ذكريات حرب
كاتبة وناقدة أردنيّة
جاءت القصة القصيرة جدًّا استجابةً لعصرها، وهي إحدى تجلّيات القصة القصيرة التي تندرج ضمن جنس سردي قصصي، متميزة بالقصر والإيحاء المكثف والمفارقة المدهشة وتقنيات لغوية خاصة. وقد ساهم انتشار المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في بروزها، فغدت مشرّعة الأبواب لمَن يرغب في نشر إنتاجه في هذا النوع الجديد دون التعرُّف على بنيته وأركانه وخصائصه وتقنياته إلا ما ندر، ممّا خلق نوعًا من الفوضى الكتابيّة. في المقابل، برزت أعمال قصصية قصيرة جدًا لكتاب وكاتبات تميَّزت تجاربهم بالنضج، منهم سامية العطعوط وجمعة شنب وعامر الشقيري.
تَخَلّقت الملامح المميِّزة للقصة القصيرة جدًا في النصف الثاني من القرن الماضي على يد كتاب سعوا إلى التجريب الفني استجابة لنزعات التجديد والتغيير التي عمّت الفنون والآداب بعد الحرب العالمية الثانية. واجتهد الكتاب والنقاد في تسمية المولود الحديث بأسماء مختلفة منها؛ (قصص بحجم راحة اليد) في اليابان، و(قصص أوقات التدخين) في الصين، أمّا في أوروبا فأطلق عليها تسمية (قصص ما بعد الحداثة)، وفي أميركا (قصص الومضات)، إضافة إلى مسميات أخرى مثل؛ (قصة الأربع دقائق) و(القصص السريعة) و(القصص الصغيرة جدًّا) و(المجهرية) و(قصص برقية) و(بورتريهات) و(مشاهد قصصية) و(القصة القصيرة الشاعرية) و(قصص قصيرة جدًّا)، وهو أكثر المسميات شيوعًا في الوطن العربي، واختزل بـِ(ق. ق. جدًا)، بعد أن أطلقت عليها مسميات كثيرة منها؛ القصة الومضة، واللقطة، والقصيرة للغاية، والمكثفة، والبرقية، واللوحة القصصية، والنكتة القصصية، والخاطرة القصصية، والأقصودة، والأقصوصة.
وإذا كان تسمية (القصة القصيرة جدًا) قد قرّت بالاتفاق والشيوع في المنطقة العربية، إلا أنّ هذا الفن ما زال غائمًا من حيث الكيفية عند كثير من القاصين، وذلك لعدة أسباب أهمّها الترجمة الناقصة وغير الدقيقة، فقد أدّى نقله جاهزًا ومجرّدًا من سياقه الثقافي إلى الساحة الأدبية العربية قبل التعرُّف عليه، إلى اضطرابه. فالقصة في الآداب الغربية تشمل؛ القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًّا، والأُقصوصة، والقصة القصيرة الطويلة، والرواية الصغيرة، وجميعها مصطلحات واضحة المعالم والشروط الفنية. وفي ظل فوضى الترجمة، وتخلُّفها عن مواكبة الجديد والمهم في هذا الفن، إضافة إلى نقص الأسس النظرية، وتباين آراء النقاد، اعتمد بعض القاصين الكمّ معيارًا وحيدًا في كتاباتهم، متجاهلين أنّ النص القصصي لا يخضع لمعيار الكمّ حسب، فكلمة (جدًا) لا تعني تقييد القصة بعدد محدّد من الكلمات، ولا الدلالة الكميّة معبِّرة وحدها عن خلوّ القصة من الزوائد اللغوية، بل يمكن أن يؤدي تحديد الكلمات إلى استغلاق القصة، وإخراجها من جنسها إلى جنس أدبي آخر. والتركيز على الحدث المحدّد الذي قد يمتد لصفحتين أو ثلاث، وتسميتها (القصة القصيرة جدًا) ما هو إلا انعكاس للروابط الوثيقة بينها وبين القصة القصيرة، فالأركان والتقنيات النوعية الجمالية الموجودة في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا نفسها، لكن طريقة التوظيف والسياق تختلف بينهما.
لذا؛ فالقصة القصيرة جدًّا التي جاءت استجابة لعصرها هي إحدى تجليات القصة القصيرة التي تندرج ضمن جنس سردي قصصي، متميزة بالقصر، والإيحاء المكثف، والمفارقة المدهشة، وتقنيات لغوية خاصة. وفي المقابل فإنّ العلاقة بينها وبين القصة القصيرة كعلاقة الفرع بالجذع، وتقاربها مع فنون أخرى لا يعني أنّها لا تحتفظ بتمايزها.
• القصص القصيرة جدًا الأردنيّة
لم يكن الأردن بعيدًا عن المشهد الثقافي العربي وتأثره بهذا الفن القصصي، فكانت أولى التجارب للقاص والروائي محمود الريماوي الذي نشر عددًا منها في عام 1970، وللقاص محمود شقير تجربة رائدة في هذا النوع. لكنّ القصة القصيرة جدًا لم تبرز عنوانًا مستقلًا على أغلفة الكتب إلا في العقدين الأخيرين. وساهم في بروزها انتشار المواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي غدت مشرّعة الأبواب لمن يرغب في نشر إنتاجه في هذا النوع الجديد دون التعرُّف على بنيته، وأركانه، وخصائصه، وتقنياته إلا ما ندر، ممّا خلق نوعًا من الفوضى الكتابيّة.
في المقابل، برزت أعمال قصصية قصيرة جدًا تميزت ببنائها السردي القائم على دراية بدور اللغة المكثفة، المشحونة بالدلالات المُضمرة، والإيحاءات النفسية، والمفارقات المثيرة للتأمُّل، تاركة للمتلقي مساحة واسعة للتفكير في مراميها وتأويلها وتحسُّس جمالياتها. وستتناول هذه الدراسة ثلاثة قاصين تميزت تجاربهم بالنضج؛ هم سامية العطعوط وجمعة شنب وعامر الشقيري.
• الحدث القصصي حجر البناء في القصة القصيرة جدًا
لا تختلف عناصر القصة القصيرة جدًا عن عناصر القصة القصيرة وأهمّها: الحدث، والشخوص، والحوار، والزمان، والمكان. أمّا الحدث فيجب أن يخضع لشرط التوتر والتحرُّك والتطوُّر المستمر منذ الكلمة الأولى؛ وبذا يحدث اندماج بين الشخصية والحدث وباقي العناصر، ويصبح الحدث منتجًا للدلالات في عملية التلقي والتأويل، ويتجدَّد بتعدُّد القراءات.
في قصة (عاشق) لسامية العطعوط: "أغمد خنجره وشقّ قفصها الصدري. نفر الدمُ من صدرها. صرخت من الألم وتأوَّهت. وإذ ماتت، أخرج قلبها بلهفة ليراه ثم أعاده إلى مكانه، وبكى. فقد تأكد أنَّ قلبها ليس (من حجر). كما كان يظنّ"(قارع الأجراس، ص45).
الحدث متوتر منذ البدء ومشحون بالعنف، تعبّر عنه أفعال متصاعدة متتالية (أغمد، شقّ، نفر، صرخت، تأوّهت) وصولًا إلى الذروة (ماتت)، ثم هبوطًا إلى الناحية الأخرى من ردود الفعل (أخرج، ليراه، أعاده، بكى)، وختامًا بالعبارة المولّدة للمفارقة والكاشفة عن مأزق الشخصية القصصية. ويمكن رسم منحى بياني للحدث القصصي، صاعد ثم هابط، ومنتهٍ بالكشف عن أزمة الشخصية المعذّبة بغيرة العاشق وشكوكه وظنونه. وتحيل القصة إلى حكايات الغرام المشهورة في التاريخ والأدب الكلاسيكي، وتختزل علاقة الرجل بالمرأة في سياق العاطفة المشبوبة من جهة الرجل، بعلاقة الآكل بالمأكول.
وفي قصة (فواتير) لجمعة شنب: "قبل أن يموت عبدالغني بسبعة أشهر تقريبًا، قال لي: سأحفر مسبحًا في بيتي، وسأسرق ماءً، وأملؤه كلّ أسبوع، ثم أُفرغه، وأعود لأملأَه. وفي الشتاء سأدفّئُ الماء بكهرباءَ مسروقةٍ أيضًا، ثم رسم ابتسامةً ظافرة، وتابع: سأسرق الحكومة، فلطالما سرقتني، إنَّ حكومتَنا بلا ضمير يا صديقي. وفي المقبرة، تبيَّن للورثةِ أنَّ أسعار القبور قد ارتفعت. وبعد انتهاء مراسم العزاء، تمَّ قطعُ الماء والكهرباء عن بيت الفقيد، لعدم تسديد الفواتير.."(قهوة رديئة، ص39).
يتنامى الحدث كاشفًا عن سخرية مريرة، أو كوميديا سوداء، تميِّز أسلوب جمعة شنب القصصي. فالقصة تمدُّ خيطًا من المفارقة المريرة، يبدأ من الحياة ولا ينتهي بالموت، بل يمتدّ بعده. وكل فعل يقوم به بطل القصة في حياته، يقابله فعل معاكس من طرف الحكومة بعد موته. وتكمن براعة القصة في قدرتها على بناء المفارقة في العلاقة الطفولية بين طرفيها، البطل من جهة والحكومة من جهة أخرى. علاقة غير ناضجة قوامها الاستقواء والتَّذاكي والانتقام.
وفي قصة (شتيمة) للقاص نفسه: "لقد احتملتُ ألمَ بسطار الجندي على صدغي، يومئذٍ، لدقائق، بدت مثلَ ساعات. صحيح أنَّ الإسفلت كان ساخنًا تلك الظهيرةَ، ورائحةَ الزفتِ المتسرّبةَ إلى منخري لم تكن طيّبة بالمرَّة، كما أن مذاقَ نعلِه لم يكن مُستساغًا. لكنني بصراحةٍ شديدةٍ، لم أحتمل شتيمته، فقتلتُه. ولم يتبقَّ على سجني سوى سبع عشرةَ سنةً وستة أيامٍ فقط"(قهوة رديئة، ص71).
ينطلق جمعة شنب في قصصه من رؤية سياسية اجتماعية ترى إلى العلاقة بين الفرد والسلطة بوصفها علاقة مشوَّهة قائمة على القهر والتسلُّط من جهة السلطة، والتمرُّد من جهة الفرد. لكنه تمرُّد عبثي، لأنه فردي غير منظم، وانفعالي غير مؤسس على الوعي. والمفارقات القصصية التي يصنعها جمعة شنب تبدو محمّلة بالشحنات الكهربائية عالية السخرية، بهدف صدم الأفراد غير الواعين للأسس الصحيحة في الصراع السياسي الاجتماعي.
وفي قصة (تحوُّلات) لعامر الشقيري: "الفتاة الطيبة في عامها الأول بعد العشرين، قال لها أحد الشبان: أحبك، ولكن..!! ومن وقتها قررت التمرُّد على تقاليد مجتمعها الصارمة. فصارت تهتم بمكياجها بشكل لافت للنظر.. وصارت تنورتها تقصر شيئًا فشيئًا بشكل لافت للنظر أيضًا. وفي العام الثاني بعد العشرين، لاحظ الأب المُقعد تأخُّر ابنته الوحيدة عن البيت فعزت الأم ذلك للأزمات الخانقة في وسائل المواصلات. وفي العام الثالث بعد العشرين، تكوّر بطن الفتاة قليلًا وغدت أسيرة غرفتها. الأم تحدثت مُطولًا عن الانتفاخ وأمراض الجهاز الهضمي. وفي العام ذاته صار يأتي من غرفة الفتاة صوت بكاء يشبه بكاء رضيع، صوت يثقب سكينة البيت.. إلى الحدّ الذي جعل الأب يشك أنَّ أمرًا خاطئًا قد حدث"(هزائم وادعة، ص91).
الزمن في هذه القصة متعالق مع الحدث، ومواكب له، غير منفصل عنه. ثلاث محطات زمنية من عمر الفتاة تشهد فيها تحولات مفصلية، دون مساندة حقيقية من الأم والأب، هي أحوج ما تكون إليها في هذه المرحلة الدقيقة من عمرها. وفي كل محطة زمنية تجد الفتاة نفسها وحيدة في خضم تجارب الحياة دون خبرة ودراية تمكِّنها من مواجهتها، ولا تعينها الأم الغافلة والأب العاجز على اتخاذ القرار الصحيح الذي يحميها من أن تكون عرضة للاستغلال العاطفي. ويمضي الزمن مصحوبًا بالحدث ومآله المحكوم بمنطق القصة الداخلي، وتكمن المفارقة لا في كسر التوقُّع، وإنما في تأكيده وتثبيته من خلال حالة الإنكار العجيبة التي تعيش فيها غفلة الأم وجهل الأب.
الحدث المبني على التحقيب الزمني سمة أسلوبيّة ملحوظة في القصة القصيرة جدًا، كما في قصة (هجرات) لسامية عطعوط: "في الهجرة الأولى، حملتُ معي مفتاح البيت على عجلٍ، وخرجت.. في الهجرة الثانية، أخذتُ أموالي ومصاغي الذَّهبي، وتركتُ لهم مفتاح البيت الجديد ورحلت. في الهجرة الثالثة، أخذتُ أدويتي، نظّارتي النظر وعكّازي، جاكيتًا من الصوف لتدفئة هيكلي العظميّ، ورحلت. في الهجرة الرابعة، أخذوا جثتي معهم، وأجهل أين دفنوها..!"(مجموعة كأي جثة أخرى، ص73). الحدث القصصي محمول على أربع محطات زمنيّة، وإن اختلفت عن مثيلتها في قصة (تحوُّلات) لعامر الشقيري في كونها محطات تاريخيّة عامة تحيل إلى صراع سياسي، وليس اجتماعيًا. إلا أنّ البنية في القصتين تتشابه إلى حد نمطي، فالحدث يتنامى نحو المآل المتوقّع، وتكمن المفارقة في تأكيد التوقُّع وتعميقه إلى حدوده القصوى، لا في كسره وتغيير اتِّجاهه.
النماذج القصصيّة السابقة تبيِّن أهميّة الحدث بوصفه العنصر الأساس في البناء. ونلاحظ فيها ارتباط العنصر الزمني بالحدث، وتسييره والقفز به قفزات محسوبة، قصيرة أو طويلة، خدمةً للحدث، وانصياعًا له. أمّا عنصر المكان فيبدو مغيّبًا ومغفلًا، وكذلك عنصر الحوار. وتستعيض عنهما بعنصر المفارقة القائمة على كسر التوقع وقلبه، أو تثبيته وتعميقه.