د. أبو المعاطي الرمادي
أكاديمي مصري- أستاذ الأدب والنقد المشارك
جامعة الملك سعود
يكتب القاص محمد صوانة القصة القصيرة جدًا بوعي كامل، فهو يعرف جيدًا ركائز بنيتها، وأساسيات التعامل مع هذه الركائز، ويعرف كيف يستثمرها في رسم صورة متعددة التأويلات للواقع الذي يعيشه، فجاءت مجموعته (حروف وسنابل) مثالًا للمجموعة القصصية القصيرة جدًا المتميزة بقصصيّتها واقتصادها السردي.
حرص الكاتب الأردني محمد صوانة في قصص مجموعته القصصية القصيرة جدًا "حروف وسنابل"(1)، على حضور القصصيّة والاقتصاد السردي حضورًا بارزًا كركيزتين لا يمكن الاستغناء عنهما، عند صناعة المتخيل السردي القصير جدًا. يدرك المتلقي ذلك من خلال الراوي وصوته الظاهر في قصص المجموعة كلها، والأحداث المتتالية، والشخوص المتحاورة، والسببية، والزمان والمكان، ومن خلال الحرص على البداية والوسط والنهاية في جل القصص، ومن خلال الحذف وعدم الاستطراد، والتعامل مع العناصر المشكِّلة بنية القص بالإشارة والتلميح والإيماض.
تظهر هذه العناصر جليّة في جلّ قصص المجموعة، ومنها القصة القصيرة جدًا (منجنيق):
"دأب يطرق الجدار بمعوله كل صباح..
مع كل طرقة،
تسقط كسرة صغيرة..
وفي آخر النهار يعود محمَّلًا بفتات
يجمعها في صندوق خاص..
قال له جاره يومًا:
- هوِّن عليك.. احتطب بمعولك، وأنفق على عيالك..!
بعد أيام،
شوهد متأبطًا معوله متجهًا نحو الأشجار..!
مكث داخل الغابة زمنًا..
ثم عاد
مزهوًا؛
يجر منجنيقًا من صنع يده!"(حروف وسنابل، ص15).
تبدو القصصيّة جليّة بوضوح في القصة المكون معمارها السردي من ثلاث وخمسين كلمة؛ ففيها الراوي العليم المتحدث -بلا تفصيل- عن شخصيتين، وفيها شخصية المُصرّ على تحقيق الحلم، وشخصية الناصح، والحدث المتنامي بطاقة الأفعال (دأب، يعود، يجمعها، شوهد، عاد)، والصراع بين الرغبة في الفعل والموقف من الآخر، والمكان المبهم، والمكان المحدد (الغابة)، والزمان المبهم (بعد أيام- زمنًا)، والزمان المحدد (الصباح- آخر النهار)، والحوار الذي قوّى حضور الشخصيتين وحرَّرهما من سطوة الراوي العليم.
المدقِّق في (منجنيق) يلاحظ حرص (صوانة) على أن تحتفظ القصة بالمفاصل الثلاثة: البداية (دأب يطرق الجدار بمعوله كل صباح)، والوسط (هوّن عليك.. احتطب بمعولك، وأنفق على عيالك..!)، والنهاية (ثم عاد مزهوًّا! يجر منجنيقًا من صنع يده)، لكنه -وهو الواعي بخصائص الفن الذي يكتب فيه- حرص، كما يقول عبدالرحيم كردي، على أن "يعرّي هذه المفاصل من كل ما يستر هيكلها العظمي من لحم وشحم، ويتركها هكذا كأنها خيوط عجفاء، أو خطوط للوحة تجريديّة معروفة"(2)، فجاءت خالية من التفسير، فلم يقدم للقارئ شيئًا عن الجدار المطروق كل صباح، ولا عن سبب الطرق، ولم يخض في الصراع الموجود بسبب اختلاف وجهتي النظر، ترك كل ذلك لمخيلة المتلقي وعقليته التفسيرية التأويلية.
كما يلاحظ الحرص على التتابع الزمني السببي الذي يسير فيه الزمن سيرًا رأسيًا ويتتابع تتابعًا منطقيًا بلا أية انحرافات تستدعي سردًا شارحًا يتنافى مع طبيعة القصة القصيرة جدًا، وقد انعكس هذا على حركة مكونات الحدث، فجاءت منطقية، يسلّم كل جزء منها الراية للذي يليه.
وتظهر القصصية جليّة –أيضًا- في القصة القصيرة جدًا (خروج)، مع أنَّ شريطها اللغوي، أقل من الشريط اللغوي لـ(منجنيق).
"قدمت له إفطاره من بقايا العشاء الفائت، قبل ذهابه إلى المدرسة..
- مدرِّس الرياضة طلب منا حذاء وملابس رياضية جديدة للعام الدراسي الجديد..
تنظر الأم من نافذة صغيرة نحو الفضاء..
دمعة تجري على خدِّها بصمت..
ألقى عن ظهره حقيبة المدرسة..
حمل سلّة القش..
وخرج!"(ص49).
تتكوّن القصة من بداية (قدَّمت له إفطاره من بقايا العشاء الفائت، قبل ذهابه إلى المدرسة)، ووسط يمهِّد الطريق للنهاية (مدرِّس الرياضة طلب منّا حذاء وملابس رياضية جديدة/ دمعة تجري على خدّها بصمت)، ونهاية (حمل سلّة القش وخرج).
وفيها مكان جليّ (المنزل)، وزمان واضح (صباح أحد الأيام)، وشخصيتان (أم/ ابن)، وحوار، وصراع داخلي نفسي، وحدث يتتابع وفق منطق السببية، وراوٍ عليم يمسك بزمام الحكي النحيل، لكنها تخلو من الأبعاد المادية والاجتماعية والنفسية للشخصيات، ومن البعدين الاجتماعي والجغرافي للمكان، تُركت كلها لعقليّة المتلقي غير الاستهلاكي. وهي أبعاد لها مفاتيحها داخل القصة، باستثناء البُعد المادي للشخصيتين، تركه القاص بلا معينات، ليجعل قصته القصيرة جدًا صالحة لأكثر من مكان، وأكثر من زمان.
ليس من الضروري حضور عناصر القصة كافة في القصة القصيرة جدًا؛ فالكاتب يختار منها ما يساعده على صناعة حدث صغير تتبلور بداخله فكرة كبيرة، ويضمن له تحقُّق القصصيّة. فقد يستغني عن الصراع، وعن ملامح المكان، ودوْر الزمان، لكنه لا يستطيع الاستغناء عن الراوي والشخصية، الضامنين للقصصيّة أهم مقوماتها. نرى ذلك في القصة القصيرة جدًا (عطاء) المبني معمارها بتسع عشرة مفردة.
"كان وحيدًا../ فمدَّ يده../ وأعطى دون مَنّ../ عندما جلس يأخذ قسطًا من الراحة،/ غطَّت الأيدي الأفق../ تتسابق في العطاء..!!"(ص12).
لم تحضر عناصر القص كلها في (عطاء)، فلا وجود فيها لزمان واضح المعالم، ولا حضور فيها لمكان محدَّد، ولا تتصارع فيها الشخصية الرئيسة مع شخصيات أخرى، فقط يبرز فيها الراوي والشخصية المعطاءة، التي أدمنت العطاء دون منّ. وقد نجح (صوانة) في المحافظة على قصصية نصه بطاقة الأفعال الماضية والمضارعة المشكِّلة حالات ساعدت على امتداد الحدث ونموّه بتتابعها الكامن فيه شيء من السببية (كان.. مدّ.. أعطى)، وشاركت الجمل القصيرة الأفعال في صناعة القصصية، ليس بقصرها، بل بما تحتويه من دلالات دافعة المتلقي إلى تخيُّل الصورة التي يريدها القاص ولم يفصح عنها، فالجملة "أعطى دون منّ" تفتح الباب أمام صورة لطريقة العطاء، والابتسامة المرسومة -بلا نفاق- على وجه المعطي، وجملة "جلس يأخذ قسطًا من الراحة" ترسم صورة أخرى لهذا المعطي الساعي خلف المحتاجين، وجملة "غطّت الأيدي الأفق تتسابق في العطاء" من خلال الفعلين (غطّت) و(تتسابق) ترسم صورة أخرى للمتأسيين بفعل العطاء، وهي صور مفعمة بالصوت والحركة، جعلت معمار القصة القصيرة جدًا طويلًا بما يكمن فيه من إيحاءات ودلالات، كما أنها أبرزت البُعد النفسي للشخصية أمام المتلقي.
••••
لكي تكتسب القصص القصيرة جدًا في المجموعة صفة القصَر الشديد، حرص (صوانة) على الاقتصاد السردي، بقسميه اللغوي والفني، فاختار المفردة المتوهِّجة المشعَّة القادرة على حمل الكثير من المعاني، المغنية النص عن الكثير من الاستطرادات والشروح، واستغلَّ طاقاتها الصوتية، والمعجمية، في تصوير الأبعاد المادية والاجتماعية والنفسية للشخصيات المبهمة السابحة داخل المتخيَّل القصير جدًا، وتحديد أبعاد المكان، وتوضيح أركان الحدث، وبلورة الفكرة التي يريد توصيلها إلى المتلقي، دون الخوض في التفاصيل.
فمن خلال المفردات المشكِّلة معمار القصة القصيرة جدًا (منجنيق) يستطيع القارئ أن يحدد ملامح مادية ونفسية عامة للشخصية الأولى، فهو شخص قوي البنية (دأب يطرق بمعوله/ يجر منجنيقًا)، صاحب عزيمة وإصرار على تحقيق الحلم (مكث داخل الغابة زمنًا/ ثم عاد مزهوًّا يجر منجنيقًا من صنع يده)، يعاني من أجل حلمه (مع كل طرقة تسقط كسرة صغيرة/ يعود محمّلًا بفتات)، والشخصية الثانية ناصحة أمينة (هوّن عليك/ أنفق على عيالك)، ويستطيع تحديد الزمن (صباحًا/ آخر النهار)، وطوله (دأب يطرق/ بعد أيام/ مكث زمنًا)، ويستطيع تحديد ملامح للمكان (جدار/ غابة).
إنَّ الاختيارات الدقيقة للمفردات المشكِّلة معمار القصة، لم يقف دورها فقط عند تحديد الملامح العامة للشخصيات والمكان والزمان، وجوانب الحدث، بل تعدّى ذلك إلى رسم الصورة المركّبة الحبلى بالصوت والحركة واللون، فمن خلالها يرى القارئ حبّات العرق فوق جبين الشخصية الطارقة الجدار، ويسمع همس زفيرها التحفيزي، ويرى عنف المعول على الجدار، ويسمع صوت ارتطامه به، ويرى تطاير الكسرات الصغيرة هنا وهناك، ويسمع صوت ارتطامها بالأرض.
وهي مفردات لا يؤدي دورها مفردات أخرى بالمعنى المعجمي ذاته؛ فالفعل (يطرق) في جملة (دأب يطرق الجدار بمعوله) لا يمكن أن يحل محله الفعل (يضرب/ يخبط)؛ لأن لتكوينه الحرفي دلالات لا توجد في غيره، ناتجة عن حرف (الطاء) الانفجاري، وحرف (الراء) الترددي، وحرف (القاف) الدال على القوة، و(كسرة) أفضل من (قطعة)؛ لأن حرفي الكاف والسين وقعهما الصوتي أفضل في السياق من وقع حرفي (القاف والطاء) وهي أصوات من خلالها يسمع القارئ صوت الطرقات على الجدار، وصوت الكسرات على الأرض.
والأمر ذاته نراه في (خروج) حيث يبرز البعدان الاجتماعي والنفسي للشخصيتين والمكان من خلال الجمل (إفطار من بقايا العشاء الفائت/ تنظر من خلال نافذة صغيرة نحو الفضاء/ دمعة تجري على خدها بصمت/ ألقى عن ظهره)؛ ففي وحداتها الصغرى تكمن دلالات متعددة تضخِّم أمام المتلقي صورة الفقر الدال على الحالة الاجتماعية للشخصية والمكان، ففي الكلمة (بقايا) المسبوقة بحرف الجر (من) الدال على التبعيض إشارة إلى قلة الطعام المقدم للطفل، وفي كلمة (الفائت)، إشارة إلى عدم الجودة، والتركيز على (نافذة صغيرة) يشير إلى طبيعة المكان وضيقه، والدمعة التي تجري (بصمت)، تفصح عن الحالة النفسية للأم التي لا تمتلك حق التنفيس عمّا في ذاتها، والفعل (ألقى) بقافه الدالة على القوة، يكشف للقارئ الحالة النفسية للطفل، والفعل (حمل) في جملة (حمل سلة القش) يوحي بثقل الأمر على نفس الطفل، وأنَّ الفاقة حمل ثقيل، وهو أفضل في مكانه من الفعل (رفع) الدالّ على المعنى المعجمي نفسه.
ولتحقيق القصر الشديد كهوية للنص تميزه عن غيره من النصوص القصصية، حرص (صوانة) –أيضًا- من خلال الاقتصاد الفني على وحدة موضوع القصة وفكرتها، واكتنازهما، في قصص مجموعته القصيرة جدًا كلها. نلمس ذلك في القصة القصيرة جدًا (كفن) "عندما سقطت قذيفة جديدة.. انتزعوا علم السارية، ليكفّنوا به رضيعًا كان يأوي مع ما تبقى من أسرته بين مقاعد الدراسة"(ص22)، التي تحكي عن معاناة لائذين بمدرسة طلبًا للأمان في أثناء الحرب، لكن قذائف الغدر لاحقتهم، ولم ترحم أطفالهم، وعن اضطرارهم إلى تكفين رضيع مات إثر قذيفة، في علم سارية المدرسة؛ فالحكاية فيها بسيطة وواحدة، والفكرة القابعة داخلها واحدة، هي فكرة التوحش البشري، وما يترتب عليه من فقد للأمان، وضياع للماضي والحاضر والمستقبل.
كما حرص محمد صوانة على وحدة الشخصية، فتقوم قصص مجموعته القصيرة جدًا كلها على أكتاف شخصية رئيسة واحدة تجاورها أحيانًا شخصية أخرى تساعد على نمو الحدث، وهي شخصيات بلا معينات اسميّة، وبلا معينات وصفيّة صريحة من الراوي. يظهر ذلك جليًا في (فزاعة) "نصبت في حقلها فزاعات وألبستها ثيابًا مطرزة.. حامت الطيور في اليوم الأول عاليًا.. بعد أيام.. تجرأت الطيور.. أخذت تقذف الحصى فوقها، وفي ساعة الظهيرة، شوهدت تتفيأ في ظلال فزاعاتها تأكل حبات العنب!!"(ص34).
تقوم القصة على أكتاف شخصية واحدة، هي شخصية المرأة المدافعة عن حقلها/ جسدها من الطيور الطامعة في ثماره بالفزاعات ذات الثياب المطرزة، وهي شخصية بلا اسم، وبلا أوصاف من الراوي تحدد ملامحها الجسدية والنفسية، ترك القاص لعقلية المتلقي استحضارها لترى الشخصية كيفما تريد.
وحرص على قصر الشريط الزمني للحدث، وعلى القفزات الزمنية المغنية الحدث عن التفصيلات التفسيرية الشارحة، والمدخلة المتلقي إلى العالم القصصي لاستكمال الحكاية وفق مخزونة المعرفي.
يتجلى ذلك في القصة القصيرة جدًا (قسمة) "أظلهما سقف واحد بعد شوق.. مضت الأيام والأسابيع والشهور.. سكن بريق عينيها، تقاسما السكون، والتقاط النظرات.. أجهدت نفسها في تعلم فنون الطبخ.. لكن مطبخه، لم يكن قادرًا على إنضاج عجينتها"(ص20)، فالقفز (مضت الأيام والأسابيع والشهور) أغنى الحدث عن الخوض في تفصيلات كثيرة لا تتناسب مع طبيعة الكتابة القصصية القصيرة جدًا، تفصيلات يتوقعها المتلقي في أثناء عملية القراءة، ليستكمل بها أركان الحدث، ويشارك الكاتب في صناعته.
وحرص –أيضًا- على استغلال طاقات التناص، الديني/ القرآني، والتاريخي لتقليص حجم قصصه، كما في قصصه (خيوط منسلة/ مسك/ مراجعة/ مشاركة/ خذلان). تبدأ القصة القصيرة جدًا (خذلان) التي تناقش الضعف العربي والاكتفاء بالصمت المقيت أمام الانتهاكات الكثيرة التي تتعرض لها النساء العربيات في الأرض المحتلة، بـجملة "صرخت وامعتصماه!!"(ص44)، وهي جملة تجعل القصة تتناص مع الحكاية التاريخية الشهيرة التي استغاثت فيها امرأة مسلمة من أهل عمورية بالخليفة المعتصم، فما كان منه إلا أن جيّش الجيوش على الرغم من تحذيرات المنجّمين، وانطلق إلى عمورية ليرد لها كرامتها، فحقق النصر. وهو تناص ساهم في تقليص حجم النص، بمنعه الكاتب من الخوض في صور سردية يقرن بها بين الماضي المشرق والحاضر المظلم، كما أنه يستحضر حكاية كبيرة توازي النص الأصلي، وتتناقض معه بفعل الشخصية الرئيسة التي تقول: "أدرت ظهري خجلًا.. لأنام هربًا"(ص44). وهو تناقض تكمن فيه العديد من الدلالات الراسمة صورة بلا رتوش لوضعنا العربي.
••••
يكتب محمد صوانة القصة القصيرة جدًا بوعي كامل، فهو يعرف جيدًا ركائز بنيتها، وأساسيات التعامل مع هذه الركائز، ويعرف كيف يستغلها في رسم صورة متعددة التأويلات للواقع الذي يعيشه، فجاءت مجموعته (حروف وسنابل) مثالًا للمجموعة القصصية القصيرة جدًا المتميزة، التي يجب الاحتذاء بها.
• الهوامش:
(1) محمد صوانة، حروف وسنابل، مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، السعودية، 2010.
(2) عبدالرحيم كردي، هذه الومضة السردية، مجلة قوافل، عدد29، 1434هـ، ص69.