إسماعيل الموساوي
كاتب وباحث في الفلسفة والعلم من المغرب
يرى أنصار الذكاء الاصطناعي أنَّ الآلات الذكيّة تفكِّر؛ وذلك من خلال قيامها بعمليات حسابيّة معقدة ومجرّدة، بل ويذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يرون أنّ الآلة يمكن أن تكتسب القدرة على الشعور والانفعال، فيما يخالفهم بعض المفكرين هذا الرَّأي، ومنهم الفيلسوف الأميركي "جون سيرل"، فهو يعترض على العديد من المواقف التي تبنَّتها النَّزعة الماديّة في صيغتها المختلفة وعلى رأسها أنصار الذكاء الاصطناعي القوي، ويوظِّف العديد من الحجج لتفنيد آرائهم.
بدأ البحث في مجال ما يسمى اليوم "الذكاء الاصطناعي" Artificail Intelligence في منتصف الخمسينات من القرن الماضي نتيجة الأبحاث التي جاءت بها الثورة المعرفيّة، في عدّة مجالات كعلم النفس وعلم الأعصاب والأنثروبولوجيا وفلسفة العقل وعلم الكمبيوتر، التي حاولت "تجاوز النموذج السلوكي المبسَّط في دراسة العقل والقائم على مجرَّد الرَّبط بين المثير والاستجابة إلى نموذج معرفي يهدف إلى دراسة الميكانيزمات الداخلية لعمل أي نظام لمعالجة المعلومات، سواء كان هذا النظام إنسانيًّا أم آليًّا"(1)؛ لأنَّ السلوكية كما هو متعارف عليها ادَّعت استحالة القيام بدراسة علمية دقيقة للعقل البشري واصفةً إياه بـِ"العلبة السوداء"، فالسلوكيّة كانت تفسِّر السلوكيات البشرية بـِ"الاستناد إلى معيار المثير والاستجابة"(2)، وفشلت في الوقت نفسه في تفسير السلوكيات الأكثر تعقيدًا ودقةً مثل: التفكير المجرَّد والإبداع والقدرة على حل المشاكل المعقدة وأخذ القرار وغيرها(3).
انطلق الذكاء الاصطناعي في البدايات بطموح يسعى جاهدًا إلى فهم الأسس الحاسوبية اللازمة "لإنتاج آلة تسلك على نحو ذكي، فهو يهدف في نهاية المطاف إلى بناء أنظمة تتَّسم بالذكاء والقدرة على التعلُّم"(4)، إلا أنَّ هذا الطموح واجهته مجموعة من التحديات والإشكالات العلمية والفلسفية من قبيل أنه لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصل إلى درجة الذكاء البشري؛ الأمر الذي سيدفعنا إلى طرح الإشكالات التالية التي سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال وهي: هل يمكن للآلة أن تفكر؟ وهل يمكن وصف الآلات بكونها تتصف بذكاء شبيه بالذكاء البشري؟ وما طبيعة الذكاء الآلي؟ هل يصحّ وصف الذكاء الآلي بكونه ذكاءً شبيهًا بالذكاء البشري؟ أم أنّ الذكاء البشري ذكاء مختلف ومتميز ومن نوع آخر؟
• أولًا: هل يمكن أن تتَّسم الآلة بذكاء يشبه الذكاء البشري؟
إنَّ الجواب عن هذا السؤال سيدفعنا حتمًا إلى عقد مقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، ولكن قبل ذلك لا بدّ من توضيح أنَّ هناك اتجاهين داخل مجال الذكاء الاصطناعي، كل واحد منهما له قول في موضوع الذكاء، وأول من اعتمد هذا التقسيم داخل مجال الذكاء الاصطناعي هو الفيلسوف الأميركي "جون سيرل" Searle John في أحد أعماله المعنون بـِ"العقل والمخ والبرامج" الذي نشره عام 1980 ويقسم فيه مجالات الذكاء الاصطناعي إلى قسمين وهما:
الاتجاه الأول: الذكاء الاصطناعي القوي Strong Al
ينطلق هذا الاتجاه من قناعة قوامها أنَّ الآلة هي نفسها تشكِّل عقلًا Mind يتسم بالذكاء(5)، وبالتالي فإنَّ هذا الاتجاه يفترض نوعًا من التماثل بين كيفيّة عمل المخ وعمل الكمبيوتر؛ لأنّ هذا الأخير هو مجرَّد جهاز كمبيوتر في غاية التعقيد، أمّا العقل عندهم فهو مجرّد برنامج، فإذا كانت معالجة المعلومات الآلية في الكمبيوتر تعتمد على كل من المكوِّنات الصلبة Hardware والمكوِّنات الليِّنة أو البرنامج، وعلى هذا الأساس، فإنَّ الشكل البيولوجي للمخ الإنساني هو فقط أحد الأشكال الفيزيقية(6)، ويدافع أيضًا هذا الاتجاه عن رأيه بأنَّ الآلة يمكن أن تكتسب القدرة على الشعور والانفعال، وتنحصر غالبًا أبحاث هذا الاتجاه في الساحل الشرقي للولايات المتحدة في كل من معهد ماساتشوستس للتكنولوحيا وجامعة كارنيغي ميلون(7).
الاتجاه الثاني: الذكاء الاصطناعي الضعيف Weak Al
ينطلق روّاد اتجاه الذكاء الاصطناعي الضعيف من افتراض لا يعتقد من خلاله أنَّ الآلة قد تستطيع أن تمتلك ذكاءً حقيقيًّا، بل يقف عند افتراض أنَّ الآلة قد تتصرَّف بطريقة تتسم بالذكاء(8) إلا أنَّ ذكاء الآلة -بحسب روّاد هذا الاتجاه- محدود بمجال معيَّن، على الرغم من أنَّ روّاد هذا الاتجاه استطاعوا أن يبنوا أجهزة أكثر تطوُّرًا وقدرةً من المخ البشري على تخزين ومعالجة الموضوعات، إلا أنها تظلّ مجرّد آلات وليست عقولًا؛ بمعنى أنها وسائل تُستعمل لتأدية أغراض معيّنة ولكنّها لا تكتسب استقلالًا أو وعيًا ذاتيًّا يمكِّنها من أن تكون صورة إلكترونية للعقل، كما أنّ المخ هو الصورة البيولوجية للعقل(9). وترتكز أبحاث هذا الاتجاه في الساحل الغربي من الولايات المتحدة وخاصة في جامعة ستانفورد.
• ثانيًا: العقل والذكاء البشريين من خلال
حجّة "الغرفة الصينيّة" لـِ"جون سيرل"
- الذكاء البشري ذكاء متميّز:
اعترض الفيلسوف الأميركي "جون سيرل" على العديد من المواقف التي تبنَّتها النَّزعة الماديّة في صيغتها المختلفة"(10) وعلى رأسها أنصار الذكاء الاصطناعي القوي من خلال توظيفه للعديد من الحجج سواء كانت من إبداعاته أو مستوحاة من آخرين، وتعدُّ أشهر حجّة على الإطلاق التي اعترض بها "سيرل" كثيرًا على دعاة الذكاء الصناعي وكذلك على "اختبار ترينغ" Turing الداعي إلى اعتبار الآلات الذكيّة تفكر؛ وذلك من خلال قيامها بعمليات حسابية معقدة ومجرّدة(11)، وأقواها حجّة "الغرفة الصينية the chinese room "(12) ومضمونها(13) يتمثَّل في أنَّ "سيرل" قد تخيَّل نفسه في غرفة موصدة، أمّا اتِّصاله بالعالم الخارجي فهو فقط عبر ثقب صغير. والغرض هو جعله يتعامل مع الفاحصين الموجودين في الخارج. وبما أنَّ التواصل سيتم عبر اللغة الصينيّة والتي ليس "سيرل" من الناطقين بها، فقد زوِّد بكرّاسة تحوي قواعد من شأنها أن تساعده في معالجة الرُّموز الصينيّة. حيث تكون هذه القواعد بمثابة الدليل الذي يجب اتباعه في معالجة الرموز بطريقة صوريّة خالصة. فهو بمثابة برنامج حاسوبي يمكِّنه من الإجابة عن أي سؤال يتلقاه من الخارج عبر الثقب الصغير، لنفترض أنَّ الرموز التي يبعث بها الفاحصون الموجودون بالخارج تسمى "أسئلة"، وأنَّ الرموز التي يبعث بها "سيرل" من الداخل هي "أجوبة عن الأسئلة"، فـ"سيرل" يقرأ الرموز الواردة في الكراسة ويرتِّبها وفق التعليمات الموجودة في البرنامج، وبعدها يقدِّم الرموز المطلوبة والمترجمة كأجوبة. ظاهريًّا نلاحظ أنه يتصرّف وكأنه يفهم اللغة الصينية، لكن واقعيًّا، لا يفهم ولو كلمة واحدة من اللغة الصينية، ولنفترض أنَّ الفاحصين ينقلون له رسائل عبر الثقب الصغير، أحيانًا باللغة الصينية وأحيانًا باللغة الإنجليزية، فـ"سيرل" يجيب بشكل مباشر عن الأسئلة المكتوبة باللغة الإنجليزية، بينما يجد نفسه مضطرًّا للعودة إلى الكراسة عندما يتعلق الأمر بالأسئلة المكتوبة باللغة الصينية، حتى يعيد نسخ الجواب المتعلق بالسؤال. أما بالنسبة للفاحصين الموجودين بالخارج، فالأجوبة التي يتوصلون بها، والمكتوبة باللغة الصينية ملائمة للأسئلة التي طرحوها، حالها حال تلك التي نُقلت إليهم باللغة الإنجليزية. ومع ذلك فإنَّ سيرل يعرف الإنجليزية، في حين لا يعرف ولا كلمة واحدة من اللغة الصينية، وتبقى النتيجة أنه بإمكاننا افتراض أنه اجتاز اختبار ترينغ لفهم اللغة الصينية؛ ومع ذلك فهو لا يفهمها(14).
- ما المستفاد من حجة "الغرفة الصينية" لجون سيرل؟
نستفيد من حجة "الغرفة الصينية" لـ"جون سيرل" أنَّ الشخص الموجود داخل الغرفة الموصدة هو شخص ذكي، وذلك بناءً على الأجوبة التي يجيب بها عن الأسئلة التي يطرحها الفاحصون الموجودون في الخارج، سواء أكانت الإجابة بشكل مباشر كما هي الحال بالنسبة للأسئلة المطروحة باللغة الإنجليزية أم بشكل غير مباشر كما هي الحال بالنسبة للأسئلة المطروحة باللغة الصينية. وعلى أي حال، فإنَّ هذه الحجّة تصوِّر لنا حالة الشخص داخل الغرفة التي لا تختلف عن حالة الحاسوب، وخصوصًا في الشق الأول المتعلق باللغة الصينية، وهو ما يعني -في الوقت نفسه- أنه لا يمكن أن نستنتج من هذا أنَّ قدرة البرنامج على اجتياز اختبار "ترينغ" بنجاح تعني أنه ذكيّ، وأنه كذلك يفهم، أو يمارس الذكاء بطريقة ممارسة الإنسان العادي نفسها، فالآلة، وفق هذه الحجة لا يمكن وصفها بأنها آلة ذكيّة. واستنتاج "سيرل" يقول إنه حتى في حالة وجود آلة قادرة على اجتياز اختبار "ترينغ"، فهذا لا يعني بأي حال أنَّ الآلة ذكيّة أو واعية(15). لأنَّ الذكاء الإنساني ذكاء خلاق ومبدع ولا يمكن للآلة بأيّ حال من الأحوال الوصول إلى درجته.
• الهوامش:
(1) محمد طه، الذكاء الإنساني، اتجاهات معاصرة وقضايا نقدية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 330 آب/أغسطس 2006، الكويت، ص268.
(2) حسان الباهي، الذكاء الاصطناعي وتحديات مجتمع المعرفة، حنكة الآلة أمام حكمة العقل، أفريقيا الشرق،الدار البيضاء، 2012، ص44.
(3) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(4) محمد طه، مرجع سابق، ص268.
(5) المرجع السابق، ص271.
(6) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(7) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(8) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(9) المرجع نفسه، ص271،272.
(10)- Searle john ]1997[, the mystery of consciousness, new york, new york review of book, p:137
(11) للمزيد من الاطلاع في هذا الباب يمكن الرجوع إلى:
Turing Alan.M:]1950[,Computing Machinery and Intelligence, Mind, vol.LIX, No, 236
(12) Searle john]2004[, Mind: A Brief Introduction, oxford university press, p: 89
(13) مضمون هذه الحجة قد سبق أن ضمنته في رسالتي في الماجستير:
إسماعيل الموساوي، الوعي والقصدية في فلسفة جون سيرل، بحث قدم لنيل شهادة الماجستير، في الفلسفة "الفلسفة تاويل وإبداع"، إشراف د.يوسف السيساوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، الموسم الجامعي: 2014/2015.
(14) الباهي حسان، مرجع سابق، ص156(بتصرف).
(15) جيمس تريفل، هل نحن بلا نظير، ترجمة: ليلى الموسوي، سلسة عالم المعرفة، عدد 323 ك2/يناير 2006، ص135.