د. نعمات الطراونة
كاتبة وباحثة أردنية
في موسم الحصاد ترى بيادر القش على قمم التلال، يواكب هذا الموسم تقاليد وطقوس خاصة مثل إقامة عرائش الحصّادين، والسَّمر على صوت الهجيني. في هذا الموسم يُفصَل القمح عن القش، ويرافق ذلك صناعات يدويّة تستفيد من القش الذي يُجبل بالطين، كبناء الطوابين. وفي هذا النص نجد صورة نابضة بالتفاصيل توثِّق لحياة أهل البيادر وللمفردات المُستخدمة والتي تندرج تحت مسمّى التراث غير المادي.
تتربَّع بيادر القّشِّ على قمم التلال المحيطة في قرية "أمِّ حماط" كأنها القباب، فكل عائلة لها تلّة معروفة (تُبَيْدِر) عليها تُعرف باسم: بيادر (عيال علي)، وبيادر (عيال جمعة)، وبيادر (عيال طاعة)، وبيادر (عيال عايد)، ولا ننسى بيادر النوايسة، وكثيرًا ما كانت الجيرة في البيوت تفرض على بعضهم أن يكونوا جيرانًا حتى على البيدر، وتخالط هذه البيادر مجموعة من بيوت الشَّعر الصغيرة التي أعدّتها النسوة خصيصًا لهذه المرحلة ويُطلق عليها عريشة الحصّادين.
تتعالى أصواتهم كل مساء بالهجيني والسَّمر (هبّ الهوا يا ياسين، يا عذاب الدرّاسين، هبّ الهوا يا حنيني، صار الظعن ظعنيني)، ويتبادلون الصّيحات بالدعوة لشرب كأس من الشاي حتى يهدأ الهواء قليلًا: "تعال نشرب كاسة شاي وملحّقين على الشُّغل"، وعلى (ضو القمرا) تلمح عصا مِذرَاة الشايب عبدالله وهو يَشْرَع الطِّيَّاب(1) في الفضاء ليفصل التبن عن القمح، واضعًا العَوَاذِيل(2)، وحوله شبح عمّي يَمْرَح(3) على العُرْمَة(4) بمكنسة من السِّيخ(5) رَبَصَتها أمي تحت حجر كبير مدّة يومين.
تدير أمي الطابون؛ لأنَّ مستلزماته متوافرة، جدّتي: "خلّي الظل يطفح شرق العريشة عشان نعجن الطينة، يا بنيتي هاتِ شوية تبن أو فَاروح(6) خلينا نخلطها مع الطينة، لا تنسي تجيبي التراب من تراب الخلند من الحَدِّ، منخَّل جاهز"، وما هي إلا لحظات حتى أحضر التبن من البيدر، وتحضر أمّي التراب، تُنزل عمّتي قلنات الماء من فوق الحمار بعد أن وردت على البئر الكبيرة، وبخفّة يد الحاذق الماهر في صناعته تعجن جدّتي الطين وتدير الطوف الأول من الطابون وتتركه ليجفّ قبل أن تشرع في بناء الطوف الثاني عليه، وتغطي بقية الطين حتى تختمر، وتستمرّ العملية قرابة ثلاثة أيام حتى تدير بابه وهو الطوف الأخير، وقد أخذتُ قليلًا من الطين لأعمل كما تعمل جدّتي، فأنا التلميذ البارع في التقليد، لكنها تنتهرني: " اقعدي يا بنت لا تخرّبي الطينة، حبر فضية المعانية(7)".
أنهت جدّتي عمل الطابون في الفترة التي أعدّ بها عمّي وأمّي مكانًا له في (القعير)(8) الذي يقع شرق البيادر، ووضعت فيه (الرِّضاف) الذي جمعناه من جانب الشارع الوحيد الذي يخترق قريتنا، ثم لفَّتْه ببعض مخلّفات الأغنام والعُقدَة والتبن ودثّرته ببقايا النار التي جهّزتها مسبقًا وتركته يَهجِم حتى اليوم الثاني، لتعيد مرَّة أخرى تزبيله ليحمى أكثر لتباشر الخبز به في المساء أو اليوم الثاني، ويعلو صوتها منادية "أم صبحا": "هاتِ كان لبناتك عجينة، بعد في الطابون حَمّ"..
يقع غربي بيدرنا بيدر خال والدي سالم رحمه الله، بجانبه خيمة أبي جعفر التي كان يبيع بها لأصحاب البيادر بعض القسماط والكعكبان والعلكة (حارّة الطعم لأنّها ممزوجة بالقرفة) وحلو أبو ردين، وبعض الأسبرين الأحمر الذي كانت تستخدمه أمي لإخوتي عندما كانت ترتفع درجة حرارة أحدهم، وزجاجات زيت الخروع، وكثيرًا ما كان الثمن هو القمح، فخالي سالم عندما أرسلتني جدّتي لأشتري لها علكة ناداني وأعطاني (شَرِيَّة)(9)، وقد كان يكيل له في العُرمَة الحاج سليمان رحمه الله، وكانت العمة مريم رحمها الله تُخيط شوالات القمح بالمِخَاط وخيط المصّيص، والحاج سليمان يتمتم بكلمات يعدّ بها عدد النُّصمِد (نُصّ-مِدّ): "الله واحد ماله ثاني، اثنين... يا موفّي الدَّين، ثلاثة... يا الله الثبات، أربعة... تربح من الله، خمسة... فرض النبي خمسة، ستة... سترك يا الله، سبعة... سمحة، ثمانية... يا الله الأمانة، تسعة... تسعد من الله، عشرة... عشرة رسول الله.... وقد حلّت البركة بكومة كبيرة من شوالات القمح أبو خط أحمر.
من الخارج صوت يوسف مناديًا: " يا حجّة.... يا أم عوض، ودِّي حماركم أحطه (رَابُوط)(10) ودِّي أدرس هالكرسنّة قبل ما يوكلها الحلال"، جدتي من (فَهَق)(11) العريشة: "خذه يا خَيِّ بس يمكن نحتاجه الظُّهر (العيِّل) يودِّي زاد للراعي عليه"، "والله يا حجه لَمِّيت الحمير وطلبت موسى حمارهم عشان أربطه (دّايُور)(12) وما أعطاني، غير أخذت حمار عطالله".
يأخذ الحمار وما هي إلا لحظات حتى تسمع صوته يعلو مرَّة أخرى في السِّباب والشَّتم على الحمير: "حِرْ ول، يا مَالا أبو اطْحيّل".... يمازحه جاره أبومحمد وهو يقلب الطيّاب بالمربَّع بعد أن دَرَسه لهم أبي على (النّوْرَج) خلف التراكتور الذي كُنَّا نتسابق للجلوس عليه على الرّغم من صرير صوته المزعج، "أبو اطحيّل يطحَلك، اشتغل وأنت (مِنْطَم)(13)، (صَوَرْت)(14) رُوسنا".
قبل شروق الشمس، يربط حميره في وتد حبل العريشة لِرُفَّة البيت اليسرى، ويتنحنح: "أبوحاتم"، أبي: "فوت جاي"، أرفع رأسي من المنام، وربما شاركني في الحركة بعض إخوتي لنرى ذاك القادم من عراق الكرك يحمل (سَحَاحِير) الخشب (الِحْمُول)، يضعها على الأرض بمساعدة عمّي، وما هي إلا لحظات حتى تملأ رائحة أعواد الحَبق والرّيحَان التي يُغلف بها الرجل محتوى السَّحاحِير أرجاء المكان، وتتغلغل في فتحات أنوفنا لتنعش الصدور بشذاها.
تدخل أمّي وبيدها (جُونَة الخبز) التي صنعتها جدتي من قَصَل قمح الموسم الماضي، جدّتي أعدّت إبريق الشاي على النار، تتناول أمّي صحن ألمنيوم وتسرع نحو سقاء اللبن فتفتحه وتصبّ بعضًا من الرايب فيه وتربطه من جديد، وتضع من النصيّة ملعقة كبيرة من السمن في صحن آخر، فيتناولهما عمّي ويضعهما أمام الضّيف مع بعض أرغفة خبز الطابون الذهبيّة.
ها هم أهل البيادر من كل حدب وصوب ينسلون تجاه عريشتنا، منهم مَن يحمل صحنًا كبيرًا، وآخر يحمل نُصْمُد، وثالثة تحمل حقيبة، ورابع لا يحمل شيئا ولكنه يعتمد على (شَلِيْل ﮔِبْره)(15) ليحمل به ما يشتريه، وما هي إلا لحظات حتى يتفرّق الجميع بعد أن شربوا الشاي عائدين، وقد وتواعدوا على موعد آخر لحضور التاجر، ببعض حبّات البندورة، وكميّة من العنب، وحبات فقوس أخالها لضخماتها أنّ الحبة الواحدة تكفي لعائلة كبيرة، وقد كان أبي حريصًا وهو يُوزِّن للجميع ألا تكون الكمية بناء على طلبهم وإنّما على حسب أفراد أسرهم حتى تكفي البضاعة للجميع، ثم ينصرف ضيفنا بعد أن تناول طعامه الذي غالبًا ما يكون ديكًا بلديًّا من فرخ هذا العام أعدّته له أمي في الطابون مع آخر ديْرَة خبز.
(1) يشرع الطياب: يذري التبن ليفصله عن الحب.
(2) العواذيل: (حجارة توضع بين العُرمَة والتبن ليربو بعدها التبن).
(3) يمرح: يُزيل الأعواد الخشنة (عقد القش) بواسطة شجيرة صغيرة.
(4) العرمة: كومة القمح المصفى من التبن.
(5) السّيخ: نبات شوكي كان يُستخدم لتنظيف الأرض(كنسها).
(6) الفاروح: التبن الناعم الذي يتطاير بعيدا عند عملية فصل التبن عن الحَبّ.
(7) حبر فضية المعانية: دعوة بالمرض.
(8) القعير: حفرة واسعة في الأرض.
(9) شريّة: كميّة من القمح تُعطى للأطفال للشراء بها.
(10) الرابوط: حمار يُربط على الطرف.
(11) فهق: الفتحة في رواق البيت بين خلالين.
(12) دايور: حمار يُربط على الطرف، والرابوط والدايور ينظمان حركة الحمير أثناء عملية درس القش.
(13) منطم: ساكت.
(14) صَوَرت: أوجعت رؤوسنا بصوتك العالي.
(15) شليل ﮔبره: طرف ثوبه.