د. عماد أحمد الزّبن
أستاذ اللغويات العربية المشارك – جامعة الإمارات العربية المتحدة
في هذه المقالة كشف مختصر عن بعض التحوُّلات والظواهر اللغويّة في حقبة وباء "كوفيد 19" في اللغة العربيّة، ومحاولة لإضاءة جوانب من التغيُّرات اللغوية الحادثة بالفعل، أو التي ستحدث، ومنها تفعيل المفردات المعجميّة الخاملة، والكشف عن نموذج التكثّر المعنويّ وبخاصة ظاهرة الأضداد، والانفتاح على الدّخيل وتقبُّله، والفرار إلى المتَّجه اللغويّ الأوليّ (العودة إلى عناصر اللغة الطفولية)، وتفعيل ظاهرة التلازم اللفظيّ في العبارات، وظاهرة العبارات المسكوكة.
اللغة مقولة ليست منغلقة على بنيتها، كما يقول اللسانيون، وهي سلوك إنسانيّ يتأثر بسياق الإنسان وأنساقه، وتطالها الأحداث التي تحيط بهذا الإنسان، فتُحدث فيها أثرًا وتغييرًا. فلا غرابة في أن نلجأ إلى اللغة لرقوب مقدار التغيّر في الإنسان، أو أن نلجأ إلى سياق الإنسان لنكشف عن علل التغيّر في اللّغة. وهكذا يسير الإنسان ولغته في جدليّة المؤثِّر والمحل، أو الجوهر والصورة.
وقد ترى أنَّنا نعيش في هذه الأيام انتشار وباء "كوفيد 19" على مستوى عالميّ، هذا الحدث الذي تسلّل إلى جميع مكوّنات الإنسان وسياقاته، فترك أثرًا في نفسيّته وممارساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية والفكرية، ولا شك في أنه سيطال بأثره لغة هذا الإنسان. لذلك قصدتُ في هذه المقالة إلى الكشف المختصر عن بعض التحوُّلات والظواهر اللغويّة في حقبة هذا الوباء في اللغة العربية. ولستُ مشغولًا ههنا في تصنيف هذه التحوّلات وفرزها في جدول الإيجاب والسلب، ولكنني أجهَد في إضاءة جوانب من التغيُّرات اللغوية الحادثة بالفعل، أو التي ستحدث وقد أهدفَتْ لي بالتبصُّر في تاريخ الحركة اللغوية ونظام اقتعادها، والتأمّل في ماضيها وحاضرها وصيرورتها. وأقدّر أنّ هذه النموذجات من التحوّلات، على قلّتها في هذا الصعيد المختصر، قد تحفِّز الناظر إلى توسيع الرُّؤية وتعميق البحث في النَّقب عن القوانين التي تُظهرنا على مستقبل التحوُّل في اللغات.
ومن هذه التحوّلات التي نطالعها من جرّا هذا الوباء العالمي "ظاهرة التّفعيل". ومعناي بهذا أنَّ هذه الجائحة أجبرتِ الجماعة اللغوية على تفعيل المفردات المعجمية الخاملة (Passive Vocabulary)، وهي المفردات المهجورة التي لها موضوعات حاضرة ولكنها خاملة بسبب استعمال ألفاظ أخرى. ويصحّ، في تقديري، أن نوسّع مصطلح المفردات الخاملة ليشمل المفردات الضيّقة الاستعمال. وأنت تَسقط في لغة حقبة "كوفيد 19" على شواهد وأمثلة واضحة لظاهرة التفعيل. خذ مثلًا كلمة جائحة (Pandemic)، هذه الكلمة بمعنى النكبة أو المصيبة، كما في المعجمات العربية، كانت في حكم المفردات الخاملة الضيقة الاستعمال، لكنّ وباء "كوفيد 19" فرض تفعيلها من جرّاء تفريق منظمات الصّحة العالمية بين الوباء والجائحة. ومظهر هذا التفعيل انتقال المفردة من النطاق الضيّق إلى النطاق الواسع بالتداول والاستعمال.
ولعلّك تلحظ في الممارسة اللغوية في حقبة "كوفيد 19" ازدياد التبصُّر في الفروق اللغوية، كما تجد في مسمّيات أعراض المرض، أو في وصف مراحل انتشار المرض من الوباء أو الجائحة أو التفشّي. وهذه الممارسة اللغوية فرضها ادّغام أفراد الجماعة اللغوية في معالجة الفروق العلمية التي تصدر عن الهيئات الرسمية، وعلّة هذا الادّغام عالمية هذا الوباء، والقلق الدائم المصاحب لانتشاره الواسع.
ويحسن بالاستتباع الكشف عن نموذج التكثّر المعنويّ، وهو تحوّل مرتقب تفرضه الممارسة اللغوية في حقبة هذا الوباء. وأخصّ ههنا ظاهرة الأضداد. أظنك قد سمعت غير مرةٍ نتائج تحاليل بعض الناس في هذه الأزمة، وكانت النتيجة واحدة من مفردتين: إيجابيّ أو سلبيّ. وإنّه لمِنْ أكْأد المفارقات الدّلاليّة أن نجعل كلمة "إيجابيّ" دالةً على ثبوت المرض، وكلمة "سلبيّ" دالة على عدم المرض. وبهذا نكون قد شحنّا كلمة "إيجابي" بدلالة سلبية، وشحنّا كلمة "سلبي" بدلالة إيجابية. ولا يبعد أن ينهار السّياق الخاصّ بهذه الدلالات في أطوار الاستجابة لها على امتداد حقب انتقالاتها، فتتكثر معانيها الذهنية في حالة استقطاب دلاليّ يشكّل مبدأ التلازم التضاديّ في الدلالة. كما يمكن أن يدخل هذا التكثّر المعنويّ في مبدأ التوليد بالافتراض الخاطئ (Incorrect Assumption). وأقدّر أنّ حالة الاستقطاب الدلاليّ التضاديّ هذه تتصل بمراحل التأزم التي تمرّ بها لغة ما.
ومن التحوُّلات اللغوية التي قد تزداد بسبب هذه الجائحة مسألة الانفتاح على الدّخيل وتقبُّله. وهذه حالة لغوية تتصل بأزمة الاسترخاء الذهني، وانتظار النتائج الحضارية التي يقدّمها الآخر. فالإحساس العميق بأنَّ علاج هذه الأزمة سيأتي من الآخر الناطق بغير العربية، والاعتماد على دراساته في كلّ ما يتعلق بهذا الوباء من أخبارٍ ومُسْتجِدات، سيفتحان الحالة الذهنية عندنا على تقبل مفرداته، ويؤخّر استجابة الجماعة اللغوية لمطالب التعريب، فتَقبل الجماعة اللغوية الكلمات الدخيلة كما هي، أو تجهد في إجراء تحويل بدائيّ عليها لا يخرجها من وصف الدخيل.
كما كشفت أزمة "كوفيد 19" عن أنّ اللغة، في وقت الأزمات الكبيرة، ترجع إلى بعض عناصرها الطفولية من التقبّل المطلق الذي لا تحكمه معايير اللغة الناضجة. وهذا الفرار إلى المتَّجه اللغويّ الأوليّ يصيب اللغات كافةً في وقت الأزمات الكبيرة. وإذا طلبتَ مثالًا يوضّح هذه الأطروحة فانظر إلى مفردة "كوفيديّ" (covidiot) التي ولدت في حقبة هذا الوباء، ودخلت إلى بعض نطاقات التداول. فهذه المفردة الدخيلة أوجبها معنى ذهنيٌّ خاصّ مرتبط بحالة الحذر التي فرضها انتشار "كوفيد 19" وهي تدلّ كما في معجم (URBAN) على الشخص الذي لا يراعي إجراءات السلامة المفروضة في زمن هذه الجائحة. فهو يتجاهل تحذيرات السلامة والصحة العامة في هذا الظرف. ولا يبعد، بحسْب قانون التوليد اللغويّ، أن تتوسّع مفردة "كوفيديّ" لتشمل كلّ شخص غير مبالٍ بالتحذيرات الصحية عامةً، ثم تَثبت في المعجمات العربية كما هي.
ويلحظ المرء، وهو يرقب التحوُّلات اللغويّة في زمن "كوفيد 19"، إلى ظاهرة العبارات المسكوكة (Phraseology). وهي عند اللسانيين تسمية لاقتران مفردات متّصلة دلاليًّا أو تركيبيًّا، إنها عباراتٌ محدّدة البناء تتبادر معانيها إلى ذهن المستجيب تبادر الكلّ لا الكليّ، ولا يجد المنشئ نفسَه معها حرًّا في التشكيل اللغويّ، هي عبارات جاهزة تقوم على وحدة المعنى، ولا يتوقف فهمها على استحضارٍ جزئيّ لمعنى كلّ "لكسيم" (Lexeme) من مكوّناتها كما يقول اللسانيون. وإننا نلحظ إلى أنّ أزمة "كوفيد 19" أسهمت في تفعيل ظاهرة التلازم اللفظيّ في العبارات، وأحكمتِ التحديد البنائيّ في المسكوكات العربية الجاهزة، وإن لم تحدثها في أغلب النموذجات. فشاع اليوم من جرّاء الظرف الوبائي عبارات من مثل: الحجر الصحي، حظر التجول، الصلاة في الرّحال، العمل عن بعد، درجة الصفر، ذروة الانتشار...إلخ. وبعيدًا عن التّشاجر في كون بعض هذه النموذجات يدخل في تصنيف المسكوكات أو لا، إلّا أننا نشعر بأنّ هذا الظرف فرضَ حالة تلازم دلاليّ في مثل هذه العبارات، وبأنها ذاعتْ في التداول العام بما يصحّح التمثيل بها. كما أنني على ذُكْرٍ من أنّ أغلب هذه العبارات موجود في متن اللغة أو في إطار التداول الضيّق الذي يجعل منها عرفًا لغويًّا خاصًّا، لكنّ هذه الأزمة، كما قلتُ منذ سالفةٍ، وثَّقتِ الترابط بين مفردات العبارة، ورفعت درجة التداول والاستعمال لها. وهذه عناصر تحقيقٍ لظاهرة المسكوكات اللفظية. وأقدّر أنَّ العلاقة بين هذه الأزمة وانتشار العبارات المسكوكة تعود إلى أنَّ أزمة "كوفيد 19"، شأن كلّ أزمة، وسّعتْ دائرة استعمال المصطلح فانتقل من جداول العرف الخاصّ إلى جداول العرف العام، فنجد كثيرًا من العبارات الطبيّة والإداريّة والدينيّة والاقتصاديّة قد انتشرت في ظلّ هذه الجائحة في محيط التداول العام. ولا شكّ في أنَّ هذا الضّرْب من انتقال العبارات من العرفية الخاصة إلى العرفية العامة يسهم في تشكيل ظاهرة المسكوكات في اللغة.
لقد قصدتُ في هذه المقالة إلى أن أكشف عن بعض أسئلة الظاهرة اللغوية في زمن أزمة "كوفيد 19"؛ إيمانًا بأنّ اللغة ممارسة إنسانية تَحدث أسئلتها في كلّ سياق تمرّ به، وفي كلّ حقبة في صيرورتها. وآمل أن يحفِز هذا التبصُّر العَجِل إلى محاورة هذه النموذجات بمناهج الكشف اللسانيّ، وبما يجلّي الرؤية والأطروحة وهذا واجب الباحث في اللغة، فاشتغاله يدور على نطاقين: الكشف عن أسئلة الظاهرة اللغوية، والجهد في معالجة هذه الأسئلة.