جلال برجس
شاعر وروائي أردني
كتابةُ الموت في الرِّواية منحى لا يمكن فصله عن الفلسفة؛ فهذا التَّعالق قادم من إشكاليّة الموت من جهة، وإشكاليّة التفكُّر فيه بحدّ ذاته من جهة أخرى. في "نزلاء العتمة" يخرج الروائي زياد محافظة بمقترحٍ حياتيّ، لا يركن في باب موازاة السائد، إنّما الخروج عليه، برؤية جديدة. أمّا في "تراب الغريب" للروائي هزاع البراري، فالموت ليس فقط الموت البيولوجي وعوالم المقابر، إنَّما هنالك أشكالٌ أخرى ظهرت من خلال إحساس عدد من الشخصيّات بالموت على الرّغم من حركتها على أرض الحياة.
• مقدّمة
الرِّواية حلم كاتبها -عبر إثارته الأسئلة- بحياة أخرى. وهي برأيي مسعى ثوريّ ضدّ السائد الذي إنْ حدث وتبدَّل إلى ما يريده الروائي، سيواصل مسعاه عبر أسئلة جديدة تؤدّي إلى زمن جديد؛ مسعى يتكئ على العناصر الثلاثة التي يقوم عليها التفكير الفلسفي بالكون: (الكينونة والسيرورة، والصيرورة). والحياة بكل توسُّعاتها الدائرية -ابتداء من حياة الفرد الجوانيّة السريّة، مرورًا بحياته العائليّة، وحياته في مجتمعه، ووصولًا إلى حياته الكبرى عالميًّا- بقعةٌ لا نهائيّة لتساؤل الرِّوائي، هذه اللانهائية التي لم تغفل دائرة الموت عن تأمُّلاته، وعن أسئلته وسعت إلى تجاوز الصيرورة إن كانت نتاجًا نهائيًّا، فذهبت متمثلة بلانهائيّة الكون.
وإن كانت الكتابة الإبداعية بشكل عام في عتبتها الأولى نتاجًا ذاتيًّا أو ردّ فعل على أمر شخصي غامض يتطوَّر إلى معاينة الموضوعي عبر الذاتي، فإنَّ الرِّواية على نحو خاص نظرة عريضة عبر الموضوعي/ العام إلى الذاتي/ الخاص، وبالتالي الذهاب إلى مناطق الحيرة الشائكة تجاه واقعة كبرى كالموت مدفوعًا بأسباب كثيرة. فلمّا سعى (جلجامش) نحو الخلود، لم يكن سعيًا لتجاوز الموت فقط، وإنَّما للوقوف بوجهه ولسببين؛ الأوَّل فاجعته بموت خليله (أنكيدو) الذي كان له أثر كبير على وعيه المعرفي كملك، وعلى وعيه الاجتماعي والسياسي إلى درجة البكاء على جثّته لسبعة أيام متواصلة إلى أن خرج الدود من أنفه. والثاني -وهو نتيجة للأوَّل- الارتقاء إلى درجة الآلهة آنذاك. فالموت كان وما يزال سرًّا كبيرًا أدّى إلى سؤال كبير مُضمَر في أسئلة عديدة: لماذا نحن على هذه الأرض؟ ولماذا نغادرها فجأة؟ ومَن الذي يغادرها البدن نحو عالم التراب، أم الروح نحو الأبدية؟ إذ تخلَّقت أسئلة كثيرة حول رحيل الساكن (الروح) عن المسكون (الجسد) وأبديّة هذا الساكن مقابل فناء الجسد. وهل هذا الرَّحيل رحيل إلى "أبديّة سيروريّة" أم "أبديّة عَدم" كما رأى (سارتر)؟ وكما تصوَّرها (غوته) فقال: إنَّها (حيلة الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة)؛ إذ يأخذ الموت مساحة مهمّة في الوجوديّة التي تُعدُّ فلسفة للحياة. فالرُّؤية الوجودية للموت تهتم بمعناه الخاص عند الإنسان الوحيد من بين المخلوقات الذي يدرك أنه سيموت ويذهب إلى مصير غامض يلغي فصول حياته كما رأى الفيلسوف الفرنسي (باسكال) حينما قال: (أفكر في المدى القصير لحياتي الذي يلتهمه الأزل الذي سبقه والذي يليه، وفي الحيِّز المحدَّد الذي أشغله. أحسُّ بالخوف أنَّ الفصل الأخير لعين، يُهال بعض التراب على رأس المرء، وهذا هو كل الأمر بالنسبة له إلى الأبد). بخلاف (أسبينوزا) وقد رأى أنّه من غير الممكن تدمير العقل البشري بشكل نهائي مع الجسد، ويرى أنّ جزءًا من العقل البشري يبقى خالدًا، ولا يمكن تحديد انتهاء العقل مع موت الجسد، فهو يعتقد أنَّ العقل أزلي، وهذه رؤية تشابه رؤية (هرقليطس) المؤمن أنَّ الموتَ جزءٌ من الحياة وأنَّ الخوفَ منه أمرٌ لا داعي له.
من هنا نجد أنَّ كتابة الموت في الرِّواية منحى لا يمكن فصله عن الفلسفة، فهذا التَّعالق قادم من إشكاليّة الموت من جهة، وإشكاليّة التفكُّر فيه بحدِّ ذاته من جهة أخرى. فمن الروائيين مَن يراه ذهاب إلى العَدم، ومنهم مَن يراه ذهاب إلى حياة أخرى وأنَّ ثنائيّة تجمع الموت بالحياة مثل سائر معظم الثنائيّات التي تؤثث العيش كثنائيّة الخير والشر، والليل والنهار، والدفء والبرد.
تُعدُّ موضوعة الموت في الرِّواية من أهم الموضوعات التي شغلت الكتاب، فمنهم مَن استلهمها لتوجيه نقد لاذع للواقع، ومنهم مَن كتبها عبر وعيه الوجودي بفكرة الموت، ومنهم مَن اتَّخذها كتقنية يقوم عليها السرد.
وهنالك الكثير من الكُتّاب العالميين والعرب الذين خاضوا هذه التجربة على سبيل المثال لا الحصر "جوزيه ساراماغو" في روايته (انقطاعات الموت)، و"ليو تولوستوي" في روايته (موت إيفان إيليتش)، وكذلك (سارقة الكتاب) للأسترالي "ماركوس زوساك". أمّا الكُتّاب العرب فقد لمسنا موضوعة الموت في رواية (حديث الصباح والمساء) لنجيب محفوظ، وفي رواية (الوتد) لخيري شلبي، وكذلك في رواية (انحراف حاد) لأشرف الخمايسي، وفي رواية (حدَّث أبو هريرة قال) لمحمود المسعدي وفي (تراب الغريب) لهزاع البراري. ورواية (سحب الفوضى) ليوسف ضمرة وفي رواية (نزلاء العتمة) لزياد محافظة.
"نزلاء العتمة" و"تراب الغريب" أنموذجان روائيان استلهما موضوعة الموت؛ وهما موضع هذه القراءة.
• نقد الحياة عبْر موضوعة الموت
"نزلاء العتمة" لزياد محافظة أنموذجًا
يذهب الرِّوائي والقاص الأردني زياد محافظة، في روايته (نزلاء العتمة)، إلى موضوعة الموت، لا من باب مساءلته، أو مجابهته، بل لمساءلة الحياة ذاتها، والدفاع عنها باشتقاق الجديد منها، عبر ما يمكن أن يُقال إنَّهُ أهمّ وأكثر أشكال المصائر الإنسانية تعقيدًا، منتهجًا -مؤلف الرِّواية- ما يمكنني أن أسميه "تناظريّة الحدث"، بحيث بُنيت الرِّواية على هذا الأسلوب التقابلي، لصورتين مغايرتين، فاشتُقّ منهما جملة من العناصر المُؤثِّثة، وبالتالي الخروج بشكل آخر بين هاتين الحالتين المتناظرتين، وقد أنتجتا حالة ثالثة، أو طريقًا ثالثةً لمقترحٍ حياتيّ، لا يركن في باب موازاة السائد، إنّما الخروج عليه، برؤية جديدة. وهذا أهمّ ما يمكن أن يجعلني أتمسك بكون الفن الروائي تجاوزًا للمألوف، وخروجًا عليه لابتكار شكل آخر، لا محاكيًا ولا موازيًا، بل خارجًا على السائد، وعلى كل ما يمكن أن يركن له.
- الحكاية
تدور أحداث (نزلاء العتمة)، في عالم الموت، والجغرافية المكانيّة والمعنويّة، لعالم المقابر. إذ ينتقل (مصطفى)، الشخصية المحورية في الرِّواية -والتي حملت كثيرًا من عناصر المقولة الروائيّة لنزلاء العتمة- في عصاري يوم ماطر، من الحياة إلى الموت، إثر تعذيب تعرَّض له في المعتقل، بعد أن ردَّد هذه العبارة المهمة:
"لستُ أبحث عن موتٍ باهتٍ، فحتى الموت أحبُ أن يكون شهيّ المذاق".
تاركًا خلفه زوجته (أماني) الحامل بولد، سيسمّى فيما بعد (حسان) والذي سيكون أحد شخصيات الرِّواية الرئيسة، القابلة للإسقاط، والتأويل، مثلها مثل أكثر من شخصية في هذا العمل. وبتلك العبارة التي افتُتحت بها الرِّواية، أسَّس زياد محافظة للملمح الأوّل والأهم في شخصية (مصطفى)، وهو عدم الركون لسوط الجلاد، ومواجهة سلطة التعذيب، بسلطة المجابهة، وأخَذَ القارئ يسير عبر بوّابة الحكاية، ميمِّمًا نحو تفاصيل مختلفة عن الموت الذي يعرفه بنو البشر، عبر تصوُّرهم المخيالي، دينيًّا، واجتماعيًّا، وتاريخيًّا.
يوغل القارئ أكثر بالحكاية، عندما يغادر (مصطفى) سكينة قبره، بعد أن ترك وراءه عالم الحياة، وقد مني جزء من أيامه فيها بالقضبان، والجلاد وسوطه، وتلك المداهمات النفسية، التي تبدو أكثر إيلامًا من ضربات السوط، والركلات، وكل ما يمكن أن تصنعه أدوات التعذيب. إذ يترك (مصطفى) قبره نزولًا عند رغبة (الفضيل) أحد أهم شخصيات الرِّواية، لاستقبال زائر (ميت) جديد، فيكتشف (مصطفى)، ومعه القارئ بالطبع، الشكل الذي أراده الروائي، للموت، ألا وهو الشق التناظري الذي يقابل الحياة. ففي هذا العالم -الذي ندرك عبر لغة الرِّواية واسترسالها، أنه رطب، وحالك، وتسوده سكينة تهيمن على مَن أمضوا عمرهم في صراع مع أحلامهم وأمنياتهم، ودفاعهم عن الحياة- تتحرَّك عدد من الشخصيات بتباين في مقبرة يرسمها زياد محافظة كعالم مكتمل العناصر، لكنه غير منقطع عن عالم الحياة، فشخصيات الرِّواية تستعيد حيواتها، وحكاياتها وكيف مات كل واحد منهم.
في طقس يومي، يتقاطع مع طقس استقبال المعتقلين الجدد في السجون، يستقبل الموتى زائرًا جديدًا، وعلى رأس المستقبلين يقف (الفضيل)، هذا الذي أيضًا يشبه قائدًا سياسيًا معتقلًا، إذ نتعَّرف على تلك اللحظة الانتقالية، التي تحدث للزائر الجديد، المحمّل بالخوف من الموت، وبالأسى على فقده لحياته، فيختطّ مؤلف الرِّواية، الطريق السردية للفضيل، لتتبدى لنا شخصيته الأبوية، وملامحه ككائن مرجعي لنزلاء المقبرة، حتى إنَّ قبره أكثر سعة من باقي القبور، وهذه إحدى الإشارات المهمّة في سياق دور وشخصية (الفضيل). لكن زياد محافظة، وربّما عن قصد، رسم تلك الشخصية على نحو شبحي إن أجيزت لي التسمية، بحيث يمكن للتأويلات أن تتعدَّد حيال هذه الشخصية المُربِكة بكل إحالاتها المعنوية، والمعرفية، والمجازية، والشكلية.
تنتهي مراسم استقبال الزائر الجديد وينفضّ الموتى وقد عاد كل منهم إلى قبره/ مسكنه، دون ملامح، ولا أدري أيضًا، هل عمد صاحب الرِّواية لتجنُّب الوصف التفصيلي/ الرسم المشهدي لشخوص الرِّواية، بحيث تتطابق نتائج ما عمد إليه، مع الفكرة الشبحيّة للموت ولعناصره وأهمها الميت. وإن فعل ذلك بقصد فقد أحدث نقطة منطقية في غاية الأهمية، وكتب ما رمى إليه، بالصدق الذي يُعتبر أهم عوامل نجاح الأعمال الروائية.
تحدث العلاقة بين (مصطفى) و(الفضيل) عبر مسلك هادئ يتنامى فيما بعد، حيث يقرّب الفضيلُ (مصطفى) منه، وهذه خطوة لا تحدث لكل نزلاء تلك العتمة، فيأخذه في جولة في عالم الموت والمقبرة، كأنه يعمِّده، بروح زمن جديد، فتحدُث الانعطافة المهمّة بحياة (مصطفى) في عالم الموت، إذ يتعاطى مع قبره ولحظاته فيه، بحيوية معنوية ومادية، تشي بدفاعه عن حريته، وحقه في العيش حتى في عالم كهذا.
يتعرَّف (مصطفى) بـِ(أم طه) التي تنظر إلى (الفضيل) من زاوية مختلفة عن باقي الشخصيات، فتكشف لـِ(مصطفى) جانبًا جديدًا من شخصية (الفضيل)، ألا وهو أسى يقع رهينة له بسبب عزلة يعيشها (حسان)، إذ يمضي جلّ وقته حزينًا يجلس مصابًا بالسهو والشرود. فتطلب من (مصطفى) أن يتكفّل بمهمّة اختزال ذلك الأسى من ذلك الولد الصغير. تأخذ حياة (مصطفى) في عالم الموت شكلًا آخر منذ أن أخذ يتدبّر أمر (حسان)، ثم تظهر شخصيات أخرى مناهضة لكل سلوكات (مصطفى) المتقاطعة مع عالم الحياة، وأهمها شخصية (ياسين) وجماعته الذين عارضوا ما رأوه تعكيرًا لصفو موتهم، ومخالفة للسائد. تمضي الحكاية ما بين استعادة مصطفى لسيرته سجينًا في عالم الحياة، ومصابًا بأسى عدم رؤيته لابنه قبل أن يموت، وما بين عالم المقبرة الذي أخذ يؤثثه بوعيه الحياتي. تولد شخصيات جديدة في الرِّواية إثر انتقالها من عالم الحياة، وتبدأ حكايات جديدة تتقاطع ببعضها بعضًا على الرغم من اختلافاتها، مثل شخصية الشاعر وعازف الناي، فيأخذ (مصطفى) بتأثيث عالم المقبرة بالضوء عبر شموع عثر عليها هناك، وبالشِّعر والموسيقى بعد أن أقنع الشاعر أن يقوم بالعزف على الناي. تتصاعد الأحداث بعد أن تتم المواجهة فكريًا وماديًا بين (مصطفى) وجماعته الداعين لمقاطعة الموت بالحياة، وبين (ياسين) وجماعته المناهضين للفعل الذي رأوه خروجًا على السائد، يخالف ارتدادهم للكلاسيكي والموروث. لكن وسط تنامي هذه المواجهة يبدو (الفضيل) صاحب الشخصية الأبوية، والصفة المرجعية، وحكيم العتمة، محايدًا لا يقدِّم أيّ جهد في ترجيح كفة المواجهة، وربما عمد زياد محافظة لهذا الشكل من المواقف في روايته، ليضفي على الشخصية صفة تأصيلية لهذه الشخصية المرجعية، لتدمغ بملمح ديمقراطي يحيل النتائج إلى ضرورتها الصراعاتيه المعرفية. لكن في هذا المفصل يختلط الأمر على القارئ بحيث يتقاطع عالم الحياة بعالم الموت، وتختلط التفاصيل.
على نحو مفاجئ تظهر شخصية الجلاد وقد كان يمارس فعل القهر ضد (مصطفى) في عالم الحياة، ويأخذ الصراع يتنامى لدى الشخصيتين، إلى أن يعترف الجلاد لـِ(مصطفى) بندمه على ما فعل، لكن (مصطفى) بدا منحازًا للحرية والحياة بدلًا من انحيازه لثقافة الانتقام.
يدعو (مصطفى) بعد أن يتمكّن من كسر حاجز الأسى الذي يلوذ به (حسان)، وبالتالي (الفضيل)، إلى حفلة موسيقية، وشعرية، وفعلًا يحدث ذلك على الرغم من معارضة (ياسين) وجماعته، فتأخذ الحياة في عالم المقبرة إلى التحوُّل والانعطاف نحو الضوء والشعر والموسيقى والحكمة، فيتبدّل حال (حسان) و(الفضيل) و(أم طه)، لكن جماعة (ياسين) أخذوا بالمناهضة المادية، فتعرّض (مصطفى) للضرب، ووُجِّهت تهديدات للشاعر ولـِ(أم طه) ولآخرين بعدم التعاطى مع هكذا سلوك.
ثمّة شخصية مفاجئة اسمها (فدوى) تنهي الرِّواية، بحيث تقدِم (فدوى) على الانتحار وهي تقف على حافة البحر، بعد أن عرفت امرأة تمسك بصورة وتبكي ولدها الميت واسمه (حسان)، فيكتشف القارئ بعد أن عرفت (فدوى) حسانًا، أنَّ (حسان) ليس ابن (الفضيل)، إنّما هو ابن (مصطفى) الذي طالما تمنّى أن يرى ابنه ويمنحه شيئًا من الفرح.
- الرُّؤية المُشتَقة
انتهج زياد محافظة في روايته هذه، فعل تقابل العوالم والمصائر بعضها ببعض، عالم الحياة مقابل عالم الموت، الضوء مقابل العتمة، الحرية مقابل التطرُّف، الوعي مقابل الانغلاق. وبنى روايته على هذا الأساس الذي وجدتُه متينًا إلى درجة لم يدع القارئ متفرجًا، بل شريكًا في صياغة الحدث. بحيث أزال بتصوُّره وبمخياله الروائي شيئًا من الخوف الذي يلفّ فكرة الموت في ذهن الآدمي. وصاغ عالم المقبرة صياغة أدت إلى ابتكار شكل ثالث للحياة، تشير تفاصيله إلى تمجيد فكرة الحرية، والوعي، والإعلاء من مشاعل الأحلام، وعدم النكوص قبالة أيادي العبث وهجمات الظلاميّة. فقراءتنا لشخصيات الرِّواية تشي بعالم مكتمل على الرغم من أنَّ حاضنته المقبرة؛ عالم تأثَّث بفكرة الضوء والشعر والموسيقى والحكمة والفن، الذي كانت أداته مسمار عثر عليه مصطفى في قبره. فقد عمد زياد محافظة إلى مقولة استخلاصيّة مهمّة للرواية مفادها أنَّ الحياة هي الحلّ الأمثل حتى في عقر الموت، وأنَّ نزوع الإنسان يجب أن يكون دومًا نحو الوعي، والحرية والحوار، وهذا ما تقاطعت به شخصية (الفضيل) وقد بقيت محايدة، لم تتبنَّ فكرة البطش والقوة المضادة، حتى في ظلِّ تنامي البطش المتطرِّف من جهة جماعة (ياسين)، هذه الجماعة القابلة للتأويل، مثلها مثل شخصية (الفضيل) نفسها.
• كتابة الموت كسؤال وجودي
"تراب الغريب" لهزاع البراري أنموذجًا
جاءت رواية تراب الغريب للروائي والمسرحي الأردني هزاع البراري على شكل مشاهد روائية متداخلة؛ إذ يختلط صوت السارد بصوت الشخصيات ويتماهون ببعضهم بعضًا، هذا التماهي الذي من خلاله نلمس موقفهم من ثنائية الحياة والموت، موقف الشخصية المثقفة، وموقف السارد المأزوم بعديد من القضايا؛ إذ إنَّ سؤال الموت في هذه الرِّواية ليس سؤالًا اعتباطيًّا، إنَّما هو سؤال وجودي يشير إلى قلق السارد والشخصيات، وقلق المؤلف نفسه. فالمتابع للعديد من روايات ومسرحيات هزاع البراري لا بد أن يلاحظ اهتمامه بموضوعة الموت كجهة أخرى للحياة.
فالعنوان (تراب الغريب) يحيل إلى تأمُّل المفردتين ضمن موضوعة الموت عبر الثنائية التي تقوم عليها الحياة، وبالتالي تقوم عليها هذه الرِّواية. فالتراب حضن البذرة التي تصعد منها الشجرة رمز الحياة، وكذلك هو الحضن الأبدي الذي يضم جثث البشر. والغريب مفردة تطلَق على العابر، والعابر شخص له انتماءات في مكان آخر. وغريب هزاع البراري وجودي له انتماءات خارج نطاق الكون شأنه شأن العديد من المنتمين فكريًّا على وجه هذه البسيطة. فهو يرى الحياة كما رآها (غوته) "حيلة الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة"، فقد بقي طوال النص الروائي غريبًا دون اسم حتى عن نصِّه؛ إذ إنّه ينزع إلى فضاءات جديدة.
تتحرَّك شخصيات (تراب الغريب) في أكثر من مكان (بيروت، عمّان، الكويت، العراق، القدس، نابلس، السلط) وفي سياق ذهني مأزوم، لكن ثنائيّة استثنائيّة ميَّزَت هذا العمل ألا وهي حوارات الرجل مع المرأة حيال الحياة والموت، على الرغم من أنَّ الرِّواية تضمَّنت أكثر من نموذج من الشخصيّات مثل المتديِّن، والملحد، والبدوي، وابن المدينة.
تبدأ الرِّواية بجملة على لسان السارد: "هذا قبري". ثم يُدخلنا في حوار مع (ثريا) ويتَّجه بنا إلى حديث حول الموت بعين على الحياة وعين أخرى على فكرة الموت بحدّ ذاتها. وتمضي بنا الرِّواية عبر مشاهدها القصيرة نوعًا ما لنكتشف موقف الشخصيات من الموت، وموقف السارد نفسه وكأنه أراد أن يحيلنا إلى استحالة تجزئة موقف السارد عن موقف الشخصية وتقاطع هذا الموقف مع استحالة تجزئة الموت عن الحياة.
لكن السؤال الذي يبرز ونحن نقرأ (تراب الغريب)؛ ما الذي يريده هزاع البراري من ملازمة هذه الموضوعة؟
إنه القلق الوجودي الذي يدفع الكاتب وبالتالي شخصيّاته الروائيّة إلى التساؤل حول الموت وعلاقته بالحياة. فمن خلال تفاصيل الواقع الذي نجده في هذه الرِّواية مأزومًا يلحُّ سؤال الموت كواحد من أهم أسئلة الوجود الكبرى، وربَّما يتساءل القارئ بشكل موازٍ وهو يرى الموت يطارد شخصيات الرِّواية عن كونه سلطة مطلقة وهو يتجلّى بأشكال عديدة، فالموت في (تراب الغريب) ليس فقط الموت البيولوجي وعوالم المقابر، إنَّما هنالك أشكالٌ أخرى ظهرت من خلال إحساس عدد من الشخصيات بالموت على الرغم من حركتها على أرض الحياة، وهذا بالتأكيد مردُّه إلى أزمة الواقع الذي صاغ هذه الشخصيات على هذه الشاكلة. وربَّما أراد الروائي التطرُّق إلى علاقة الروح بالجسد وكيف يمكن أن تؤول الحال عند مرض أيٍّ منهما. فالهزّات الكبرى عربيًّا -كهزيمة 67- أنتجت تشظّيًا داخليًّا على المعمار الإنساني العربي الداخلي، وها هو ينسحب على بنية النص عند هزاع البراري ومن قبله (تيسير سبول) و(مؤنس الرزاز) وآخرون. وهذا التشظي واحد من أسباب كتابة الموت في الرِّواية العربية، حيث إنَّ الأزمة لم تطل الجسد فقط، بل طالت الروح أيضًا؛ الأمر الذي دفع بعدد من الكتاب للانتحار مثل الروائي تيسير سبول الذي كتب على أثر هزيمة 67 روايته الحداثويّة (أنت منذ اليوم) ثم أطلق الرصاصة على رأسه منهيًا حياته.
كُتب الموت في (تراب الغريب) بلغة محمَّلة بشعريّة عالية، وبعيدًا عن الرعب الذي يصيب الآدمي جراء التفكير بموضوعته، فلم نكن أمام سوداويّة كسوداويّة (كفاكا) بل تقترب من روح (سارتر) في مقاربة هكذا موضوعات، ويمكننا القول هنا: إنَّ هزاع البراري ذهب إلى ما يمكن تسميته جمالية كتابة الموت. فـَ(نسرين) إحدى شخصيات العمل واجهت موتها بعيدًا عن طقس الرُّعب المعتاد، بل رأت فيه ذهابًا إلى ضفّة أخرى يعوّل عليها. وربّما لا يتقبّل القارئ هذا المنحي في التفكير، لكن الشخصية هنا نتاج وعي المؤلف وبالتالي صياغة روايته على هذا النحو الإشكالي، بخلاف المصير الذي آلت إليه (ثريا) وابنها حينما قتلتهما القبيلة وفق قوانين منظومتها الاجتماعية المتشدِّدة.
من خلال معاينة الرِّواية لمواقف الشخصيات من الموت نجد أنَّ الكاتب ذهب بنا إلى ما هو أبعد ممّا يسبق الموت من ألم جسدي وروحي، فقد رأى أنَّ الموت والحياة يمرّان بالألم ذاته، وما نشاهده من وجع المحتضر يشبه آلام المرأة عند المخاض الذي فور انتهائه سيقود إلى الراحة الأبديّة، وموت الألم نفسه. ثمّة عبارة أتت في الرِّواية تشير إلى ما ترمي إليه (تراب الغريب) من وراء ملازمة موضوعة الموت: "القسوة ليست في الموت، الموت شهوة لا بدّ أن تأخذنا، القسوة أن تسجن روحك في مدفن قصيّ موحش".
• خلاصة
وفي النهاية، لا بدّ من القول إنَّ سؤال الموت من أهم أسئلة الوجود الكبرى التي تشغل الروائيين، والتي قاربوها من أكثر من زاوية، ونظروا إليها عبر أكثر من توجُّه سواء كان أدبيًّا، أم فلسفيًّا، أم علميًّا، أم فانتازيًّا. إنها الموضوعة التي كانت وما زالت وستبقى تشغل الروائيين وتدفعهم إلى إطلاق أسئلتهم الخاصة وتفكُّراتهم حيال مصير سيؤول إليه كل إنسان، هذه التفكُّرات التي كانت أمرًا كبيرًا في حيِّز تفكير كثير من الحضارات والفلاسفة، وشغلت وما تزال تشغل حيّزًا واسعًا من تفكير الإنسان الذي سيبقى يتساءل عن سرِّ حياة يأتي إليها بغير إرادته، ويغادرها بغير إرادته.