محمد سلام جميعان
شاعر وناقد أردني
ثقافة عربيّة
الانتحار في الأدب العربي/ د. خليل الشيخ
عبر نافذتين نصّيتين يقف المؤلف على ظاهرة الانتحار كما تتجلى في الأدب العربي قديمه وحديثه، مقرًّا بأن عملية الانتحار عملية معقدة ومركّبة، لكنه لا يأبه بتعقيداتها السيكولوجية، فيمضي في استقرائها بالمزاوجة بين الأعمال الأدبية والوقائع الحياتية للأدباء المنتحرين. ويقف في النافذة النقدية الثانية عند تجارب روائية لثلاثة روائيين (نجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وجمال الغيطاني) رابطًا بين تجاربهم الروائية وسيرهم الذاتية، فتتكشف لدى القارئ من خلال المتن النقدي ملامح شخصياتهم طفولةً وشبابًا وكهولة.
ومن وجهة نظر المؤلف، يشكل الخوف من الوقوع في يد العدو، والأزمات الفردية عنصرين مركزيين يعيد لهما دوافع الانتحار في الأدب القديم. ثم ينتقل لسبر دوافع الانتحار لدى الأدباء (أحمد العاصي، وإسماعيل أدهم، وفخري أبوالسعود، وعبدالباسط الصوفي، وتيسير سبول، وخليل حاوي).
وعلى الرغم من التعليلات المتباينة التي فسّر بها دوافع انتحار كل واحد من هؤلاء، إلا أنّ التحليل يثير كثيرًا من الأسئلة التي ستظل بلا أجوبة، فحتى اللحظة لم يستطع أحد مهما حاول تقديم تفسير لذلك الجبروت الخارق أو تلك القوة الاستثنائية التي تدفع المرء للإقدام على وضع حد لحياته، فالموت بحد ذاته أمر مفزع، فكيف إذا كان عن طريق الانتحار؟
وتبدو المساحة المخصصة لانتحار خليل حاوي وتيسير سبول خالية من مرجعيات تفسير انتحار الآخرين، فهي تحمل اجتهادًا خاصًا بالمؤلف. وكم كنت أتمنى على هذه الدراسة العميقة في تحليلاتها ورؤاها النقدية لو أنها أفردت مكانًا لمسوّغ القلق الميتافيزيقي وعلاقته بانتحار الأدباء.
شهقة اليائسين.. الانتحار في العالم العربي/ ياسر ثابت
يكشف هذا الكتاب بالحقائق والأرقام مدى تفشي الفعل الانتحاري وعلاقته بأزمة مجتمعاتنا العربية، مما يتطلب تجاوز الشعور بالسوء لإحساس بالأسف، لأن من يقدمون على الانتحار هم ذوات إنسانية تجمعنا بهم العلاقة القرابية الأسرية/ والمواطنة المجتمعية كذلك.
ويرى المؤلف أن الانتحار ينجم عادة، عن كون المنتحر ترك نفسه ليحشر في فخ، حتى يبدو الانتحار بالنسبة للمنتحر حلًا أو مهربـًا، سواء من الإخفاق أو العزلة أو الأزمات النفسية والجسمية والمالية، التي يجد الفرد أنه عجز عن مواجهتها أو التكيف معها. لكن النتيجة واحدة: وهي الموت. والباعثان الأشد خطورة هما الإحساس بفقدان الأمل والشعور بقلة الحيلة، كما يوضِّح المؤلف. وربما اجتمع الأمران؛ فتتهاوى قلاع الثبات ويستسلم المرء لفكرة الإفناء الإرادي للذات.
يسرد المؤلف تفاصيل عن قرارات الانتحار لدى عدد من المبدعين في العالم، وكون الانتحار رسالتهم الأخيرة، في الردّ على حياة لم تعُد محتملة.
ويرى "ثابت" أنَّ الأزمات الاقتصادية الخانقة، والتضييق السياسي على المشاركة في الممارسة الديمقراطية، وغياب ملامح العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في العالم العربي، هي دوافع وأسباب، حيث يلوح الانتحار في الأفق بالنسبة إلى مَن يشعرون بالقلق والجزع، وينشدون الخلاص أو يريدون التعبير عن رفضهم لواقعهم الأليم. ويقدِّم المؤلف صورة عميقة وتاريخية لحالات ومعدلات الانتحار في الدول العربية، ويتتبّعها دولة بدولة، مع استعراض نماذج لحالات الانتحار التي هزت تلك المجتمعات العربية، في الماضي والحاضر. ويعرّج المؤلف على تاريخ مصر راصدًا حالات انتحار في عصر محمد علي باشا.
ويوضِّح "ثابت" العلاقة بين الوضع الطبقي والانتحار، وخاصة الطبقة الفقيرة، الأكثر تعرضـًا من غيرها، لآثار أزمة الكساد العالمي التي كانت لها تداعياتها على مصر، ويحلل أرقام حوادث الانتحار. وينتقل المؤلف إلى نموذج لافت في الانتحار، يتمثل في حالة التونسي محمد بوعزيزي. ويتتبع حالات الانتحار المستمرة بعد يناير 2011، ويكشف عن بواعث اليأس.
إضاءات على إبداعات كميل أبو حنيش/ رائد الحواري
ما زال أدب المعتقلات والسجون سجين النقد والنقّاد، ولم يحظ بالإضاءة الكافية التي تخلّص المناضل من وصمة الإرهاب، وتجلّي خصوبة حمولته المعرفية الممزوجة بالوجع الحادّ الذي يُغالب قضبان القهر والاستبداد في سبيل تحقيق كينونة الذات وتاريخية المواطنة في جذور وطن مصلوب.
في هذا السياق التفت الأديب رائد الحواري إلى تجربة الكاتب كميل أبوحنيش المثقف والمتنور والطليعي، فجاس فيها عتمة السجن، واستجلي فكره في مساراته الروائية والشعرية والمقالية، كاشفًا عن البنى الفنية والعتبات النصيّة التي تشكِّل مفاتيح للوجع الصارخ، مؤكدًا (أنّ وجود هذا الكم والنوعية من الأدباء والكتاب في سجون الاحتلال، يُعدُّ ظاهرة فريدة على مستوى العالم، فعدد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في سجون الاحتلال في تزايد وارتفاع مطرد، وهذا يستدعي أن يتقدّم الغرب المتباهي بمفاهيم العدالة والإنسانية، ويتوقف عن وصف نضالنا بالإرهاب، ومناضلينا بالإرهابيين، وعليه أن يعدّل سلوكه ورؤيته بحيث تخدم فكرة العدالة والحرية والإنسانية التي ينادي بها وتنسجم معها).
ويرى الحواري أنّ رواية "الكبسولة" من أهم الروايات التي كُتبت في فلسطين على مدار عقد كامل، ورواية "مريم ميريام" فيها فكر يوازي عشرات المجلّدات. ففي هذه الدراسة تناول حواري ثلاث روايات للأسير حنيش، هي: "وجع بلا قرار"، "الكبسولة"، "مريم ميريام"، وسبع قصائد هي: "قلم يكتبك"، "فتاة البرتقال"، "عمت صباحًا"، "مملكة الحزن"، "لعلي أعود إليها"، "سر الشفاء من الحنين"، "صفا فؤادي"، "نجم شحيح الضوء"، وهناك خمس رسائل، هي: "كعك العيد"، "الأبواب الزرقاء"، "لقد صرت أبًا"، "القرص المربّع"، "الانتظار الجميل".
ولعلّ هذه الدراسة تفتح أفقًا أمام النقّاد للالتفات إلى أدب السجون والمعتقلات.
ثقافة عالمية
الانتحار/ إميل دوركايم، ترجمة: حسين عودة
السؤال الأول الذي يتبادر لذهن القارئ هو كيف يفسّر "دوركايم"، بوصفه عالم اجتماع، ظاهرة الانتحار هل يرجعها إلى ما هو سيكولوجي؟ أم إلى ما هو كوني طبيعي؟ أم إلى محدّدات عرقية وإثنية؟ أم إلى معطيات طبيعية كالطقس وتغيُّراته؟ أم إلى أسباب اقتصادية وصناعية؟ أم إلى اعتبارات اجتماعية مرتبطة بالهشاشة والفقر والعوز؟ أم إلى تفكُّك الرابطة الأسرية والعائلية بشكل أوسع؟ أم إلى تراجع دور الدين في تأطير المجتمع؟ أم إلى وجود تحولات سوسيوثقافية وسوسيواقتصادية، هي التي دفعت بالظاهرة نحو البروز بشكل لافت للنظر في أواخر القرن 19؟
يجيب "دوركايم" عن كل هذه الأسئلة، ويقف في كتابه على أنواع الانتحار وتفسيراتها، ومداخلها المقترحة للخروج من معضلة الانتحار الكونية.
يتمفصل الكتاب في ثلاثة أبواب، يوضِّح فيه المؤلف معنى الانتحار من خلال الوقوف عند الأسباب اللااجتماعية، ويتحدّث عن (الانتحار والحالات السيكولوجية)، و(الانتحار والحالات السيكولوجية السوية)، و(الانتحار والعوامل الكونية)، و(الانتحار والمحاكاة). ويقف المؤلف على أشكال الانتحار، من مثل: الانتحار الأناني، والانتحار الغيري، والانتحار الفوضوي، والأشكال الفردية لمختلف نماذج الانتحار. ثم يقترح حلولًا للخروج من معضلة الانتحار. ولعله بهذا الطرح، يفتح آفاقًا جديدة في التعامل مع الظاهرة التي تقع على أرضية مشتركة بين العديد من التخصصات العلمية.
ولا يمكن لك أن تقرأ كتاب "الانتحار" دون الانتباه إلى حقيقة منهجه السوسيولوجي، بمعنى: (لا يمكن فهم الاجتماعي إلا بما هو لااجتماعي)، وفي هذا الصدد، يؤكد "دوركايم": (لا بد لنا من الاتفاق، أنّه إذا كان للسوسيولوجيا من وجود، فلا يمكنها إلا أن تكون دراسة عالم ما يزال مجهولًا، ومختلفًا عن العوالم التي تتحرّاها العلوم الأخرى. وعليه فإنّ هذا العالم ليس شيئًا إن لم يكن نظامًا من الحقائق الواقعيّة).