محمد عطية محمود
كاتب وناقد مصري
تعكس رواية "زهر الليمون" حالة القلق التي تنتاب الشخصيّة الرّئيسة، والتي تخلخل العلاقة بينها وبين المكان، من خلال خطين أساسيين يمضي بهما السَّرد، خطٌّ بين تجليات المكان كمحرِّض على عملية التداعي التي تلتبس الشخصية، وما يمكن تسميته "سرد المتاهة" الذي يعمل على تجسيد الإحساس بالاغتراب وتعميقه، مع خط آخر يتمثل في الرَّصد المدقِّق لأحوال تغيُّر المجتمع الذي ينحو نحو سمات جديدة تتداخل وتشتبك ضاغطة على وعي الشخصية المأزومة.
في رواية "زهر الليمون" للرِّوائي علاء الديب، تبدو العلاقة بين الزمان والمكان والذات على نحو من الالتحام والتماهي مع التفاصيل الدالة، المشتبكة أيضًا مع اللحظة الآنية التي تشعل الحدث الروائي وتؤجِّجه، وتفتح بابًا للتداعي والعودة عبر سراديب الذات وتاريخها السُري، وتاريخها المُحدث في توازٍ وتبادل أدوار يتمثّلان على نحو من اضطراب النفس وغربتها المشتعلة في ضمير المسرود عنه/ الشخصية الرئيسة التي يتحرَّك من عندها الحدث خارجيًّا وداخليًّا منبثقًا من الذات التي تعنى بتلك التفاصيل الرتيبة الدالة على التشظي، والتي تؤسس وتؤطر لتلك الأزمة/ الحالة التي يطرحها النص الروائي، على خلفية صراعها الداخلي وما تختزنه في وعيها المضطرب من ذكريات وتداعيات وصراعات غير معلنة مع الواقع المحيط إمّا بالرفض أو بالتعايش السلبي.
من خلال تقنية تتراوح فيما بين الرصد الدال على الفترة السردية المعاشة التي تطرح ثيمة الاغتراب وتؤصل لها لتكون نتاجًا لمرحلة اجتماعية وسياسية ملتبسة، برصد تفاصيل الحياة السرية للشخصية على نحو من التحليل النفسي والاجتماعي الذي يساهم بلا شك في بناء الشخصية، وما آلت إليه في واقعها الآني، وتأثيرها في سلوكها النازع إلى معانقة ثيمة الاغتراب والتغييب الذي تنتشر غوائله فيما حولها على أثر مرحلة من الانكسار وانعدام التوازن قد يسقطها النص على واقع عام.
يبدو التعبير بالعنوان، كعتبة أولى للعمل الروائي، واقعًا بين مفردتين دالتين؛ فالزهر، وهو جمع زهرة، يذهب بالمعنى المراد تحميله نحو العام، وإن كان منطلقًا من معاناة ذاتية مفردة، كما أنَّ الاستعانة بشجرة الليمون تحديدًا، لما لها من غزارة في الثمار، وسمة طاردة لزهورها بمجرّد اكتمال النموّ، وفي ذلك ارتباط وثيق مع واقع شخصية الرواية المفردة كنموذج يمكن إطلاقه على السياق العام، دلالة على الوقوع في دائرة التلاشي والتشظي التي تخلقها هذه الحالة الرمزية المتسقة مع عملية الاغتراب التي تسوقها الرواية على نحو الاشتباك مع الواقعين: الفردي والعام.
***
تتحرك نقطة انطلاق السرد/ رحلة المسرود عنه، بدءًا من تحديد تفاصيل المكان والزمان والشخصية المأزومة، بمشهديّة دالّة على تجسيد الحالة التي تلتبس المسرود عنه/ الشخصية الرئيسة المحورية، والتي تتلاقى عندها كل خطوط السرد وصيغه المتراوحة بين السرد بضمير السارد العليم على مدار الرواية، وضمير المُخاطب الذي يخترق عملية السرد الرئيسة بجمل وامضة نافذة في عمق الشخصية بقصد المواجهة المباشرة مع الذات، في علاقة ثنائية متبادلة. في الوقت الذي تبدو فيه سمة ثنائية العلاقات نفسها أيضًا بين المكان، وعملية السرد التي يُختزل فيها عنصر الزمن ليصير مجرّد خيالات وامضة:
"التاسعة صباح خميس، اليوم خميس وغدًا جمعة، ضوء صيف باتر سريع يلامس أطراف الأثاث القليل ويملأ فراغ الغرفة الخالية التي يسكنها عبدالخالق المسيري فوق سطح بيت قديم في السويس الساكنة/ اليوم خميس وغدا جمعة. اليوم يسافر إلى القاهرة. عادة شهرية لامرأة تقارب سن اليأس. عندما يسألونه في القاهرة لماذا تأخّر سيقول: العادة الشهرية قاربت الانقطاع، ويقهقهون. تغلّب على محنة اليوم بالضحك في سرِّه ونفض الملاءة في حماس لا يتعدى أرنبة أنفه".
يتكئ الراوي هنا على عنصر الزمن المرتهن في ذهن الشخصية الرئيسة بتاريخ ذاتي، مع ما ترتبط به هنا السخرية اللاذعة والتهكم/ الحالة التعويضية، بهذه الحالة من الخواء النفسي للانعزال، وتمضي في تيار وعيها تعاند في سبيل الوصول إلى حالة من الثبات أو محاولة الذات الدخول في حيز تفعيل حياتها، وتخيل أنّ ثمة جديد أو تغيير من الممكن أن يُستحدث من عدم أو من خلال تفاصيل الاعتياد نفسها التي تسم الحياة على مدار أيام الأسبوع.
إلا أنَّ الفترة الزمنية الفارقة بين مفارقة الشخصية لمكان اعتيادها/ منفاها، واستلامها طريق العودة إلى القاهرة/ موطنها الأصلي تلتبس بالعديد من المشاعر المتضاربة، ومحاولة كسر هذا الاعتياد الممض:
"فتح النافذتين معًا، رغم تكرار المنظر فقد صدمه جمود الجبل وصموده. صامد، لونه داكن قاتم، ما زال الليل يسكن فيه. لا بد من عيون حيّة يقظة لكي تقتحمه وترى تضاريس الصخر والزمان فيه".
يعكس النص تلك الحالة من الجمود التي تنبثق من داخل المسرود عنه، لتتماهى مع تلك السمة للجبل الصامد كصموده، والمعتم كداخله المقهور، بفعل الزمان وتداعياته؛ بما يمهد لنكء الجرح المختبئ بداخل الشخصية، والذي يجتذب الذات أيضًا للتجوُّل المُر عبر تفاصيل المكان التي تلقي بظلال أعمق وأكثر قتامة من خلال مفردات الحياة المحيطة به في منفاه، مع محاولته للولوج في منطقة نفسية أكثر أمنًا وأكثر انفتاحًا على الحياة على الرغم ممّا يؤرِّقه بها؛ ليواجه بنفسه في مرآة واقعه الساخر الصاخب، كـ"دونكيشوت"/ البطل الوهمي المنهزم ببدائية أدواته وأسلحته محاربًا طواحين الهواء، فهو يحارب طواحين واقعه المعيش خارجيًّا، وذاته المنهزمة داخليًّا:
"وقف أمام صورته الكاريكاتيرية التي رسمها له زميل قديم وهو يمسك في يده سيفًا خشبيًّا وعلى كتفه مِخلة من قماش ملوَّن، ثم قرأ للمرّة الألف الكلمات التي كتبها صديق سُكر عنده في ليلة بعيدة. كتب بقطعة من الفحم إلى جوار النافذة: إنّما الناس سطور كُتبت لكن بماء".
تمثل الصورة الكاريكاتيرية هنا معادلًا رمزيًّا ونفسيًّا لمحددات الشخصية التي تعاند واقعًا معيشًا بسمات بطولة وهمية، وعتاد خاو، كما يشير إلى سماتها الدالة على وقوعها في حيِّز الاغتراب والتغييب الذي تسقطه عليه علاقته بصديقه السكّير المغيب أيضًا، إسقاطًا على واقع يفرض تداعياته وسماته.
• سرد المتاهة
ينتقل السرد إلى حالة الرصد المدقق لأحوال تغيُّر المجتمع الذي ربَّما طالته تلك العوامل، والتي تتناثر في متن النص من خلال عملية الوصف التي تأتي كخلفية لهذا الرصد، حيث يعكس النص هنا حالة القلق التي تنتاب المسرود عنه، والتي تخلخل العلاقة بينه وبين المكان، الذي طالته عوامل التغير والتحوُّل، من خلال خطين أساسيين يمضي بهما السرد، فيما بين تجليات المكان كمحرِّض على عملية التداعي التي تلتبس الشخصية، وما يمكن تسميته "سرد المتاهة" الذي يعمل على تجسيد الإحساس بالاغتراب وتعميقه، مع ذلك الرصد المدقِّق لأحوال تغيُّر المجتمع الذي ينحو نحو سمات جديدة تتداخل وتشتبك ضاغطة على وعي الشخصية المأزومة، فتنطلق الأحاسيس من ذاتيّتها المفرطة الواقعة تحت تأثير استلابها وإجهاض مشروعها الشخصي، إسقاطًا على المفهوم المجتمعي العام، ويربط بينهما بنوع من التراتبية، وبراعة الربط بين الذاتي والآني وعناصر المكان الدالة، فالانتقال عبر الأماكن يشكل زخمًا له مردوده النفسي المضطرب على الشخصية التي تتفاعل مع المكان على نحو كونه مبعثًا للتداعي الحر الذي يعمل على تفريغها من ذكرياتها العالقة المتشابكة في عملية اجترار يوظف لها النص تقنية الاسترجاع بحيث تتركز في عدة نقاط رئيسة تبدأ من "السويس" التي تمثل مكان الإقامة الجبري/ القسري المتوازى مع مفهوم المنفى بكل ما فيه من جمود وخواء وعدميّة، مرورًا بالطريق إلى "القاهرة" والذي تشتعل فيه جذوة من جذوات الذكرى المرتبطة بتاريخه السُري فيها مع المرأة التي شاركته حلمه/ مشروعه في الحياة:
"بعد أن خرج من المعتقل بعام أو يزيد، ودخل إلى جنّة عرضها السماوات والأرض.. عثر عليها في شوارع القاهرة.. هي التي عثرت عليه.. منى المصري.. منى فقط. كم ردَّد اسمها في الليل لكي يغسل بها أحزان روحه. منى وكفى.. راحت تدخل إلى حياته كما تلبس يد رقيقة قفازًا ناعمًا"(ص33).
كما تطلُّ "الإسكندرية" من زوايا الاسترجاع والبوح الداخلي الشفيف الناقع بالحنين، كمحطة انتقال عابرة، وكمكان له في قاع الذاكرة مذاق التطهُّر والاغتسال من الهموم، وطرد هواجس الذات والتحقق من علاقة تنمو مع "منى المصري"، عودة الروح بالنسبة لشخصية "المسيري"، الذي ربّما عوَّل النص على دلالة اسمه الكاشفة:
"كانت الإسكندرية مغسولة في الشتاء بماء المطر، والمقهى الذي يسكنون إليه أكثر النهار خالٍ إلا من بعض اليونانيين العجائز والعشاق. يراقب تحت ضوء الشمس زغبًا أصفر ناعمًا على ذراعها الممتدة نحوه على المائدة، قلب كفها. ودار بأصابعه مع خيوط الكف وهو يحدق في عينيها قالت: أنت لا تعرف أبدًا. جئنا إلى الإسكندرية لكي أخبرك... وأنا الآن صرتُ لك".
ثم يتَّجه نحو "القاهرة" كمرتكز مكاني رئيس في أحداث الرواية من حيث كونها تمثل الجذر أو الأصل الذي نبع منه، وهرب منه على حدٍّ سواء:
"هي القاهرة. لم يغادرها أبدًا. هي لم تغادره. هي الجلد والعظم والنخاع. هي الصليب والذكرى الأبدية. مدينة المدن. متوحشة وجميلة، في هوائها حرية وفي ضوئها قدرة واقتدار. مَن يسكنها عظيم ومَن يغادرها منفي مسكين. لا يقدر أن يغيِّرها أحد. نفض عن نفسه همّ الوحدة. واستقبل الناس والزحام بحب كاد ينساه".
هنا يلوح الإحساس بالنفي متلازمًا مع حالة النوستالجيا التي يطرحها النص لكل من العذاب والنعيم معًا، فالمكان الطارد أصبح بحكم النوستالجيا هو فردوس الفراديس، وبحكم المازوخية التي يتعامل بها المسرود عنه مع ذاته صليبًا تُصلب عليه آماله وطموحاته.
كما يلوح "البار" كمكان جزئي من مكان كلّي هو القاهرة أو المعادل الموضوعي لمفهوم الحياة لدى الشخصية، والتي يسوقها النص ويرتكز عليها السرد في محاولات نازفة لهتك ستر المسكوت عنه، فالبار هو المكان الجاذب/ الطارد الذي تتلاقى فيه الصحبة التي جمعها مصير التغييب والوقوع تحت سطوة التشظي التي تنتاب المجتمع:
"دخل إلى بار "الأمراء" والساعة قد جاوزت الثانية بقليل، كان المكان هادئ الإضاءة ونظيفًا، يمتد بطول عمارة قديمة، وقد رُصّت على جانبيه مناضد رخامية صغيرة. يفرشه الضوء المنساب من نوافذ زجاجية عالية مفتوحة لتجديد الهواء".
تلوح من خلال المكان سمات كشف ملامح شخصية المسرود عنه على لسان الصديق الذي يحرِّره الخمر من خجل مواجهة صديقه بحقيقته العارية، إيمانًا بقدرة الخمر على تحرير العقول والألسنة من عقدتها تحت تأثير الهذيان الكاشف(!)، في قول الصديق الذي قد يلخص تلك السمات ويختصرها في: "أنت مَن تعرّى على شط الحياة ولم يستحمّ.. أنت غوّاص في كوب شاي.. شاعر بلا جنون. فيضحك عبدالخالق لكنه يظل يذكر الكلمات".
كما تلوح المواجهة الشرسة مع الآخرين من خلال "البار" كدال على صورة مصغرة من صور المجتمع الذي يتصارع أفراده المغيبين أو المستغيبين تحت تأثير الخمر التي تأخذ بالعقول مع إعطائها هذه الميزة من الثورة الكاذبة التي قد تكون حجة السكارى والمغيبين والهاربين من جحيم الحياة وإخفاقاتها في استمرار معاقرتها..
كذلك، تأتي شواهد التحوُّلات التي تحدث على سطح المكان، وتتواتر لتشكِّل ملامح جديدة من التشوُّه وضبابية الرؤية التي اعترت جمالياته، وحوَّلتها عن مسارها المنظّم إلى العشوائية الضاربة بالتراث والطبيعة المبهجة عرض الحائط:
"كان يخترق تلالًا من التراب وأكوام الزبالة، ويخوض في خرابات كانت حدائق أقيمت فيها بيوت خشبية للإيواء السريع. الغسيل في الشوارع، وحلل الطعام على النوافذ والنسوة يتحلقن حول التليفزيون في مداخل الغرف المفتوحة على الشارع".
لتفتح هذه المشاهد للشخصية بابًا جديدًا ومتواصلًا للتداعي والاسترجاع الذي يعيده غالبًا إلى "منى" التي كانت أمنيته في الحياة، وصارت المعادل الموضوعي للخيبة والفشل الذريع، وسوء العاقبة التي ولَّدتها علاقة غير متناسبة ولا متكافئة، وما آلت إليه حاله بعد ذلك:
"كان التوقيت مرعبًا، عقب أنْ هجرته "منى المصري" وسافرت. يدور في الشوارع، وبيوت المعارف والأصدقاء، يسكر ويضيع وينام في أي مكان، يمضي النهار نائمًا والظهر في مقهى. يمضغ الصداع والأسبرين، وفي الليل يبحث عن مأوى جديد يتجنّب الأصدقاء المقرّبين، ولا يحب أن يقرب بيت الأسرة، كان يغوص وحيدًا".
لتؤثِّر المشاهد الظاهريّة ودلالاتها طرديًّا على حالة الاسترجاع التي تتوازى وتنغمس وتتورّط مع الحالة الآنيّة المعبِّرة عن ضياع اليوم والأمس في نفسيّة البطل المهزوم الذي لا يكفّ عن الدوران في محيط هزائمه المعلنة وغير المعلنة.
• شجرة الليمون أولًا وأخيرًا
"لا أحد يحتاج إليه، ليس به ضرورة. لا هنا. ولا هناك، تساقط وتساقطت أيامه، كما يتساقط زهر الليمون، بلا نبل ولا أريج".
هنا تبدو القيمة الدلالية لشجرة الليمون وثمارها المطموسة تحت الأقدام، والتي أبرزها النص بعبقرية العنوان الدال، لتكون معادلًا موضوعيًّا للشخصيّة الرئيسة المأزومة/ المنهزمة، كما نجح في جعل شجرتها الأم، الطاردة لثمارها المبذولة لكي تطأها الأقدام نموذجًا دالًّا ومعادلًا موضوعيًّا لمعنى الأم/ الوطن/ الحياة، في مشهد كان جديرًا بأن يكون ختامًا للنص، ولفتح زوايا تأويله، وعدم انغلاقها على معنى محدَّد. إلا أنّ الكاتب عمد إلى إعادة الشخصية ذاتها، مرة أخرى إلى نقطة بدايتها السردية بعدما دارت دورتها المحمَّلة بالفشل، كي تعود أدراجها إلى منفاها، لتكتمل مشهدية دائرية السرد الذي عاد إلى نقطة انطلاقه مرّة أخرى لمعانقة المكان الجاف، إمعانًا في اللا جدوى، وربّما التوحُّد مع مكان الاغتراب بشقيه المادي والمعنوي، وربّما لمحاولة إعادة اكتشاف الذات، وربّما انتظارًا لدورة أخرى من دورات الحنين إلى الجذور.