د. نادية هناوي
أكاديمية وناقدة عراقية
ما مِن أحد يجادل في العنوان وأهميَّته في إثارة القارئ وتحفيزه على القراءة، صانعًا في ذهنه أفكارًا وصورًا ورسائلَ يتوقَّع أنْ يقف على كنهها وهو يتخطّى عتبة العنوان إلى المتن، ممّا يشعره نفسيًّا بالانجذاب إلى الكتاب؛ وبالأخص إذا كان هذا الكتاب كتابًا نقديًّا دلَّ على نفسه من خلال عنوانه، فتماثل خارجه مع داخله وانفتحت فصوله ومباحثه بلا إضمار أو مُماراة يحتاج معهما إلى استدراك يزيل اللّبس.
لا شكَّ أنّ العنوان محفِّزٌ من المحفّزات القرائيّة التي توصل النص بالمناص ميسِّرة عمليّة القراءة. وهذا مرهون بفهم المؤلف لوظيفته الكتابيّة ولاسيما حين يريد أن يكون ناقدًا ومؤوِّلًا ثقافيًّا يفترش النصوص ويفكّك شفراتها محايثًا وباحثًا عن كينونة النص ومؤلفه. والقارئ في كل ذلك مرافق له يشاركه الافتراش والفكفكة بعد أن عقد الناقد معه شراكة نقديّة، هدفها جمالي يضفي على العملية النقدية تعافيًا نوعيًّا وليس تزايدًا كميًّا لا طائل من ورائه.
وهذه الوظيفة ينبغي أن يؤدّيها الناقد وهو يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية أمام المؤسسة الثقافية إجمالًا التي عليها أيضًا أن تضطلع بممارسة دورها التقويمي والرقابي.
وبسبب خطورة هذا الدور وأهمية تلك الوظيفة حذَّر "روبرت شولز" في كتابه (السيمياء والتأويل) النقاد من تصنُّع الفرادة وهم يدخلون إلى حقل القراءة، مشدِّدًا على ضرورة أن يكونوا متنبهين وهم تحت وطأة الممارسة التأويليّة من الوقوع في سحر الاستجابة الشخصيّة وشرك التفسير البالي.
ونجد في نقدنا العربي نقادًا نلمس عندهم انجرارًا نحو إغراءات المصطلحات واقعين في فوضى تطبيق المفاهيم مع الإغراق في الترسيمات والمشجَّرات والمخططات، والأخطر من ذلك كله التمادي في تنميق العناوين وتزويقها حتى وإن كان ذلك مخالفا لمتونها، وهو ما يشكل اليوم ظاهرة بارزة، ساهم رواج الكتب النقدية في تصاعدها.
ولو قمنا بعملية فرز نقدي يتحرّى العلاقة بين عناوين الكتب النقدية ومتونها لرأينا العجب العجاب، والأسباب شتى؛ فإمّا افتتانًا بالنقد الثقافي وانبهارًا بالدراسات الثقافية والتباسًا في فهم مناهجهما وطبيعة الاستهداء بمواضعاتهما، وإمّا تباهيًا بالتجديد الذي لا يهمّ معه إن كان هذا التجديد في العنوان مترافقًا مع التجديد في المعنون أو لا.
واستفحال هذه الظاهرة مؤخرًا يجعلنا نشعر بحنين كبير لكتب النقد المنتجة في الربع الأخير من القرن العشرين التي نجد متونها متجلِّية من عناوينها، انطلاقًا من صدق الناقد مع نفسه وأمانته مع القارئ. خذ مثلًا كتب الناقد عزالدين إسماعيل وعلي جواد الطاهر وعبدالمحسن طه بدر وجابر عصفور ومحمد مفتاح وعبدالملك مرتاض ومحمد برادة.
وهذا الحنين يتجدَّد لدينا كلّما صادفنا كتابًا ليست فيه أية إضافة نوعيّة للمشهد النقدي، بل مراكمة كمية يريد الناقد بها أن يتباهى بكثرة عدد صفحات كتابه وضخامته أو الإيهام بباع نقدي مختارًا عنوانًا طنّانًا رنّانًا لا يعكس ظاهره جوهر موضوع الكتاب.
وإذا ما جاء القارئ إلى هذا الكتاب لم يجد فيه قصديّة التأليف ولا الوحدة العضوية للاشتغال المنهجي على المصطلحات ولا أي ربط للنتائج بالمسببات؛ وإنما تجميع لمقالات وأبحاث كتبها المؤلف في أوقات متباينة ونشرها في الصحف والمجلات، كنوع من الاعتياش الكتابي على ذاكرة غير متمرِّنة في الاستتباع الكتابي تريد أن تتوهَّج وهي في أحلك عتمة وتسعى إلى التفرُّد المعرفي بينما هي تزيد طين الالتباس النقدي بلّة.
ولا خلاف أنّ نقدنا الراهن يفتقر إلى وجود أفق تنظيري يعزز الوعي بالمجسات العلمية والاشتراطات الموضوعية التي تجعل الناقد مسؤولا وهو يعنون ما يؤلفه مدللا بالعنوان على البعد النظري الذي اشتغل عليه في متن الكتاب وكذلك البعد الإجرائي الذي بموجبه حلل وناقش، لا أن يتفطحل أمام القارئ ظانًّا أنه يسقيه النقد زلالًا بينما هو يزيده ظمأ.
وعلى الرغم من أن وراء هذه الظاهرة قصورًا في الأدوات النقدية أولًا وتضخُّمًا في الذات النقدية المتعالية على النص ومتلقيه ثانيًا، واستعاضة عن الاستجابة الجمالية باستغلاق النقد ثالثًا؛ فإنَّ حرص الناقد كفيل بأن يحصِّنه من الوقوع في هذه الظاهرة شأنه في ذلك شأن أي كاتب حريص على إعطاء منتوجه الكتابي عنوانًا يتمثل جوهر متنه، وقد شفّ عن المنهجية، وتخطى حدود المعتاد لكن بلا إسفاف محاولًا الابتكار دون مناورة تصوِّر الكتاب في ذهن القارئ على غير ما هو عليه أصلًا.
والناقد المحترف والأصيل هو مَن وعى أهمية التشارك مع القارئ بقصد إفادته، جاعلًا من ذاته الناقدة والذات القارئة ذاتًا واحدة. وفي مقدمة السبل المحققة لهذا التشارك وتلك الواحدية امتلاك الناقد المفاتيح القرائية وفي مقدمتها مفتاح العنوان.
وإذا امتلك الناقد مفتاح العنوان فإنَّ سائر مفاتيح الكتاب ستكون في قبضته، وبها سيقدم إضافة نوعيّة إلى ميدانه النقدي.
والمشكلة التي يواجهها مشهدنا هي أنَّ الناقد ما زال مركزيًّا وهو يرى نفسه رؤية نخبويّة، لا تتماشى مع مرحلة ما بعد الكولونيالية التي فيها تضعضعت مركزية الناقد، وصار النقد نشاطًا ثقافيًّا وليس مجالًا إجرائيًّا خاصًّا بذاته، فيه يشتغل الناقد على بروتوكولات تجعل الناقد والقارئ مشتركين في العملية النقدية تفسيرًا وتأويلًا وتشريحًا وحفرًا وبانفتاح لا تنميط فيه.
بيد أنَّ هذا التطلُّع ما زال بعيدًا عن مشهدنا كون المتحصل على أرض الواقع لا يشير سوى إلى تضارب عناوين كثير من المؤلفات النقدية مع ما تتضمنه متونها، ناهيك عن مدى الالتزام المنهجي ومقاسات وعي الناقد المعيارية وما قد يعانيه من تضخُّم ذاتي، يجعله استلابيًّا وهو يتنكر لمنجزات غيره مفندًا جملة وتفصيلًا وجود أيّ ملمح إيجابي في النقد العربي المعاصر أو الراهن.
والأدهى من ذلك أن يكون وراء هذا الأمر فذلكة تريد من العنوان أن يكون مطبًّا للتعثر لا عتبة للاجتياز والتقدم. وليس مهمًّا التزويق والزركشة في صنع العنوان بقدر الاهتمام بجعله عتبة مفضية إلى جوهر النص، فإنَّ الزمن الذي كان فيه الناقد معلمًا وأستاذًا قد مضى ومعه مضت تلك المرحلة التي فيها القارئ مجرَّد تلميذ وصفحة بيضاء وهذا بسبب شيوع الفني لدى جمهور القراء.
ولو لم تكن للعنونة قيمة إشهارية تترك أثرها على القارئ ما كان للنقد الغربي أن يخصص لها مساحة كافية من التنظير، ومنه تنظير "جيرار جينيت" حول المتعاليات النصية الذي فيه أكد ما للعنونة من أهمية للمختصين والقراء ووسطاء الكتّاب من الناشرين والمكتبيين والوثائقيين، منطلقًا من فكرة أنَّ العنوان هو الذي يجعل النص كتابًا يقترح نفسه على قرّائه أو بصفة عامة على جمهوره وأنه أكثر من جدار ذي حدود متماسكة. ولقد وصف "بورخيس" العنوان بالبهو الذي يسمح لكل منا دخوله او الرجوع منه.
وانطلاقًا من هذه الأهمية نمثل بكتاب (تأويل المتخيّل: السرد والأنساق الثقافية) للدكتور عبدالقادر فيدوح والصادر عن دار صفحات للدراسات والنشر بسورية عام 2019 الذي فيه (تأويل المتخيّل) هو العنوان الرئيس ويليه (السرد والأنساق الثقافية) كعنوان ثانوي مفصول عن العنوان الرئيس بقوسين كبيرين، ولأنَّ كلا العنوانين لا يدلان على المتن، أصبح الكتاب في وادٍ والعنوان في وادٍ آخر.
والسبب أنَّ الأدوات التي اعتمدها الباحث ظلّت بلا حدود منهجية وهي تضطرب بين المعاينة والشرح والتحليل وتلخيص الروايات والتفسير، هذا أولًا، وثانيًا أنَّ المادة المبحوثة لم تكن جميعها متخيلًا أدبيًّا، فقسم منها كان نظريًّا وثقافيًّا، وثالثًا أنَّ الباحث لم يُخضع كل صنوف السرد للتحليل الإجرائي بل اقتصر على الرواية، ورابعًا أنَّ متن الكتاب وما فيه من عنوانات جانبية كانت خالية من تحديد للفصول أو المباحث، كون الكتاب تجميعًا لمقالات وأبحاث وحوارات، بينما توزّعت العنوانات في صفحة المحتويات بطريقة توحي بوجود فصول ومباحث من خلال اعتماد اللون الأسود الغامق والفاتح، وبالشكل الذي يجعل هذا التمويه في صفحة المحتويات متعاضدًا مع التمويه الذي انطوت عليه دلالة العنونة.
ولا يتقيّد الكتاب منهجيًّا بـ(التأويل) كأداة أو فعل نقدي كما لا يلتزم بـ(المتخيّل) كمادة أدبية منقودة، منساحًا نحو التمثيل بأنواعه (السردي/ الفكري/ الذاتي/ العجائبي/ الكولونيالي/ الآخر) ليغدو التضارب واضحًا بين (التأويل والمتخيّل) و(التمثيل والتحليل).
وكثير من النقاد تغريهم لفظتا "التأويل" و"المتخيّل" نظرًا لما تنطويان عليه من دلالات مستجدّة توحي بالمواكبة للنظريات الغربية.
وهو أمر مبهج لو كان الاشتغال تأويليًّا يجافي النمطيّة ويتعدى المواضعات الدغماطية المعتادة في نقدنا العربي، بيد أنّ المتحصل من الكتاب موضع الرصد هو أنَّ الرؤى التنميطية الكلاسيكية هي الطاغية وبالشكل الذي يدلل على منافاة متن الكتاب لعنوانه من خلال:
* الإيمان بوجود هامش مفصول عن مركزه.
* مؤاخذة المركزية على انهيارها الذي جعل السرديات الصغرى في منطقة السرديات الكبرى.
* رفض ما بعد الحداثة التي بسببها (لم يعد أي شيء في منظومة العالم الجديد يحظى بالقيمة المركزية التي ألفتها الثقافات الإنسانية والهويات القومية منها على وجه التحديد) الكتاب، ص18.
* الجمل الإطلاقية المؤسلبة مثل "أن جوهر الحقيقة في ثقافتنا مغيب"(ص13)، وكأنّ الحقيقة حاضرة في النقد الغربي.
* التوظيف الاصطلاحي الذي لا فرق فيه بين (الجديد) و(الما بعدي) و(الحديث) و(الحداثي) فالكولونيالية الجديدة والكولونيالية سيان "فوضى مدمرة للوعي الإنساني في ثقافة الأطراف"(ص11)، ومرَّة تسهم الكولونيالية الجديدة في صنع البراديغماتية على أسس المنفعة، ومرة أخرى تكون "وليدة أفكار ما بعد الحداثة ووريثتها"(ص18).
* الواقع والمأمول رديفان لكلمة (المتخيّل) في ما سمي "فكرة المتخيل المأمول"(ص12)، أما تعبير (سرديات اللاحقيقة) فذو صلة بالبراديغماتية الجديدة "بوصفها أقرب ما يمكن أن نصل إليه في علاقتنا مع الواقع والحقيقة.."(ص17).
* الخوف من قضايا ما بعد الحداثة والحذر منها سببه النظر إليها بمنظار حداثي انغلاقي يلقي اللوم على ثقافة معولمة ومعلبة تتلاشى فيها صور التفكير العقلاني الذي "تحاول خلخلته أفكار ما بعد الحداثة"(ص62).
* ولو كانت الرؤية النقدية تتحرى التأويل لانفتحت على أفكار ما بعد الحداثة وتفهمت السيولة والتفكيك.. لا أنْ يُساء فهمها اعتقادًا أنها تسعى إلى "ترسيخ وعي الانفصام وتزرع الخلاف بين ثقافة وافدة (هدف) وثقافة أطراف هي مصدر مُستهدف"(ص18)، ولعلّ أهم ما جاءت به ما بعد الحداثة هو أنها لم تفصل بين ثقافة رفيعة وأخرى وضيعة وهو ما يؤاخذها عليه الناقد (ينظر: الكتاب ص63)، ليتساءل بعدها ما الذي تحقق في العالم من مزايا؟!
* التعامل بانغلاقيّة يجعل التقدير هو البغية وليس التأويل (الذي تضمّنته ثيمة العنوان الرئيس) فيقاضي الناقد الفكر ما بعد الحداثي برؤية نمطية متعسفة يلقي فيها باللائمة على هذا الفكر كونه أفضى إلى كل ما هو سلبي، كقوله: "لقد بدأت ظاهرة منظومة العالم الجديد تؤثر تأثيرًا سلبيًّا في جميع المجالات.. التي أصبحت ممسوسة بخروقات العولمة وثقافة ما بعد الحداثة المموّهة للحقائق والمفسدة للمرجعيات"(ص68).
*الوقوف عند ثوابت النظر النقدي المعتاد يجعل موقف الناقد من ثقافة العولمة موقفًا سلبيًّا كونها -بحسب رأيه- تستبدل ما هو هامشي بما هو أصيل، ساعية إلى الاستبداد تمحو المعايير الثابتة للسرديات العظيمة الكبرى وتتنكر لها بدافع خلق حياة سائلة(ص58).
وإذا ما قمنا بجرد لآليات المنهج المعتمد ومواضع التطبيق على المتخيّل (الذي تضمّنته ثيمة العنوان الرئيس)؛ فسنجد أنّ هذه النمطية تتوكد مع تصاعد توظيف المنهج السوسيولوجي الذي معه يزداد التيقن من التمويه والتزويق اللفظي الذي انطوى عليه عنوان الكتاب.
وغالبًا ما نجد العنوانات الفرعية توحي بالثقفنة والاشتغال على الأنساق لكن متونها تخضع لمنهجية سياقية ذات أبعاد سوسيولوجية كما في هذا العنوان (ثقافة العنف أم ثقافة الاستهلاك) الذي متنه متَّجه صوب مسائل العيش ومجتمع الفرجة اللاهية والواقع المتهرئ وصوره الدعائيّة.
ومثل ذلك العنوانات الأخرى التي تحفل بالنقد الثقافي للهويات والأنا والذات والآخر والاستهلاك والعنف، بينما تتمسك متونها بالفهم الاجتماعي الذي لا يتعدى موضوعة التشيؤ والاغتراب. وبعض العنوانات تبدو إنشائية مثل (تصدعات الهوية/ إنتاج السطح) ناهيك عن خلطة عجيبة تجمع مسميات (مرونة إنتاج الاستهلاك واليسار الجديد والنظريات الشكلانية والدراسات الثقافية والمناص والمتعاليات النصية وفضاء الورقة والتواصل الاجتماعي) وقد حشرت ضمن الحديث عن الواقع المأمول بعيد المنال(الكتاب، ص91).
أما التحليل السوسيولوجي، فشمل أعمالًا روائية لم تتعدَّ أصابع اليد وكانت أغلبها جزائرية، وهي(حكاية العربي الأخير) لواسيني الأعرج و(الكولونيال زبربر) لحبيب السائح و(لقبش) لعياش يحياوي، بينما جاء التمثيل بروايات (فرانشكتاين في بغداد) و(غفرانك يا أمي) و(شرق المتوسط) و(حُبَّى) عرضيًّا حتى أنَّ المؤلف استشهد بنص روائي لم يرجع فيه إلى الرواية وإنما استلّه من كتاب نقدي آخر (ينظر: ص99).
وفي تحليل رواية (حكاية العربي الأخير) اهتم المتن برصد الأبعاد السياسية والواقعية وإعادة تكوين العالم(ص138) وكان المتن المبحوث عن أدب نجيب محفوظ متجهًا صوب البعد الإنساني ودور محفوظ الواعي التحرري في رؤية الواقع الاجتماعي.
وتتبّع الناقد في رواية (الكولونيل الزبربر) ما سماه الرؤية الراجعة التي نراها مستلهمة من مفهوم التغذية الراجعة ويشرحها في الهامش وليس في المتن بأنها تعني تفاعل أحداث ذاكرة الماضي في التطور والتطوير(ص171)، وهذا فهم سوسيولوجي فيه "الحياة الاجتماعية قائمة على التجريب وأنّ تجربة التذكر مصدر أساس لواعية (كذا) كل المجتمعات وعلى هذا الأساس أصبح من الطبيعي أن ينصبّ اهتمام المفكرين والفلاسفة على الذاكرة الواعية"(ص206)، وعنده الإرهاب وما سماه الإرهاب المضاد والموت والقتل تعني كلها العنف!!
واهتمَّ في تحليل رواية رجاء العالم (حُبَّى) بالفضاء المكاني وليس كما ذهب العنوان (المتخيّل والعجائبي) ولم يكن العنوانان الأخيران في الكتاب وهما (التمثيل السردي بين الذات والآخر) و(هوس الكتابة الإبداعية) دالين على متن سردي أو تأويلي وإنما هما أسئلة وأجوبة لحوارات ومقابلات أجريت مع المؤلف عام 2015 وليس فيهما سوى حديث في النقد ومؤثراته وصراع الأجيال مع نزعة واضحة للوم النقاد العرب وغمط منجزاتهم "بات النقد في ساحتنا الثقافية يصارع طاحونة الهواء وكأنه بالنسبة إلى الإبداع على مثل ما يوضع على لهيب النار وما بين غياب الوعي النقدي وما هو عرضة للنار يشيع النقد الهشيم أو النقد الهباء الذي سرعان ما تذروه الرياح، هشيم قوامه الامتلاء بالاستهوائية وهباء لأنه منثور وأضاع نفسه وضيّعنا المرجعية النقدية بلا فائدة وأخلى سبيله من الالتزامات النقدية النزيهة"(ص301ـ302) إلى غيره من الأحكام التقديرية الإطلاقية، كهذا الرأي الذي أدلى به الناقد ردًّا على سؤال محاوره عن حال النقد فأجاب: إنه مصاب بداء العظمة ولم يعرف إلا البلاء والمحن ودراسات قيصيرية وبحوث مسلوقة بالمحاباة وسوء استعمال المناهج منطقة اللغو ومنحنى التواكل وعدم التدبر والروية والناقد يشبه حاطب ليل يحاذي الهامش غير فاعل(ينظر: الكتاب ص303ـ307).
ومن المعلوم أنَّ الاعتياش وليس التعايش هي سمة النقاد المركزيين الذي حظوا بثقة مؤسسة أو احتلوا منصبًا ما، ولو تنازل الناقد عن مركزيّته وتخلّى عن الاعتياش على الحداثة ووطّن نفسه على ثقافة التعايش مع ما بعد الحداثة لوجد الأمور منظورًا إليها من زاوية أخرى، وأهمّها الزاوية التي فيها يرى الناقد نفسه مسؤولًا مسؤولية أخلاقية أمام المنظومة الرسمية، فتعزز رؤيته إلى ما هو إيجابي كما ستتوكَّد مقدرته على معالجة السلبي، وليس التأشير عليه والتذمُّر منه فقط.