وفيقة مصري
كاتبة أردنية مقيمة في تونس
إنَّ رؤية هلسا المستمَدّة من اغترابه واتساع أفقه الجغرافي وإصراره على الاحتفاظ بالرؤية البريئة والعفوية لذكرياته في القرية، كلها عوامل تجتمع لتشكّل وعيه الطِّباقي الثاقب الذي يوظّفه في أعماله الأدبيّة، فهو في "وديع والقديسة ميلادة وآخرون"، وفي"زنوج وبدو وفلاحون" يُنشىء عالمًا سرديًّا قائمًا على طبقات اجتماعية موجودة في تاريخ المجتمع الأردني وهي طبقات البدو والفلاحين والزنوج، بالإضافة إلى طبقة النساء والتي تقصّد هلسا أن تظهر هامشيّة أمام الطبقات الأخرى.
كانت القصة القصيرة بوّابة الكاتب الأردني الراحل غالب هلسا إلى عالم الكتابة قبل أن يوجّه اهتمامه إلى الرواية، وقد ولجها سرًّا، بعيدًا عن أعين القراء والنقّاد ودون رغبة في نشر ما كتب لسنوات طويلة. أنجز مجموعته القصصية الأولى "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" بعد أن انتقل إلى مصر عام 1955 ولم تنشر حتى عام 1968، وكذلك لم تنشر مجموعته القصصية الثانية والأخيرة "زنوج وبدو وفلاحون" في طبعتها الأولى حتى عام 1976، على الرغم من أنَّ هلسا كان قد فرغ منها عام 1957. وعلى الرغم من إرجائه للكشف عن ذاته والذي كان بمرتبة الفضيحة بالنسبة له(1) كما ذكر في حوار أجراه معه القاص الأردني يوسف ضمرة، إلّا أنّ أعماله الأدبية لم تكشف عن ذات أصيلة حسب، بل أظهرت براعة تلك الخيوط الصغيرة الملوّنة التي نُسج منها عالمه السردي عاكسًا بذلك تركيب المجتمع على اختلاف طبقاته وفئاته واعتقاداته.
كتب هلسا مجموعتيه القصصيتين أثناء إقامته في مصر؛ ممّا يعلّل التوظيف المكاني واللغوي (استخدام اللهجة المصرية في حوار الشخصيات) في معظم القصص، ولكن قريته (ماعين) أبت إلا أن تظهر في ثلاث من قصص المجموعتين وهي: "البشعة" و"وديع والقديسة ميلادة وآخرون" من المجموعة الأولى، و"زنوج وبدو وفلاحون" من المجموعة الثانية كاشفة عن بدايات نزعة الاغتراب لديه، والتي اقتضت أن ينفصل بموجبها عن بيئته ليراقب عن بعد بعينيه الثاقبتين ووعيه الحاد تركيب المجتمع وتفاعل عناصره مع بعضها بعضًا. وعليه، يرى الناظر إلى أعمال هلسا الأدبية وحياته، مثقفًا قلقًا، وسياسيًا منخرطًا في القضايا العربية، وفي اغترابه الدائم عن ذاته ووطنه، أنه قد حمل مهمة المثقف المنفي التي وصفها إدوارد سعيد في كتابه (تأملات حول المنفى) عام 2000: "وفي حين لا يعرف معظم الناس سوى ثقافة واحدة، وخلفية واحدة، ووطن واحد؛ فإنَّ المنفيين يعرفون اثنين على الأقل، وتعدُّدية الرؤية هذه تولِّد وعيًا بالأبعاد المتزامنة، وعيًا هو وعي طِباقيّ*، كما يُقال في لغة الموسيقى"(2).
استطاع هلسا المنفي أن يوظِّف وعيه الطِّباقي بالكتابة؛ فلا هو مقيم في قريته وبين أهله، ولا هو واحد من أهل البلد الذي عاش فيه مغتربًا حتى ولو شعر بذلك. وعليه فإنَّ تعددية الرؤية التي تحدَّث عنها سعيد تظهر جليّة في أعمال هلسا من خلال مزجه لذكرياته الخاصة عن القرية مع تصوُّره الناضج وهو المُبعد عنها والمغترب في مصر آنذاك. النتيجة إذن قصص غنية باللهجات وبالعادات والتقاليد الأردنية والمصرية، تتقاطع فيها طبقات متباينة من المجتمع.
ومع ذلك لم يكن هلسا قد توصَّل إلى وعيه الطِّباقي بشكله النهائي في أول قصة أنجزها قبل أن يبلغ العشرين، ممّا يفسِّر اختلاف رؤيتها السردية عمّا تلاها. ففي (وديع والقديسة ميلادة وآخرون) -والتي اعتبرها هلسا رواية قصيرة (نوفيلا)- يأخذنا هلسا إلى براءة القرية وبساطتها المستحبّة، فيكشف لنا بتلقائيّة السرد وعفويّته مجتمعًا من الأقليّات المنسيّة في قرية ماعين الأردنية الواقعة جنوب عمّان. يخرج أهل القرية بما فيهم الطفل المتعلم (وديع) في زيارة إلى مدينة عمّان آملين بالتبرُّك والشفاء على يد القديسة الصغيرة ميلادة والتي يدّعي أهلها أنها رأت مريم العذراء في أحد الكهوف، وأنَّ ما من أحد إلا وشفي على يدها.
وعلى الرّغم من أنّ القصة تعالج موضوع الطبقية من خلال التركيز على سذاجة أهل القرية وتعالي أهل المدينة عليهم واستغلال بساطتهم، إلا أنها في الوقت ذاته تصوّر خيبة أمل القرويين ممّا تخيلوه عن المدينة، بالإضافة إلى خيبتهم الكبرى في الحصول على مسعاهم في النهاية؛ "قال وديع بلهجة تحمل معنى الاستنكار: هذه هيه البلد؟… أضاف باحتجاج: أي هذه قريتنا أحسن منها يمّه!"(3).
يتطرَّق هلسا أيضًا إلى الفرق بين طبقة القرويين غير المتعلمين وطبقة المدنيين المتعلمين الذين لا يصدقون حكاية/ خرافة القديسة ميلادة، فالطبيب إلياس يسخر من أهل القرية واستعانتهم بالقديسة بدلًا من الطب، فيعلّق أحد القرويين: "لكن إنتو المتعلمين مش مصدقين حكاية القديسة.."(4). يشكِّل التعليم فارقًا واضحًا بين أهل القرية والمدينة، لكنه كذلك يظهر بشكل أدقّ بين القرويين أنفسهم، إذ يركّز هلسا نظرته في الجزء الأول من القصة على أهل القرية مفصحًا عن تلك الفروقات الدقيقة بينهم على الرغم من تشابههم. فمثلًا في بداية القصة يصف هلسا الرجال على أنهم كتلة واحدة متداخلة باستثناء الصبي المتعلم "وديع" الذي يبدو مختلفًا عنهم: "الرجال بلا تفاصيل والملامح متداخلة يضيِّعها اللون القاتم الذي يحط على الدار، وظلالهم طويلة عملاقة. الصوت الوحيد كان صوت وديع الصغير يقرأ –يزعق- الجريدة. عندما يتوقف وديع عن القراءة كانت الأصوات تتدفق مختلطة، زاعقة مبتهلة، معترضة- مجرَّد ضجّة"(5).
هناك "وديع" وهناك (الآخرون) الذين لا ملامح ولا هوية ظاهرة لهم. يميّز هلسا اسم "وديع" في عنوان القصة كما يميّزه في بقية السرد، فهو "وديع" المتعلّم الذي يقرأ الجريدة في وسط اللغط والضجة. ونرى "وديع" يحظى بمعاملة خاصة وهو يصوّب أخطاء مَن هم أكبر منه سنًّا: "البروتست، إيش البروتست هذه؟ قولي بروتستانت. ردَّت الأم: وأنا يبنيّ مثلك بقرا في المدارس وفي الصف الرابع؟"، تدرك الأم أفضليّة ابنها عليها وعلى ابنتها أيضًا التي تحاول مضايقته، فتقول الأم لوديع مواسية: "تحط عقلك في عقلها يا ابني وأنت شاب متعلم… ما هي مجنونة وجاهلة". ومن هنا، يسلِّط هلسا الضوء على الطبقة غير المتعلمة في القرية وعلى وضع المرأة/ البنت خصوصًا والتي يتقاطع جهلها مع وضعها البائس في مجتمع تقليدي، فتضحي ببساطة الأقل بين الأقليات.
في قصة (زنوج وبدو وفلاحون) والتي كتبها بعد سنة واحدة من قصته الأولى، يوظف هلسا تقنية الراوي العالِم مرة أخرى، إلا أنَّ وعيه بوظيفة السرد يمسي أكثر عمقًا، ليتخذ منحنى آخر هذه المرة؛ وبدلًا من الوظيفة الوصفية التي استخدمها مسبقًا، يلجأ هلسا إلى الوظيفة التأصيلية التي يسعى من خلالها إلى تأصيل طبقات المجتمع الأردني وتناولها في سياق تاريخي وثقافي في آن، متأثرًا بذلك في قراءته لـِ"فوكنر" كما يقول: ".. كنتُ قد قرأت بعض أعمال (فوكنر). أدركتُ آنذاك، بشكل غامض، أنَّ عليّ حتى أكتب عن القرية أن أستعيد إحساسي الأصيل بها، وأن أتخلى عن تلك النظرة الوضعيّة التي غرسَتْها فيّ المدينة. إنَّ عالم الزنوج والبدو والفلاحين لا يُرى كقطاع عرضي مبتوت الجذور بماضيه ومفاهيمه الخاصة. إنّ تلك اللحظة الوضعيّة لقطاع عرضي هي لحظة موضوعة في سياق تاريخي، في التاريخ الذي لا يتكشّف بكل أبعاده إلا لمن يعيش في داخله"(6). ومن هنا تتَّضح ممّا قاله هلسا الرُّؤية التعدديّة التي وصفها سعيد، تلك التي تولّد وعيًا طِباقيًّا بالأبعاد المتزامنة؛ الأبعاد ذاتها التي ارتأى هلسا ضرورتها للكتابة عن القرية مستعيدًا أصالته وجذوره فيها. وبناء على ذلك، يُنشىء هلسا عالمًا سرديًّا قائمًا على طبقات اجتماعية موجودة في تاريخ المجتمع الأردني وهي طبقات البدو والفلاحين والزنوج (أو العبيد كما يلقِّبهم شخصيات القصة)، بالإضافة إلى طبقة النساء والتي تقصّد هلسا أن تظهر هامشية أمام الطبقات الأخرى، في مفارقة تجعل المرأة سببًا من أسباب تصاعد الأحداث في نهاية القصة.
يفتتح هلسا السرد بفصل يحمل عنوان "جون باجوت غلوب"؛ الضابط البريطاني المعروف بقيادته للجيش العربي الأردني بين عامي 1939- 1956 وقوات حرس البادية. وعلى الرغم من أنَّ "غلوب" هو عنصر خارجي على المجتمع البدوي، إلا أنَّ هلسا يوظف وجوده كشخصية تاريخية في نسيج الحياة الاجتماعية للبادية الأردنية ممّا يضفي على السرد أبعادًا أخرى كالتي تحدَّث عنها هلسا مسبقًا. بداية يستعرض هلسا طبقة البدو عبر الضابط "غلوب"، فهم يلقبونه (بالصاحب)، وهو يدّعي أنه بمعاشرته لهم صار واحدًا منهم، على الرغم من نظرات (السخرية والاشمئزاز) التي يوجِّهونها له. إنه ببساطة دخيل عليهم، ولا يرقى لمنزلتهم على الرغم من السلطة التي يتمتع بها، فهم يرون أنفسهم في أعلى السّلم الطبقي: "الخيام المستطيلة المتجاورة تمتد من الشمال إلى الجنوب بخط شبه مستقيم، خيام سوداء مصنوعة من شعر الماعز يسكنها أفراد القبيلة، وأخرى صغيرة الحجم للزنوج والفلاحين وصنّاع الأدوات المنزلية والأسلحة، وهذه مصنوعة من الخيش أو شعر الجِمال"(7).
وكما يصوّر هلسا بساطة عالم القرية وعفويّته في قصته الأولى، ينتقل في قصته الثانية لتصوير تفاصيل حياة البدو وتركيب القبيلة عبر تخيّل مساكنهم وشؤونهم اليومية والقضايا التي يتنازعون بسببها. ومن طباق القرية/ المدينة إلى طباق البادية/ المدينة، يعود هلسا لينتقد المدينة وأهلها، من منظور البدوية "سلمى"، التي يطلب منها "علي" الزواج والانتقال إلى عمّان: "تراءت عمّان لسلمى بيوتًا حجرية، تنتشر على مسافة شاسعة جدًا لا ترى العين نهايتها. أهلها ذوو وجوه حمراء مضحكة كوجه الصاحب، يتكلمون بلهجة بدوية مضحكة، ينادي أحدهم الآخر باسم الصاحب.. غشاها إحساس بالاختناق وراء الأبواب المغلقة. قالت لنفسها: كيف يتعرفون على بعضهم إذن؟"(8)، إنَّ نظرة "سلمى" البدوية للمدينة وبيوتها الحجرية وأبوابها المغلقة تتنافى مع ما تألفه من اتساع الصحراء وانفتاح أهلها على بعضهم، وأمّا تصوُّرها عن لهجة أهل المدينة ومظهرهم الذي يشبه مظهر (الصاحب)؛ أي الضابط "غلوب"، واستفسارها عن طريقة تعارف الناس بعضهم على بعض، يُظهر المدينة تقليدًا ممسوخًا للأصل؛ وهو البادية من وجهة نظر البدو.
يعكس هلسا وضع الطبقات الاجتماعية الأخرى في البادية، كاشفًا عن تزمُّت البدو وتعصّبهم لأصولهم واستعبادهم لمن هم دونهم من الفلاحين والعبيد والنساء على حد سواء. كما تكشف القصص عن بوادر وعي هلسا الطَّبقي، والذي تشكّل من وحي البيئة الريفية، وتبلور فيما بعد من خلال فكره الماركسي، وبذلك فإنَّ الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها كانت عاملًا أساسيًا في تشكيل وعيه اللاحق بالذات وبالآخرين. وبشكل جريء يسعى هلسا إلى تأصيل العنصرية والاستعباد في تاريخ المجتمع الأردني من خلال القصة، فيصور لنا الشيخ البدوي وهو يقود الزنوج ويضربهم بالسوط، بينما يستجيب الزنوج طوعًا لأوامره. وبينما يبدو وعي الشخصيات بطبقاتهم وأدوارهم الاجتماعية واضحًا صريحًا؛ إذ يتصرّف كل منهم تبعًا لأصله والطبقة التي ينتمي إليها، يحدث أن يشذُّ أفراد منهم عن القاعدة، ممّا يدفع مَن حولهم للتساؤل والاستنكار ويعرّضهم للمساءلة والحساب فيما بعد. يقول "طافش" البدوي أحد شخصيات القصة مستنكرًا ما حدث من شذوذ: "العبد ذبح شيخ، والفلاح ذبح سحلول. عمرها ما انسمعت. ما ظلّ غير النسوان"(9). تمثّل هذه العبارة تلخيصًا شاملًا للنظام الطبقي من منظور البدوي، فهو يرى نفسه في رأس السلّم وأسفل منه يجيء الفلاحون والزنوج، أمّا (النسوان) فيستنكر عليهن الإتيان بأي فعل يُذكر، واضعًا إيّاهن في أسفل الطبقات.
يركّز هلسا على سؤال الأصل والجذور ضمن السياق الطَّبقي كمبرّر منطقي يرى فيه الفرد أحقيّة العيش والتصرُّف والكلام تبعًا لنمط ما، فنرى "سحلول" البدوي يستنكر على الفلاح تقليده للبدو وإطالته لجدائله: "أشوفك مربّي جدايل، ما قلت والله إنك بدوي وانت فلاح مقطوع الأصل"، فيردّ الفلاح مدافعًا: "كل بني آدم وله أصل، ما حدا مقطوع من شجرة. الفلاح له أصل. والبدوي له أصل. والعبد له أصل. كل الناس إلها أصل"(10). ادِّعاء الأصل والافتخار به يثير غضب البدوي ويدفعه لقتل الفلاح بدم بارد، مرسّخًا اعتقاده بأفضليّة البدو على مَن سواهم.
إنَّ وعي هلسا الطّباقي في القصة بارز من خلال تناوله للسرد من عدة أبعاد؛ إذ لا تقتصر رؤيته على الصراع الطَّبقي القائم بين طبقتي البدو والفلاحين، ولا يغفل عن التعمُّق في الطبقات الأخرى ليظهر تناقضاتها وصراعاتها الداخلية. ففي آخر جزء من القصة، يركز هلسا على الصراع القائم بين "سحلول" البدوي و"زيدان" الفلاح (اقتحم الأوّل سكن الثاني، وطلب بجرأة ووقاحة من زوجته أن تغسله بالماء وهو عارٍ أمامها)، ومن جهة أخرى يأخذنا إلى عالم الفلاح الداخلي وصراعه مع مبادئه وتناقضاته الشخصية التي تجعله يتفاوض مع نفسه على جسد زوجته. ومن منظور ثلاثي الأبعاد يفلح هلسا في تصوير الصراع القائم بين البدوي والفلاح والمرأة، بوصفه صراعًا غير متكافىء العناصر، تكون فيه المرأة العنصر الأضعف، مسلوبة الإرادة، ومصدرًا للفضيحة والعار، بحيث يتقاطع وضعها الدوني كفلاحة في البادية مع وضعها كامرأة في مجتمعات تقليدية مفاقمًا معاناتها. وعلى الرغم من أنَّ "زيدان" يقتل البدوي، إلا أنه لا يشعر بالفخر والبطولة إزاء فعلته، بل يلوم زوجته على ذلك. وفي إسقاط نفسي رهيب تتحوَّل زوجة "زيدان" بضعفها وقلة حيلتها إلى مرآة تعكس داخله: "أنتِ السبب.. أنتِ السبب.. تريدين إذلالي؟ ونشيجها يعلو، يعلو مكتومًا، مُرًّا يهزّ صدرها فيشعر بضغط ثدييها على ظهره، بحرارة جسدها في ظهره، فيتولاه تقزز ورغبة في التقيؤ… ما الذي دعاه لقتل البدوي؟ ماذا لو ضاجعها؟ وماذا يهمّه من القرية وأهلها؟"(11)، بينما يضحي جسد زوجته تجسيدًا خالصًا لأحاسيس الذل والإهانة والندم. وفي النهاية يهرب "زيدان" الفلاح من جحيم البادية وظلمها عائدًا إلى أصله/ قريته طلبًا للأمان.
إنَّ رؤية هلسا المستمَدّة من اغترابه عن ذاته واتساع أفقه الجغرافي وإصراره على الاحتفاظ بالرؤية البريئة والعفوية لذكرياته في القرية، كلها عوامل تجتمع لتشكّل وعيه الطِّباقي الثاقب الذي يوظّفه في أعماله الأدبية. يعثر هلسا في بيئته الأصليّة على ما يستحق الكتابة، مُثبتًا من خلال كتابته لنصوص تخص المجتمع الأردني أنَّ ثمّة ما يُكتب عن الأردن، بخلاف ما قاله له أحد الطلاب الأردنيين معلّلًا أزمته الإبداعية بأنّ (في الأردن لا يحدث شيء يستحق الكتابة..)، ليردّ عليه هلسا قائلًا: "إنَّ حياة كحياتنا ومجتمع كمجتمعنا -بهذا القدر أو ذاك- يجد هذا التعبير الرائع عنه، خصوصًا تلك الوقائع والروابط الروحية التي كنتُ أعتقد أنها لا تستحق أيّ اهتمام"(12).
• الهوامش:
(1) ذكر غالب هلسا سبب تأخره في النشر في حوار له مع القاص الأردني يوسف ضمرة والذي نشر في كتاب "المغترب الأبدي" قائلًا: "إنني أخجل من التعبير عن نفسي بوضوح، والأغلب أنَّ هذا هو السبب في أنني لم أنشر أعمالي إلّا بعد كتابتها بفترة طويلة جدًا. كان اكتشاف الذات بالنسبة لي نوعًا من الفضيحة..." انظر :
غالب هلسا.. "القصص الكاملة" في ذكرى رحيله
(2) تأملات حول المنفى، إدوارد سعيد. ترجمة ثائر ديب، ص 132- 133. *الطباقية Contrapuntalism (مصطلح سعيدي بامتياز. وهو مصطلح مستمد من الموسيقى، حيث يشير إلى الاستعمال المتزامن للحنيْن أو أكثر بغية إنتاج المعنى الموسيقي، بما يسمح بالقول عن بعض الألحان إنه في حالة تضاد مع اللحن الآخر. وفي النقد العربي القديم يشير الطباق إلى علاقة تضاد دلالي بين الكلمات. لكن جذر الفعل يعني أيضًا التماثل والتشابه والتراسل) ملاحظة المترجم.
(3) وديع والقديسة ميلادة وآخرون، غالب هلسا، ص101.
(4) وديع والقديسة ميلادة وآخرون، ص95.
(5) وديع والقديسة ميلادة وآخرون، ص75.
(6) أدباء علموني.. أدباء عرفتهم، غالب هلسا، ص75.
(7) زنوج وبدو وفلاحون، غالب هلسا، ص9.
(8) زنوج وبدو وفلاحون، غالب هلسا، ص22.
(9) المصدر نفسه، ص25.
(10) المصدر نفسه، ص30.
(11) زنوج وبدو وفلاحون، غالب هلسا، ص50.
(12) أدباء علموني.. أدباء عرفتهم، غالب هلسا، ص55.