محمد المشايخ
كاتب وباحث أردني
أجْمَعَ نقّاد عرب ومحليّون، خلال المؤتمر الذي عقدته جمعيّة النقّاد الأردنيين، في منتصف آب من عام 2008، على أنَّ القصة القصيرة لا متنفَّس لها في زمن الرِّواية، إلّا أنَّ الفن المشاغب رفض ذلك التشخيص. ومع أنَّ الإصدارات القصصيّة تراجعت في السنوات الأولى من الألفية الجديدة، إلا أنَّ السنوات التالية شهدت انتعاشًا ملحوظًا في الإنتاج القصصي الأردني.
في المشهد الأردني، كما في المشهدين العالمي والعربي، استمرَّت الماكينة الإبداعيّة القصصيّة في العمل، فبلغ عدد المجموعات القصصيّة التي صدرت في المملكة خلال السنوات (2000- 2018) 884 مجموعة قصصيّة، أبدعها 282 قاصًّا، و156 قاصّة. الأمر الذي يؤكد أنَّ القصة الأردنيّة بخير، بل في صعود.
ولعلَّ أحد الأسباب التي دعت النقاد إلى النظرة المشائمة نحو مستقبل القصة القصيرة، يكمن في تراجع الإصدارات القصصيّة في السنوات الأولى من الألفية، حيث بلغ عدد المجموعات القصصيّة التي صدرت عام 2000 (20). وفي العام 2001 (11). وفي العام 2002 (57). وفي العام 2003 (27). وفي العام 2004 (42). وفي العام 2005 (26) مجموعة قصصيّة. إلّا أنَّ السنوات التالية شهدت انتعاشًا ملحوظًا في الإنتاج القصصي الأردني، حتى بلغ في العام 2018 (131) مجموعة.
ويتَّضح من كتب الببليوغرافيا التي تصدرها دائرة المكتبة الوطنية سنويَّا، ومن تراجم القاصين الأردنيين، ومن عناوين إصداراتهم القصصيّة الواردة في معجم القاصين والروائيين الأردنيين الصادر لكاتب هذه السطور عام 2019، أنَّ عدد المجموعات القصصيّة التي صدرت عام 2006 كان (52) مجموعة. وفي العام 2007 (42). وفي العام 2008 (27). وفي العام 2009 (36). وفي العام 2010 (44) مجموعة قصصيّة.
وساهمت عوامل عديدة في التصاعد الملحوظ في وتيرة الإنتاج القصصي الأردني وصولًا إلى ذروته في العام 2018، وأهمّها أنَّ جيل القاصين الشباب، من الجنسين، حظي بـِ"دور نشر وتوزيع" مستجدّة، احتضنت مجموعاتهم القصصيّة، ولعبت دورًا كبيرًا في نشرها وتوزيعها، وازداد التنافس بين أبناء هذا الجيل، وتحديدًا عبر صفحات الفيسبوك، حول مَن يصل إنتاجه القصصي إلى معارض الكتب العربيّة، فكان عدد المجموعات القصصيّة الصادرة عام 2011 (47). وفي العام 2012 (52). وفي العام 2013 (48). وفي العام 2015 (61). وفي العام 2017 (56).
وبمقارنة أعداد المجموعات القصصيّة التي صدرت منذ مطلع الألفية، مع أعداد المجموعات التي صدرت خلال القرن الماضي كاملًا، يتَّضح أنَّ القصة القصيرة ما زالت حيّة وتتنفَّس وتنافس غيرها من الأجناس الإبداعيّة. ففي كتابه (القصة والقصة الأردنيّة القصيرة جدًا)، أحصى الناقد نزيه أبونضال (325) مجموعة قصصيّة صدرت منذ تأسيس إمارة شرق الأردن وحتى العام 1999، (140) منها لـِ(70) قاصّات.
لم يقف تحدي القصة القصيرة لحكم النقاد عليها بالفناء عند طفرة الإنتاج بعد الألفيّة، بل تعدّاه إلى الافتراق والاختلاف عمّا سبق من النواحي الفنيّة والمضمونيّة. فقد سعى جيل القاصين الشباب إلى التمرُّد على القصة التقليدية، وتوقفوا عن الالتزام بشكلها القائم على المقدمة والحبكة والنهاية، ممّا أدّى إلى تفكيك بنيتها القارّة، وإلى تداخل كبير بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى لا سيّما الشعر، وتضمّنت بعض القصص لوحات تشكيليّة بصرية، ومشاهد سينمائية. وصارت البطولة في بعض القصص للمكان أو للزمان، ولم تعُد مقتصرة على الإنسان. وظهرت في العقدين الأخيرين المتواليات القصصيّة، التي تتجاوز نص القصة المفرد إلى معاملة كل القصص المنشورة في المجموعة القصصيّة، مهما بلغ عددها، باعتبارها وحدات سردية صغرى داخل نسيج سردي كبير يقرِّبها من الشكل الروائي، فاستمدَّت هذه المتواليات وحدتها من تصوُّر تنظيمي متتابع، لا يلغي متعة قراءة القصص منفردة، بل يتيح اكتشاف استراتيجيات تجسِّر الفجوات بين القصص لتُقرأ مجتمعة.
ولجأ بعض القاصين لكتابة قصة داخل القصة، بينما توجَّه آخرون نحو "الميتا قص"، وهو القص الذي يجعل من نفسه موضوع حَكْيَه، ويُسمى السرد المفتون بذاته، إذ يختار القاص لشخصيات قصته وظيفة أخرى مضافة لوظيفتهم الأصلية، فهم ساردون ضمنيّون، مثلما هم أبطال ضمنيّون داخل اللعبة السردية وخارجها، فتُترك القصة تفكر في ذاتها بعد أن وضعت مخطّطًا افتراضيًّا لكتابتها.
كما لجأ بعض القاصين إلى الواقعيّة السحرية، التي تقوم على العجائبي أو الغرائبي، أو الفنتاستيك، أو الأسطوري، أو السريالي الذي من خلاله تطور وعي الإنسان تجاه العوالم الخفيّة وتأثيرها على رؤيته للعالم والكون، وواصل بعض القاصين استخدام تقنية تعدُّد الأصوات، واغتنم بعضهم ما أتاحته الانفراجة الديمقراطية في المملكة، من توقُّف دائرة المطبوعات النشر عن الرَّقابة على الكتب، ليمعنوا في إحداث تماس مع الأقانيم الثلاثة: الدين والسياسة والجنس.
كما واكب قاصو هذا الجيل، حرب الخليج، والحروب التي يشنّها الاحتلال على الضفة الغربية وقطاع غزة، وعالجوا إرهاصات الربيع العربي، وعبّروا عن مواقفهم تجاه الدواعش وما خلّفوه من تطرُّف وإرهاب وتكفير، ولم ينسوا الالتزام بهموم القاعدة الشعبية، ومعالجة أوضاعها المعيشية الصعبة، مؤكدين على كبرياء الإنسان الأردني وحفاظه على كرامته على الرغم من قسوة الظروف.
• نحو العالميّة
كتب عدد من القاصين الأردنيين قصصهم باللغة الإنجليزية، ومنهم: فادية الفقير المقيمة في بريطانيا. وأصدرت وداد القسوس ثلاث مجموعات باللغة الألمانية. وتُرجمت بعض القصص لقاصين أردنيين إلى لغات عالميّة، منهم هشام البستاني وحنان بيروتي وبسمة النسور ومحمود الريماوي وغيرهم. وأصدر د.سعيد الخواجا عام 2017، مجموعة (عرق نعنع) متضمّنة ترجمته لـقصص 19 قاصّة أردنيّة إلى اللغة الإنجليزية.
• دوريّات وهيئات
أصدرت رابطة الكتاب الأردنيين في العددين 38و39 من مجلتها "أوراق" قصصًا لمائة وثمانية عشر قاصًّا وقاصة. وظهرت هيئات ثقافية معنية بالقصة، على غرار "بيت تايكي" المعني بالأدب النسوي ومنه القصة القصيرة. و"مختبر السرديات الأردني" المعني بالرواية والمسرح فضلًا عن القصة القصيرة. وانعقدت مؤتمرات وملتقيات خاصة بفن القصة داخل الأردن، كملتقى القصة القصيرة السنوي الذي أقامه "بيت تايكي" عدَّة دورات بأفق عربي. والملتقى التكريمي الاستذكاري لغالب هلسا الذي أقامه المركز الثقافي الملكي في 18 كانون الأول 2019 في الذكرى الثلاثين لرحيل الأديب والمفكر غالب هلسا. وصدرت مجموعة (المشهد الذي لا يكتمل) عام 2019، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل القاص الأردني عدي مدانات. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لمواكبة الطفرة القصصيّة الأردنيّة، إلا أنَّ عددًا كبيرًا من القصص ما زال متناثرًا في الفضاء الإلكتروني لقاصين واعدين، وينتظر الفرصة للصدور ورقيًّا.
• جوائز
وفي الوقت الذي اختفت فيه جوائز ومسابقات محلية وعربية متخصصة بالقصة، على غرار "جائزة محمود تيمور المصرية" التي فاز بها سابقًا مفلح العدوان، فاز القاصون الأردنيون بالجوائز في المسابقات القصصيّة التي تنظمها الجامعات الأردنيّة، ومسابقات الإبداع الشبابي التي تنظمها وزارة الثقافة، ومسابقات رابطة الكتاب الأردنيين كـ"جائزة خليل قنديل للقصة القصيرة" التي منحتها رابطة الكتاب لعام 2018 لأماني سليمان. و"جائزة رفقة دودين" للإبداع السردي التي فاز بها عام 2014 كلٌّ من جلال برجس ويوسف ضمرة. و"جائزة شرحبيل بن حسنة للإبداع الأدبي"، التي فاز بها د.سليمان الأزرعي. وجائزة الناصر صلاح الدين في الكرك عن أفضل مجموعة قصصيّة، ومن القاصين الفائزين بها: حنان الباشا ومجدولين أبوالرب وسليم أحمد حسن، وغيرهم. و"جائزة سواليف الأدبية في القصة القصيرة"، التي فازت بها سمر الزعبي وعامر الشقيري وغيرهما. وجائزة "الملتقى" للقصة القصيرة العربية في الكويت، وفازت بها شهلا العجيلي. و"جائزة ناجي نعمان" في القصة وفازت بها صفية البكري. و"جائزة سعاد الصباح للإبداع الفكري والأدبي" في القصة القصيرة، وفازت بها مريم جبر وجواهر رفايعة.
• القصة القصيرة جدًا
يعود ظهور الـقصة القصيرة جدا في الأردن إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وإن اختلف النقاد على اسم أوَّل مَن كتبها، لاختلاف المرجعيّات النظرية حول هذا الفن القصصي المستحدث، فمنهم مَن ينسب الرِّيادة إلى محمود شقير، ومنهم مَن ينسبها إلى فخري قعوار.
وبغضّ النَّظر عن اختلاف النقاد حول الرِّيادة، ثمّة حقيقة لا تخطئها العين أنَّ الألفية شهدت منذ سنواتها الأولى انعطافة كبيرة نحو القصة القصيرة جدًا، على اختلاف تقنياتها وسوياتها الفنية، وانفردت عن الفن الأم لتصدر في مجموعات خاصة بها. وقد بلغ عدد المجموعات التي سلكت هذا المنحى الجديد، خلال هذه الحقبة، حوالي المائة مجموعة.
ولأنَّ القصة القصيرة جدًا ما زالت تدور في فلك التجريب، اختلفت مسمّياتها من قاص لآخر، فصبحي فحماوي مثلا أصدر عام 2018 مجموعة تحت مسمّى (ألف أقصوصة وأقصوصة). ولمّا أصدر هاني أبونعيم مجموعته القصصيّة (وخزات نازفة) عام 2015 اختار أن يطلق عليها اسم (ومضات قصصيّة).
ومن أبرز القاصين الشباب الذين أصدروا مجموعات خلال تلك الحقبة إبراهيم أبوزينة وأسعد العزوني وعمار الجنيدي وفداء الحديدي وهيفاء مجدلاوي وحسين المناصرة ومحمود عبدالرحيم الرجبي ومهند العزب وطارق بنات وعامر الشقيري. ومن الجيل السابق أصدر محمود شقير 4 مجموعات. وصدرت مجموعات قصصيّة قصيرة جدًا لكل من: محمود الريماوي، سعود قبيلات، جمعة شنب، محمد مشة، يوسف ضمرة، سامية العطعوط، سميحة خريس، رامي الجنيدي، أميمة الناصر، بسمة النسور، حنان بيروتي، أحمد أبوحليوة، خلود المومني، محمد عبدالكريم الزيودي، عيسى حداد.
وتتَّسم معظم الـقصص القصيرة جدًا المنشورة في هذه المجموعات بملامح عامة مشتركة، منها وحدة الحبكة والعقدة، والتكثيف، والمفارقة، والتلوين الأسلوبي، والتشخيص، والتجسيد، والرمز، والإيماء، والتلميح، والإيهام.
وأدّى هذا التراكم في المنتج القصصي القصير جدًا إلى مأسسة الجهود الفرديّة على هيئة ملتقيات، كـَ"ملتقى القصة القصيرة جدًا" الذي تأسس عام 2013، وضمّ في هيئته الإدارية القاصين: عيد بنات، عبدالكريم حمادة، محمد البرغوثي. وحظي هذا الفن باهتمام في الدراسات النقدية الأكاديمية ومنه رسالة ماجستير لذكريات حرب بعنوان (القصة القصيرة جدًا في الأردن) عام 2018.