسة الحرية المطلقة مع الطبيعة بتنوُّعها الطلق.
وأذكر هنا كتابًا للكاتب الراحل خيري منصور بعنوان "الكتابة بالقدمين"، وما قاله "نيتشه" Friedrich Nietzsche: "إنَّ أصابع القدم تنتصب كي تستمع".
أحذية تحوّلت لظلال جثثت كانت بالأمس تقفز في الغابة، لكنها اليوم وقد نامت نومًا طويلًا كما لو أنها تعاني من "كوما"، إذ لا تصحو إلا حين تخترقها قدمي كي تتحرك بها، قدماي اللتان تعانيان من أُميّة المشي، فقد نسيت تلك القفزات والتعثرات المباغتة.
أصبحت تلك الأحذية أشباح خُطىً تتوارى في عتمة الخزانة، تمامًا كما وصف "جاك دريدا" Jacques Derrida أحذية "فان كوخ" بقوله: "إنَّ أحذية فان كوخ تحتوي أشباحًا".
فحين نهجر أحذيتنا تفقد قيمة وجودها وتصبح فكرة ماضويّة للخطأ، تحمل تاريخًا من الأمكنة وأنواع الأتربة والهواء والماء وطبيعة السُّرعات التي يمارسها الكائن في مشيته.
أحذيتي النائمة تنتظر خطاي التي كرْبَسَها الحجْر الصحيّ.
8- حين تغفو الأمكنة
هل الأمكنة تغفو وتغطُّ في سبات عميق؟
هكذا شعرتُ حين واجهتُ تلك الأمكنة الساكتة أمام نافذتي ليلًا، أعتقد أنها تتنفس بصعوبة بالغة التعقيد، هل كانت تلك الأمكنة تحلم؟ أم أنها تختبئُ في ذاتها من شراسة الخوف؟
اعتقدتُ أنني أهذي وأتخيَّل كل ذلك، لكنني أحسستُ بقوة صمتها، عمائر مكمّمة لا تقوى على الكلام، كنت أُشَبِّه تلك العمائر الرابضة ليلًا على أكتاف الرصيف، أتكئُ على حافة نافذتي، حافة "النايكل" الصقيل والبارد أُداري وحدتي بالتّحديق في ليل اشتدّتْ دُكْنَتُه.
غامق هذا الليل وأكحل،
ساكت ومنفيّ كعشٍّ هجرته الطيور،
لا شيء هنا ولا شيء هناك كذلك،
ليل يتكاثر في سريرتي، وجواح ساخن لا صوت فيه.
بكاء لا يبلل شدقيَ،
أحتاج لمنديل أبيض من غير سوء كي أكشط كُحل الليل.
9- ثلاثة وجوه لرجل واحد
تحسّستُ وجهي الذي اخشوشن كحقل هشير مهجور، مررتُ على منحنياته بأصابعي على الرغم من التعليمات المرعبة التي تحذِّر من الاقتراب من الأنف والعينين والفمّ، لكنه وجهي الذي يصاحبي في الحياة والموت.
مرآتي المنعكسة في وجوه الناس، صارت أصابعي تتفقد هذا الوجه، كما لو أنّ أصابعي عمياء تريد أنْ تجدَ طريقًا لملامحي التي تعرفها تلك الأصابع.
كانت أصابع مستهجنة، تحاول قراءة الملمس الجديد، حيث تحوَّل وجهي إلى حقل من الشوك الناعم، أقلب وجهي في كلِّ الاتجاهات كي أراه برؤوس أصابع يدي، لكنّي اكتشفتُ وقد نبت لي وجهٌ جديدٌ غير الذي عَرَفَتْه المرآة، اتّجهتُ مباشرة إلى المرآة لأتأكد من ملامحي التي تعيش معي منذ ولادتي وستموت معي أيضًا تاركة خلفها ضحكات تجمّدت في ألبوم الصور.
شيء خفيٌّ سحبني إلى مستطيل المرآة فوجدتُ وجهي وقد ملأته الأحزان والأعشاب الداكنة والموشّاة باللون الأبيض، وجهي الأبلق لم يعد وجهي الذي أعرفه، بدا كوجه ناسك اعتزل الكون.
لن أترك شعره يطول هكذا، حلقتُ كل ذلك الهشير الذي احتلّ وجهي وعاد وجهي الذي أعرفه بقليل من الصّفاء، صفاء الإقامة بالظلّ، حيث لا شمس تلفحه في الصباحات الطريّة.
وحين حاولتُ الخروج من البيت إلى البقالة التي ترقد على مسافة قريبة من نافذتي، ارتديتُ كمامة وقفازين فنظرتُ إلى وجهي فرأيته قد صار وجهًا جديدًا غير الذي عرفته، وجهٌ احتجبَت ثلثا ملامحه جرّاء هذا اللّجام القماشي، غاب أكثر من نصف وجهي في جوف الكمامة، أدركتُ أنا الرجل الوحيد الذي يمتلك ثلاثة وجوه لرجل واحد.
10- كوفيد 19 لا ينام
الليلُ هو اختبارٌ لسقيفة الأحلام، حيث تهجم عليك تلك المركبات الحلميّة في النوم، لكنها الآن تتحرك في ممرّات الخوف من فيروس يقظ لا مكان للنوم عنده، فهو القائم في صورة اليقظة شبه المطلقة، يتحرك مختفيًا على درجات البصر والبصيرة، يصطاد فرائسه بصفات التّخفي، كأنه يعلم بمرئيات الكائنات، على الرغم من أنه مرصّع بالتيجان الحمراء، لكنها مجسّات للعقاب.
تساءلتُ كثيرًا عن أسباب الأوبئة، فوجدتها نتاج خلل اقترفه الإنسان، سواء كانت من القاذورات أو من تحطيب الطبيعة لتصبح صلعاء من صفاتها، فقد نواجه الآن ما اقترفناه من نفايات الفكر وعظمة الوهم، حيث نأينا عن موسيقى الوجود، لنصبح نتوءًا أشبه بدرن يكتنز بأوساخ التكنولوجيا. فتباعدنا في اليقظة والحلم معًا.
كوفيد 19 لا ينام أبدًا فهو يعرف تمامًا بأننا في سُبات الطمع وطموحات السيطرة؛ السيطرة الجديرة بالطبيعة لا بالإنسان.
اختلّ الإيقاعُ فنمنا في توهان الفكرة، حيث انتفت فاعلية الفولاذ بمقذوفاته أمام المتخفي الذي أنتج بمدة قصيرة جغرافيا الخوف. فلم يعد بمقدورنا عنونة الحياة بمسمَّاها الحقيقي، صارت الحياة بعناوين مشتته وتائهة، المعتزل والحَجْر الصحي والتباعد الاجتماعي والتعقيمات والمكممات وساتر اليد، لتسطيل المسافة بينك وبين ذاتك.
صرت ثلاثة أنا وظلي وهناك، كان الهناك آخر يتفرّج عليك، وأنت وقد انشطرت إلى صور في مرآة مفتتة، لا تقوى على تجميع ملامحك التي ذابت في السؤال الكوني، سؤال الوباء.
أنا لا أرغبُ أنْ تباغِتَني تلك التيجان الحمراء، في لحظة العناق مع الجدار، لا أريد تلك اللحظة المريبة التي من الممكن أنْ تتخذ من ثيابك مسكنًا، بحسب التعليمات سَدَدْتُ كل ثقوب جسدي كي لا يتسلل المتخفي المريب، أنفي وفمي وعطلّتُ كذلك صفات اللمس في يديّ، تذكّرت أنّ الطيور تكره الأقفاص على الرغم من كثرة الثقوب، حتى أنا لم أحلم بقفص الطير المثقّب، لقد سدّت كل منافذي وأصبحت جسدًا بلا نوافذ. مارستُ تسقيف جسدي حتى لا تقترفني الريبة، فصرت صندوقًا معتمًا، لا هواء ولا نور فيه، جسدي وقد خنقته السدود الوقائيّة، بدأ يضعف ولا يقوى على الحب.
11- ضجر الأريكة
في كثير من الأحيان لا أستطيع مغادرة الأريكة التي تتواجه مع التلفاز مباشرة، بجانبي دفتري الذي يتهيّأ لفكرة مباغتة، الأريكة التي كرهتني من كثرة مكوثي فيها، حيث تحوّلَت إلى دابة أركبها ولا أنزل عن ظهرها، أصبحَت رفيقة ضجري من الحَجْر الصحي، حجر قسري مليء بسؤال الحركة.
لم يعُد بمقدوري التعاطي مع صفات السقيفة الجديدة، سقيفة فائضة بالوقت، تمامًا كساعة دالي Salvador Dalí السائلة، انتبهتُ لدفتري فرسمتُ كائنًا ضجرًا مكبلًا وصامتًا، إلى جانبه بعض فاكهة تتفرّد في وجودها، فاكهة أتقنت التباعد مثلي.
تخطيط - حبر على ورق – ضجر.
هذا ضجري بالحبر الأسود، حيث يطوِّقني الرصيف المخطط بالأبيض والأسود، كأنّ الرصيف صفات لليلنا ونهارنا أيضًا، أحلم به في جلّ لحظاتي الضجرة، لكنه لا يأتيني إلا على دفتر الرسم، أمشي جواره بقلمي لأرسمه مرّات ومرّات علّه يصبح حقيقةً في الدفتر.
12- "بيجاما" مخطَّطة
سلامًا من نوافذ القلب حين نطلّ بأعناقنا كغرانيق حزينة من شرفة البيت إلى الجارة المهزومة.
أريد للكوميديا السوداء أن تتوقف،
توجعُنا لحظة الفَقدْ وتحزّ رقابنا بنصال لها شهواتها الدموية، أريد لهذه الساعات أن تمرّ وتترك خلفها ضحكة ولو كاذبة.
أريد لهذا الصمت أن يخرج عن صمته ليصرخ: تحيا الحياة.
أريد لهذا النّسغ أن يجري في مفاصل الخطى لنركض فرحين بشجرة هناك.
أريد لأمي أن تضمّني كما عهدتها، غير مذعورة من تيجان "كورونا".
أريد أن أمضي إلى "الهناك" لأصفّر للعصافير في حقل أبي.
تمنّيتُ كل ذلك، لكنني لم أنجُ بعد من صورة الجارة صاحبة البيجاما المخططة، التي تقبّبت ركبتاها وصارت أقرب إلى كرتين مخططتين تعانيان من بطء الركل وهزائم الأطراف.
أنظر من نافذتي لتلك الجارة العجوز وهي تتكئ على بقايا ظلال لجسد تآكل حتى صار كعرجون تقوّس من شدة الصهد.
يبدو أنّ جارتي العجوز تمكث وحيدة بلا أحفاد، لا أحد يعيلها سوى صرامة الحجْر الصحي، راق لي إصرارها على ممارسة الحياة، متحصنة بقوة الماضي التليد، حين كانت يافعة، تدفع بأقدامها كعربة صدئة لم تتحرك منذ سنين، لكنها تصرّ على أنّ الحياة أقوى من كوفيد 19 وأقوى من كل الأوبئة.
جارتي لم تزل تمارس مهامها الصباحية في تَفقُد الرصيف بالـ"بيجاما" المخططة ذاتها.
13- لقاء غير حميم مع الصمت
حين تتصادق مع نقيضك في غرفة واحدة، لا بدّ من التفكير بأدوات تساعدك على التعايش مع هذا الصديق غير المرغوب به، صديقي القسري الذي فرضته عليّ الظروف الوبائيّة، حيث يصبح جسدًا ضخمًا وثقيلًا يجلس معك على المائدة.
ينام بجوارك ويقترح عليك طبائعه القاسية.
ينظر إليك بعين حمراء كما لو أنه القاتل الذي ينتظر أوامر التنفيذ في إنهاء حلمك.
يعتقلك دون ريب أو شكوك، حيث يعود بك إلى نوع آخر من موتك في ظلال الغرفة.
يوم تتعطل ساعة الحائط عن لدغ مسننات الدقائق، وتهجم عليك أشياء أخرى لتتعطل فيك، حيث تصبح أشبه بـِ"كراج" مهجور،
يصفعك الصمت بيده الثقيلة على حين غرّة، ليحطم فيك شهوة الكلام، وتصبح أمام سطوته.
قطيع من الأرانب المذعورة، يبتلعك ويقذف بك إلى فراغ الحجرة، لتهوي دون مفازة أو أمل.
فلا مأوى لك سوى أن تلوذ بعذرك الخاص، لتحجم عن ارتكاب الحركة، تبدو مهيبًا في حركتك كطائر البطريق، لكنك لا تقوى على طهو أحلامك في سؤال الحياة.
إذن سأرمِّم وجهي بقليل من صابون الحلاقة، حيث تبدو الرغوة كقناع أبيض احتلّ مرآتي، لكن الشفرة تجرف كل بياض الرغوة، لتكشف عن ملامح غارت في زجاج المرآة.
تكشط قناعك
تكشط بقايا زمن نام في أخاديد وجهك
تكشط ما التصق فيك من ضحكات سابقة
تكشط ظلال أنفك الذي صار هدفًا للوباء
فلا رغبة لي أبدًا بتلك المرآة التي تكتب حقيقة يومي،
لا رغبة لي بتلك الصورة الرجراجة وهي تهتزّ في فضة الزجاج
وجهي صار بقعة من الحبر الداكن
يسيل على ورق سقط للتو من شجرة عجوز.
14- مكياج يكشط الغياب
المرأة التي كانت تتحصّن بالمكياج، كسرت مرآتها فقد كشف الوباء تلك التعاريج الغائرة في وجهها، لم تعد "تتمكيج" كي تغري حبيبها في الشارع الموارب، كانت تؤثث كآبتها العارية ببعض الأشعار، لكن المرآة المكسورة احتفظت بتجاعيد وجهها فصارت تلك المرآة شاهدة على غيابها.
أحمر الشفاه لم ينكشف من خلف الكمامة
كحلة العينين بَهُتتْ
قالت: كيف لي أنْ أصدِّق ولو للحظة وجهي الذي لم يتعرّف عليّ؟
صارت تفتش عن ملابسها الملساء في خزانتها، فوجدت ليلًا ينبح مثل كلاب ضالة،
وجدت ظلًا ساكتًا يغطي قميص نومها
وجدت شحوب أحذيتها
على مهلها أدركتْ أنَّ العمر كان يسرقها بلا استئذان
قالت بصوت مبحوح وبطيء جدًا:
هذا البكاءُ المختبئ بالخزانة لم أدركه قط، يبدو أنَّ ملابسي كانت تغطيه بملاستها
هذا بكائي هنا
في المرآة والخزانة وعلبة المكياج.
في زمن لم يدركة أحد سواي
زمن الغياب في مرآتي المكسورة.
15- وردة وحيدة على الشرفة
تلك الوردة التي تشاركني وحدتي في المعتزل، صارت أنثى تهاتفني من شرفتها بروائح تتسلل إلى أنفي، روائح خجولة تمامًا، مثل مراهقة لم تدرك بعد تأثير عطرها على مراهقها، الوردة تطلُّ عليّ بأحمرها المشوب ببياض خافت، خِلتها العقيق الذي وقف في محراب النور، تنظرني وأناظرها من أسفل اللون إلى أعلاه.
الوردة دهان جَمُدَ في فراغ الشرفة، لم تزل تلك الوردة تؤثث فراغها بأحمر يضيء سراج روحي.
صورة كتبها في غابر الزمن مقري الوحش حين قال:
نار على ماء الحياة لم تجمد
والورد يحكي بالغصون مجامرًا
أعيش هنا بعيدًا عن أنفاس أمي، المعتزل صار خشنًا، يشبه أشْولة القمح في موسم الحصاد، لا شي معي الآن سوى وردة وحيدة في أصيصها، ترقد على شرفة المنزل في المدينة الرياضية، المسافة تطول يا أمي، لكنني أستحضر وشمك الأخضر على وجهك الوضّاح، ربّما يعينني على احتمال تلك المدينة المحجورة.
تعالي لأريكِ تلك الطوابير أمام مخبز راغب بشهوة النار، مسمّرون بانتظار دورهم لابتياع رزمة من أرغفة ساخنة، يقفون بانتظام، كأرتال النمل وهو يحمل حبة من حنطة الأرض، لا شيء سواك أيتها الوردة،
مصطّفون يتجاذبون الحديث على مسافة المتر الواحد،
من خلف لجام القماش، يستدرجون أحاديث الوباء بفزع الخبز، وعلى الرغم من مسافة المتر، إلا أنّ ظلالهم تتعانق خلسة عنهم، كان الظل أكثر رؤمًا من صاحبه.
صفَّقوا حين وصلت طرود الإعانة، "كورونا" حاضرة في بهو الروح، وجوههم محزّزة من كمامات صارت سلعة نادرة، كل شيء أصبح في تباعد غريب، أنا والوردة متلاصقين لا نسمح لتباعد يفصلنا.
أنا والوردة عطر لروح واحدة،
كأنّ "كرونا" قد استثنت النباتات الجميلة من التباعد،
تمنّيتُ لو أني شجرة تحتكّ بصراخ الجيران.
16- عصفور يخدش الفراغ
"أ"
صار الصمت جسدًا أستطيع تحسُّسه بدقة، جسد يشبه منحوتة ضخمة، مكعب بأضلاع حادة، فهو الرابض على صدر كل شيء، صمت بعافية عالية يتكاثر بزيادة أيام الحجر الصحي، كأنه يتغذى على فراغ المدينة.
أيقنتُ أنّ هذا الوقت يتحرك بسريّة عالية، فقدرته على تغيير الأشياء هائلة، تغيير سلوك الإنسان ليصبح أكثر سكونيّة وركودًا، هذا الفراغ ابن الصمت لم يزل يحفر في ظلال المدينة ويكنس سكانها ليضعهم في مكعب النفايات الإسمنتي، كمٌّ هائلٌ من تراجيدية تتكاثر في زوايا المدينة.
لا شيء يعفيك من ارتكاب هذا الصمت فهو أكبر منك بكثير، فأصبْنا به كوباء مقطوع اللسان، كمامتك حصانك، لا كلام ولا اقتراب ولا مصافحة.
رطانة في مصفيات الصوت،
تغيُّر الأصوات في هاتفي النقال، صديقي الذي كان يهدر في الهاتف صار صوته أكثر انخفاضًا جراء فلترة الكمامة.
كابوسيّة الفراغ تتحقّق وتتضح في معاني الفكرة، كدهان فسفوري قابل للرؤية عن بعد، حيث أشعر أنني على مرمى من سهامه القاتلة، ومخالبه اللامعة، لم يتحرك شيء إلى الآن في الشارع المجاور، سوى صوت حاد لعصفور تكاثرت فيه التغاريد، فلديه فائض من الاطمئنان، كانت تغريدة العصفور بمثابة فكرة مبجّلة عن فضائل الحياة، لم يستطع الصمت أن يقبض على تلك التغريدة، فقد فلتت منه عنوة.
فكلما غرّد العصفور في تتابعيّة صوتيّة منغّمة يتآكل جسد الصمت الثقيل، ويتحرك الفراغ بوهميّة جميلة.
عصفور لا يتجاوز وزنه غرامات بسيطة استطاع أن يناكف الفراغ برفيفه وتغريداته، محا خصائص الحصار والوساوس والكآبة في المعتزل،
بصوته كسر جدرانًا وفكّ قضبانًا صلدة عن روحي، لقد هشّم الفراغ بقليل من الريش المرقّط.
اسكتش حبر
"ب"
أنتج الحجر "توتاليتارية" جديدة تتخفّى في مسامات الطمأنينة والخوف معًا، لاذعة في طعمها كفلفل هندي يعيد لك قيمة اللسان الذي فقد كثيرًا من حروفه فأصبح ألْثغًا.
فصاحة العصفور قادتني إلى فكرة الرقص في المعتزل، نعم هناك من يحرك فيك نسغ الحياة ولو كان كائنًا بسيطًا، فالقوة في تأثير الفعل وليس بضخامة الشكل،
كشف العصفور عورة الصمت، وأثَّث الفراغ بصوته ورفيفه الحرّيْن، تمامًا كما كانت تفعل جدتي حين تضع لفائف الشَعْر في شقوق الجدار، لم يكن الزمن الذي أمضيته في الحجر الصحي بمعزل عن كآبات الأيام الفائتة التي أعطني من فراغها الكثير من أسئلة تتشابك في معانيها فيما يخص فكرة الوجود نفسه.
العصفور الذي خدش الصمت غير معني ببيانات الوباء في شاشاتنا اليوميّة، له رزنامة تسطع على غصن شجرة، أو رفيف لجناحين لم يعرفا قط فكرة السكون.
عصفور قليل يدعو الكائنات لفعل الحياة
يدعونا للغناء ومقاومة البؤس
أثارني العصفور وهو يترنح على غصن غض لشجرة ثابتة،
أعطاني من غنائه نسغًا لتحريك ذاكرة الجسد
أعطاني رقصة رشيقة على مسرح غص بفراغ المدينة.
17- أوقات ومثاقيل
تلك المدينة التي بدت من نافذة ترفرف من خلال ستارة مرقطة بالزخارف، كعجوز هجرها الأحفاد في سقيفة معبأة بأنين ساخن، مدينة صامتة كمُهْرة لَجَمها الغياب، لا شيء سوى ظلال تتكسر على رصيف فارغ من المشاة،
لا شيء يتحرك فيها غير حبل من الغسيل تضربه الريح كعقاب على تمرده في الحركة، الريح تعاقب قمصانه المنشورة على السطح،
تضرب عنقه وذراعيه وتقطف زهورًا كانت قد نبتت على أكمامه.
تضرب عجيزة البنطال الأزرق الذي اشتراه يوم خِطْبته من فتاة أحبَّها في الجامعة،
لم يسلم ذلك الحبل من عقابِ وقتٍ ثَقُلَ صمته، فأصبح كمعدن ساخن يلسعك حين تلمسه، مثاقيل فوق روحك تجثم
وعمائر تركع في محراب صمتها،
عمائر تحصدها مناجل العزلة ولهاث ساكنيها
حتى بدت تلك العمائر الحجرية كقبور عمودية، أطْفِئت قناديلها وباتت في ظلمة وخيمة، هربت أصواتها لتتخفى في دياجير غائرة وبعيدة،
كل شيء أصبح مكوّرًا
الجسد في مقعده
الوقت في بطن الساعة
الظل في زاوية السقيقة
الأيادي كذلك تكوّرت من نأي المصافحة
أصبحنا كأجنّة معزولين في رحم الحياة.
18- آلة موسيقيّة لم تتقطَّع أوتارها
أدهشني صوت الكمان الذي ينسرب بين ممرات العمارة التي أسكن بها، الصوت الناعم والنائح يسيل على الدرج، لم أعرف أنَّ أحد جيراني عازف كمان، ظللت في حيرة من أمري على الرغم من تلذذي بتلك الأصوات النائحة للكمان، من هو هذا الكائن الذي لم تتوقف أصابعه عن دوزنة الليل، حيث لا مجال للحركة ولا الصراخ.
توقعت أنّ العازف لم يمتلك الخبرة الكافية بالعزف، حيث كان يخرج عن مقامات السلم الموسيقى في بعض الأحيان، لكن تلك الأخطاء أكثر إثارة من الجمل الصحيحة في العزف، يبدو لي أنّ ضجره جعل منه خطّاءً موسيقيًّا.
جاءت أصابع العازف المجهول لديّ ليحرك هواء يابسًا في ممرات العمارة، كأنه يدعو الساكنين لحركة ما، أو لتمرد يتحرك في خياله، بدأت أتتبع الموسيقى بالإصغاء الدقيق، كمن يمشي على رؤوس الأصابع، أدركت أنّ الموسيقى جاءت من الطابق الأول، عرفت أنّ ابن الجيران الذي كنت أشاهده صباحًا على عجالة من أمري هو ذلك الذي كسر صمت ليلي دون أن يعلم، علا صوته بأغنية أحبها جدًا للمغني "كيني روجرز" (Kenny rogers) "ليدي" (lady) جاء صوت الشاب خشنًا إلى حد معقول يحاول تقليد "روجرز"، فصرت أغنّي معه في غرفتي دون علمه، كأنّنا ثنائي في غناء تباعدي يتناسب والجائحة