د. عبدالله عبدالرحمن محمود عبدالله
باحث في النقد الأدبي- مصر
لعلَّ هذا "المقال" يمثلُ غيضًا من فيض، بوصفه محاولة لإلقاءِ الضوءِ على الدّور الذي أدّاه الناقد "رجاء النقاش" في خدمة الحركة الأدبية الحديثة، والكشف عن الجوانب الإنسانية التي تبرز في كتاباته ومواقفه مثل رفضه "مُصادرة" الإبداع الأدبي، وانتصاره لحرية التعبير وحرية الرأي، وسعيه لتصحِيحِ ما هو مغلوط ومزعوم، بأسلوبٍ جَمَعَ فيه بين الهُدُوء والمَوضُوعيَّة ومُغَالَبة الأهوَاء.
تندرجُ الجُملة الشَّائعة "النظر إلى الجزءِ المُمتلئ من الكأس لا الفارغِ منه" ضمن مفاهيم علم النفس؛ فهي إحدى رموز تصالح الذات الإنسانية، لترى ما يدعو إلى التفاؤل، ونبذ ما يجلب التشاؤم. ومن ثم، فإنَّ هذا المفهوم نجده يبرز بوضوح في نتاج الناقد "رجاء النقاش" (1934-2008م)؛ فقد تميزت كتاباته بالبُعدَين "الإنساني" و"الثقافي"، جاعلًا نصب عينيه الإشكاليات التي تواجه "المُبدع" و"الإبداع"، من خلال إبراز قيم إنسانيّة تمثلت في "حرية الرأي" و"العدالة" و"تنمية المواهب" وغيرها، ناضل من أجل ترسيخها لدى "المُتلقي"؛ حيث عدَّها علاماتٍ فارقة تُحسب للمُبدعين لا هفوات تُقلل منهم ومن إبداعهم.
• المحور الأول: رفض "رجاء النقاش" مُصادرة الإبداع الأدبي
تعرَّض "الإبداع الأدبي" في العصر الحديث لموجَاتٍ عاتية، تمثَّلت في "سياسَة الرَّفض" و"المُصَادَرَة"، طالت عددًا من الشُّعراء والكُتاب، كانوا قد أفردوا لأنفسهم مساحةً من الحُرّيَّة، للتَّعبير عن آرائهم تجاه بلدهم أو هموم أوطانهم.
وهذه "المُصادرة" من الإشكاليّات التي لمْ يغفلْ عنها "رجاء النقاش"؛ فقد تولَّى مسئولية الدِّفاع عن حريّة الرَّأي والإبداع الأدبي، وسَجَّلَ دِفَاعه هذا على صَفَحَاتِ المَجَلَّات والصُّحُف، وأفردَ لبَعضهِ كُتُبًا ودراسات، هدفها توجيه النَّظر إلى أنَّ "الشَّاعر" أو "الكاتب" حُرٌّ فيما يُعبِّر عنه أو يكتبه، رَافِضًا استعمال سِياسَة "القَمْع الفِكري" التي تُصَادِر إبداعهم وتُحَارِبهم سواء بالنَّفي أو الاعتقال.
ومن أشهر المُصَادرات الإبداعيَّة التي تولَّى "رجاء النقاش" الدِّفَاع عنها، مُصَادرة أشْعَار "نزار قباني"(1923-1998م) وطردِهِ من مصر عقب نكسة 1967، وذلك بعد نشره لقصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، عبَّرَ فيها عن آمالِ العرب جميعًا التي ضَاعَت في تلك النَّكسَة، ومن ضِمْنِهَا يقول:
"يـا سيِّدي السُّـلطَانْ
لقد خَسِرْتَ الحرب مَرَّتينْ
لأنَّ نصفَ شعبنا ليسَ لهُ لِسَانْ
ما قيمة الشعب الذي ليسَ لهُ لِسَانْ
لأنَّ نصفَ شعبنا..
مُحاصَرٌ كالنَّملِ والجرْذَانْ
في داخلِ الجدرَانْ..."(1).
أشَارَ "رجاء النقاش" إلى أنَّ الشَّرَارَة الَّتي أدَّتْ إلى مُصَادَرِة تلك القصيدة وغيرها من أشعارِ الشَّاعِر، كانت بسبب قيام حملةٍ صحفيَّةٍ شَرسة من قِبَلِ مجمُوعِة من الأدَبَاءِ في مصر وعلى رأسِهِم الشَّاعر "صَالِح جَوْدَت"(1912-1976م)؛ حيث طَالبُوا فيها بِأنْ يُغادر الشَّاعر "نزار قباني" البلاد ويُمنع من دخولها، ويُصَادر شِعره، ممَّا دفع بالسلطة حينها أنْ تتخذ قرارًا بمنعِ دخول "نزار قباني" إلى مصر، ومنع إذاعةِ قصائده المغنّاة أيضًا في وسَائِل الإعلام(2).
وربما أَحَسَّ "رجاء النقاش" بِحُكم "النَّزعَة الإنسانيَّة" التي تتَّسم بها كتاباته؛ أنَّ من واجبه ألَّا يقفَ مَكتُوفَ اليد تجاهَ تلك الحملة وذلك الإبداع، فرَأى أنْ يقوم بدورٍ إيجابيٍّ لعلَّه يزيل الغمامة عن عينِ النِّظام القائم في حينها، ويكشف عن زَيفِ تلك الحملة المُغْرضَة، والتي ما إنْ نجحتْ، فإنَّها سوفَ تفرض سيطرتها ونفوذها على كلِّ إبداعٍ يظهرُ لاحِقًا.
وعلى مَا يبدو، فإنَّ هذا الدَّوْر من المُمْكن عَدَّه أشبه بـ "حمَامَة سَلَام"، فقد قام "رجاء النقاش" بالسَّفَر إلى لبنان للقَاءِ "نزار قبَّاني" هناك، وطَلَبَ منه أنْ يكتب رسَالَة شخصيَّة إلى الرئيس "جمال عبد الناصر"، يوضِّح له فيها موقفه ويُطَالبه بِعِلاج هذا الأمر الذي اتُّخِذَ ضِدَّه، ثم حَمَلَ "رجَاء النقاش" الرِّسَالة إلى مصر وتَوَجَّه بها إلى مكتب الرَّئيس، وبالفعل وصلت الرسالة إلى يد الرَّئيس مباشرةً فقرأها وأمر بإلغاء قرار المُصادرة الخاص بالقصيدة، ورفَع اسم "نزار قباني" من قوائمِ المَمْنُوعِينَ من دخولِ مصر(3).
أثبت "رجَاء النقاش" أنَّ مهمّة "الكاتب"، هي الانتصارِ لحُريَّة التَّعبير وحُريَّة الرَّأي، ووَضِّح الزَّيف الذي يصطَبِغُ به بعض المُثَقَّفين في ذلك العهد؛ فقد كانوا يستغلُّون ثِقَة السُّلطة فيهم بأنَّهم سَدَنَة الفكر وحُمَاة الثَّقافَة، ويفتَعِلُون الضَجَّة الإعلاميَّة تجاهَ مَنْ لا يُوَافِق هَوَاهُم أو ميولهم، أو مَنْ يحجبُ عنهم الأضوَاء، الأمر الذي يدفع بالسُّلطة للسَّير وراءَ مَا يُنَادُونَ به.
ونجد "رجاء النقاش" في موقفِ دِفاعٍ عن إبداعٍ أدبيٍّ آخر، وهي رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ (1911-2006م)، حيث تناولها بدراسةٍ مُستقلةٍ، أظهر من خلالها، كيفَ دَفَعَ بعض من المُثقَّفين بهذهِ الروايَة إلى "رجال الدِّين" و"الأزهر" بهدف إثارتِهِم، مُشِيرِينَ إلى أنَّ الشخصيَّة الرئيسة فيها، ترمزُ إلى الذَّاتِ الإلهية المُقدَّسة، وكذلكَ إثارة "السُّلطة السياسيَّة" القائِمَة في حينها، بأنَّ الشخصيَّة الرئيسة في الروايّة ترمز إلى الحاكم. وكان الغرَضُ من تلك الضَجَّة على ما يبدو، هو ضَرْبُ "نجيب محفوظ" في مَقْتَلٍ، لأنَّ شُهرته فاقت جميع أقرانه من الأدباء. فسعي "رجاء النقاش" أيضًا إلى الانتصار لحُريَّة الرأي والإبداع وعدم المُصادرة تجاه إبداع "نجيب محفوظ" كما حدث مع قصيدة الشاعر "نزار قباني"؛ يجعل "المُتَلَقِّي" يستنبط دوره الذي أدَّاه، وهو التأكيد على احترامِ المُبدعِين، لأنَّ إبداعهم هو تعبيرٌ عن قضايا الإنسان وكرامته.
ولم تخلُ كتابات "رجاء النقاش" الصَّحفيَّة من الاهتمامِ بالإبداعِ والمُبْدِعِين، فنجده في سياقِ هذا الاهتمام، يُسَلِّط الضَّوء على بعضِ القضايَا التي تهدف إلى إيقاظِ العَقْل وشَحْذ الهِمَم، ومن ضِمنِ مَا تَنَاوله في هذا الجانب، قضيَّةٌ تُعدُّ غَايَة في الأهميَّة، وهي: إهمال الدولة بمُؤسَّسَاتِهَا السياديَّة والثقافيَّة للمُبدِعِين حينما يَتَعَرَّضُون لبعضِ المِحَن الشديدة كالمَرَضِ وغيره؛ فالعَالم العَرَبِي يَغْبُن حق "المَوْهِبَة" عندما يهمل في رِعَايَتِهَا وعدم الاهتمام بها، بخلافِ العَالَم الغَرْبِي الذي يسعى إلى تنميةِ المَوْهِبَة لا تدميرها. وهذا ما تناوله "رجاء النقاش" في حديثِهِ عن المَرَضِ الخطير الَّذي أُصيبَ به الشَّاعِر "أمل دنقل"(1940-1983م)، وصَارَ يُهدِّد حياته، ولم تلتفت الدولة إليه في وقته: "إنَّ الحقيقةَ التي تُوَاجِهُنَا بعُنْف هي أنَّنا نُسِيء استخدام المَوَاهِب التي تَظْهَر في وَطَنِنَا، بل ونُسِيء إليها في نفسِ الوقت أشدّ الإسَاءة، ممّا يُؤدِّي في نهاية الأمر إلى أنْ تكون هذه المواهب قوَّة عديمة النَّفع والتأثير، فهي مواهب تَذْوِي وتَذْبل مع الأيَّام...، فها هي الصُّحُف تأتي إلينا بالأنباءِ المُختلفة عن مرضِ الشَّاعر "أمل دُنقل"، والأنباء التي تأتينا لا تخفي أبدًا خطورة المرض فهو نوع من أنواع الأورام الخطيرة التي تسري في خلايا الجسم فتُهَدد حياة الإنسان.."(4).
وَرَفَضَ "رجاء النقاش" أيضًا أنْ يتخاذل المسئولون أمام هذه الموهِبَة الشِّعريَّة في مثل هذا الظَّرف، ثُم يتهافتونَ على إقامةِ المهرجانات والنَّدوات التي تُعَظِّم فنَّه وشِعْره إذا وَافَتْهُ المنيَّة؛ فقال مُستنكرًا: "هَل هُو قَرَارٌ بقتلِ الشُّعراءِ الَّذين يُقْلِقُوننا بأغَانِيهم الصَّرِيحَة الجَارِحَة؟ كيفَ ينام المُجتَمَع العربي رَاضِي الضَّمير مُستريح النَّفس، ومثل هذه المَوْهِبَة تَضِيعُ أمامنا وتَتَبدَّد، ونحنُ قادرونَ على إنقاذِهَا، ولكنَّنا نختار -على العكسِ- مَوْقف المُتَفَرِّجِين تمهيدًا لأنْ نَبكي غَدًا، ونحتفل ونقيم المهرجانات في كلِّ موقعٍ ثقافيٍ وأدبي على امتدادِ الأرضِ العَرَبِيَّة من الخليجِ إلى المُحيطِ"(5).
فاستنكار "رجاء النقاش" هنا، إنمَّا هو استنكارٌ لغَفْلَةِ الضَّمِير العَرَبِي تجَاه مثل هذِهِ المواهب، وإعلان رَفْضِهِ لأسلوبِ التَّخَاذُلِ المُتَّبَع مَعَ المُبدعينَ في مِحَنِهِم.
ولعلَّ في هذا المَقَال عن "أمل دنقل"، ما يُبَرْهِنُ على أنَّ "رجاء النقاش" كان يرسمُ خطًّا بيانيًّا، يُظْهِر فيه قوّة نبضه القومي والإنساني، إضافة إلى امتلاكِهِ للجرأة الشديدة في نقدِ الأوضاعِ المشِينَة التي يَتَعَرَّض لها أصحاب الرَّأي والمَوَاهب، فهو يرفض نُكْرَان الجميل والجُمُود تجاه الأحياء، ويرفض أيضًا النِّفَاق الإعلامِي الذي يُصَفِّق للموهوب أو المُبدع بعدَ وفاته.
• المحور الثاني: تصدي "النقاش" لأنصار اللغة العاميَّة
ولا يمكن أن نغفل دور "رجاء النقاش" في التَّصدِّي لمَنْ يُهَاجمُون اللغة العربيَّة؛ فقد تَصَدَّى للكاتب "لويس عوض"(1915-1990م) الذي زعم في بعضِ مقالاتِهِ، أنَّ "اللغة العاميَّة المصريَّة" لا تمت بِصِلةٍ إلى اللغة العربيَّة إلَّا في الأصل القُرَشِي فقط، وأنَّ الشخصيَّة المصريَّة تأمل أنْ تَتَحوَّل اللغة العاميَّة إلى لُغةٍ رسميَّة في المُجتمع.
فرَدَّ "رجاء النقاش" عليه مُحَاجًّا إيَّاه من خلال أقواله وكتاباته:
"هذا القولُ يا دكتور لويس غير صحيح، ولا يعتمد على أيِّ سندٍ عِلْمِي، فقد قُمْتَ أنتَ بمحاولةٍ للكتابةِ بالعَاميَّة المصريّة، ولكنَّكَ انصرفتَ عنها سريعًا إلى العربيَّة، وليس بين كُتُبكَ التي تقرب من عشرين كتابًا سوى كتابين بالعاميَّة المصريَّة... والسبب ليس هو عدم الوفاء لوعدكَ القديم بألَّا تكتب بغير العاميّة كما تقول، ولكن السبب الصَّحيح هو أنَّ اللغة العربيَّة أدق من العاميّة المصريّة، وأنَّ العاميّة المصريَّة نفسها إنما هي لغة قريبة جدًّا من الفُصحى... ولقد كانت أزجال "بيرم التونسي"(1893-1961م)، الذي تعتبره شاعر مصر الأوَّل قريبة أشد القُرب من الفُصحى، لأنَّ "بيرم" كان من عُشَّاق العربيَّة ومن دارسيها... فاللغة العربيَّة في مصر إذن هي تعبيرٌ عن شخصيتها الأساسيَّة وهي الشخصيَّة العربيَّة، وتعبيرٌ عن انتمائِهَا القومي، وهو الانتماءُ العربي"(6).
ولعلَّ "المُتَلَقِّي" يُلاحِظ أنَّ "رجاء النقاش" استخدمَ أسلوب "التأدُّب" في ردِّهِ على "لويس عوض"، وتجنَّب معه أسلوب "الانفعال" أو "الهُجُوم"؛ فخاطبَهُ بلفظِ "يا دكتور"، ثُمَّ سَرَدَ له الحجج والبراهين من جِنْسِ أقواله ومُؤلَّفاته كي يُدحِض مَزَاعمه.
إنَّ تلكَ الدَّعاوى والافتراءات التي قادَ لواءها "لويس عوض" على "اللغة العربيَّة"، لم تكن هي الوحيدة، بل طالت افتراءاته أيضًا، رجال الأدب والفكر المُعَاصِرين أمثال: "محمد حسين هيكل" (ت1956م) و"عباس محمود العقاد" (ت1964م) و"طه حسين" (ت1974م)؛ حيث تناولهم في كتابه "أوراق العُمْر" الذي تحدَّث فيه عن سيرته الذَّاتيّة، مُتَّهمًا إيَّاهم بأنَّهم كانوا زنَادِقَة في بدايةِ كتابَاتِهم، ثمَّ تحوَّلوا في النِّصفِ الثَّاني من حياتِهِم إلى "الدِّين" سعيًا وراء الشُّهرة(7).
استوقَفَ "رجاء النقاش" هذا الرَّأي فيهم، ورَأى أنْ يُناقشه بالتفصيل كي يُثبِت بأنَّه غير دقيق ومبتعد عن الصَّواب؛ حيث استَعْرَضَ السِّيرة الذَّاتيَّة لهؤلاءِ الثلاثة، مُوضِّحًا نموّهم الفكري المُعتدل، مُستَندًا إلى مَا صَدَرَ لهُم من مُؤلفاتٍ ونشَاطاتٍ سِياسِيَّةٍ واجتماعِيةٍ، وأنَّ الشُّهْرَة قد واتَتْهُم في مُقتبلِ حياتِهِم، ممَّا يؤكد أنَّهم لم يسعوا لاكتسابِ شُهْرَة من وراءِ كتاباتهم كما يدَّعي "لويس عوض"(8).
ولعلَّ تلك المَلامِح التي أورَدَهَا "رجاء النقاش" عن أولئك الأدبَاء؛ كفيلة لوحدها بأنْ تُبْطِل الفكرة الشَّائِعة والتي روَّجَ لها "لويس عوض"؛ وهي أنَّ الكتابة الدينيَّة عندهم، كانت هدفًا للشُّهْرَة والنَّجَاح.
وكان من المُمْكن أنْ يكتفي "رجاء النقاش" بهذه المَلامِح فقط، ولكنه أكَّد، أنَّ الفكر الدِّيني المُعتَدل الذي حَمَلَه هؤلاء المُفكِّرُون، لم يكن سوى امتدادٍ لروَّاد التنوير في عصرِ النَّهضة الحديثة، أمثال "محمد عبده" (ت 1905م) وتلامذته؛ فـ"هيكل" و"طه حسين" و"العقاد"، رآهم "رجاء النقاش" يُمَثِّلون "الامتداد الطبيعي المُتطوّر مع تطوّر العَصْر وثقافته لـ"محمد عبده" ومدرسته، ولولا هذا التيَّار الدِّيني المُتفتح الوَاعي الأصيل لَتعرَّضَت مصر بل والوطن العربي كُلّه لكارِثَة فِكريَّة وعِلميَّة هي سِيَادة التَّفكير الدِّيني المُتطرِّف"(9).
وعلى الرَّغمِ من استطراد "رجاء النقاش" الطويل في الرَّدِّ على "لويس عوض" فيما يَخُص هذه الشخصيّات الثَلاث، إذ بلَغَت عدد الصَّفَحَات التي استعرضَ فيها الحجج ما يُقارب الثَّمَاني صَفَحَات وأكثر؛ فإنَّ محاولتي هنا، انصبّت -على قدرِ الإمكان- في تسليطِ الضَّوء على جُهوده الدَّقيقة في الكشفِ عـن دَوْرِ روَّاد الأدب في التَّصدِّي للفكر المُتطرِّف، ودَوْره هو أيضًا في إنكارِ المَزَاعِم التي تُشكِّك في إبداعِهِم الفِكري.
وجملة القول، إنَّ الجهودَ التي قامَ بها "رجاء النقاش"، من الذود عن أصحاب الرَّأي والفكر، من خلال تصديه لقضية مُصَادرة الإبداع، ورفضه للطَّعنِ في شخصياتهم وأفـكارِهِم؛ إنَّمَا يدل على نجاحه في إيصال فكرة أنَّ العمل في مجال النَّقد، لا يقتصر فقط على تحديد نواحي الضّعف والقوة في الإبداع الفنِّي، بل يتعدَّاه إلى وظيفة التصدِّي للحملات الفكريَّة الهدَّامَة التي تهدِف إلى القضاءِ على كيانِ المُجتمع وطَمْس مَعَالِم تاريخه العربي.
وبرَعَ "رجاء النقاش" في أنْ تكون "الجذوة الإنسانيَّة" مُشتعلةً لديهِ على الدَّوامِ؛ فعَمِدَ مع شخصِ "لويس عوض" إلى أسلوبِ البناءِ لا الهَدْم، مُعترفًا بما لدَى الأخير من عِلمٍ وفِكرٍ، وخَاطَبَهُ بلقبِهِ العِلمِي، وفنَّد أقواله بأسلوبٍ عِلميٍ دقيق اعتمدَ فيه على الحقائق التي يقبلها العقل، لَعَلَّه يرجع عن أقوالِهِ السَّابقة في الفكر ورجاله، علمًا أنَّ تلك الرُّدُود كانت عَبْرَ صَفَحَات المَجَلَّات في حياةِ "لويس عوض" وليسَ بعدَ وَفَاتِه.
وربما يُلاحظ "المُتلقِّي"، أنَّ أسلوب "رجاء النقاش" فيما سبق، هو أسلوبٌ تظهر فيه لُغة الصَّحافة أكثر من لُغة النقد الأدبي، ويبدو لي أنَّ مثل تلك القضايا الشائكة، يتناولها "الصَّحفي" أكثر منها "النَّاقد"، وربما يُقَصِّر "النَّاقد الأدبي" عن مُناقشة مثل هذه القضايا، بينما يتسنَّى ذلك لـ"الكاتب الصَّحفي"، لاحتكاكِهِ بالواقعِ الفكري والثقافي في المُجتمع، إلَّا أنَّ المِيْزَة التي تميَّز بها "رجاء النقاش" هي أنَّه قد اجتمع فيه شخص "الصَّحفي" وشخص "النَّاقد" معًا. ومن ثَمَّ، فإنَّ دورَ "رجاء النقاش" النَّقدي فيما سبق؛ هو تعبيرٌ عن كاتبٍ احتضن هُمُومَ أمَّته، وحَارَبَ "قصور النَّظرة" تجاه ظواهر الأدب واللغة، وجعل من الصَّحافة، وسيلةً لتصحِيحِ كُلِّ ما هو مغلوط ومزعوم، بأسلوبٍ جَمَعَ فيه بين "الهُدُوء" و"المَوضُوعيَّة" و"مُغَالَبة الأهوَاء".
• الهوامش:
(1) نزار قبَّاني: الأعمال السياسيَّة الكاملة، بيروت، منشورات نزار قبَّاني، ط2، 1999، ص492-493.
(2) انظر: رجاء النقاش: ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء، الكويت، دار سعاد الصباح، ط1، 1992، ص141–146.
(3) المرجع نفسه، ص147-149.
(4) رجاء النقاش: لماذا نقتل هـؤلاء الشعراء؟!، مجلة الدوحة القديمة، عدد يونيه، 1982، ص10.
(5) المقال نفسه، ص11.
(6) رجاء النقاش: الانعزاليون في مصر "رد على لويس عوض وآخرين"، الرياض، دار المريخ، ط2، 1988، ص88-89.
(7) انظر: د.لويس عوض: أوراق العُمر "سنوات التكوين"، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط1، 1989، ص613-614.
(8) انظر: رجاء النقاش: لويس عوض في الميزان، القاهرة، دار الشروق، ط1، 2006، ص84-85.
(9) المرجع نفسه، ص90.