أحمد أبو خليل
باحث انثروبولوجي- الأردن
عند البدء بإعداد هذا الملف، حول الانتخابات النيابيّة الجارية حاليًّا في الأردن، كان علينا، وانسجامًا مع مهمّة ودوْر مجلة "أفكار"، أنْ نوسِّعَ زوايا النَّظر خارج الحدود السياسيّة للحدث. ونظرًا لأنَّ العدد يصدر قبيل الانتخابات، فقد اجتهدنا أنْ نتجاوَزَ التركيز على الموسم الحالي فقط، أي على انتخابات المجلس التاسع عشر 2020، أو تقديم التوقُّعات أو التَّقييمات لما ستُسفر عنه عمليّة الاقتراع ذاتها. ولكن دون أن يعني ذلك إغماض العيْن عن الظروف الخاصة التي تجري فيها الانتخابات هذه المرَّة، وخاصة من حيث المحدِّدات التي فرضتها إجراءات مكافحة وباء "كورونا"، وانعكاس ذلك على المزاج العام المحيط بالاستعداد ليوم الانتخاب، أو من حيث إجراءات الحظْر المُتفاوتة، وتحديد حركة الحملات الدعائيّة، وغير ذلك.
ليست الانتخابات النيابيّة في الأردن مجرَّد استحقاق دستوري. ونحن إذا توقَّفنا عند هذه النقطة، نكون قد اقتصرنا معالجة الحدث على الجانب الرَّسمي فقط، وهو على أهميّته، إلا انه يحضر كعامل جزئي لا يوضِّح كامل الصورة. إنَّ الانتخابات الأردنيّة، إذا ما نظرنا إليها كعمليّة متكاملة؛ استعدادًا للتَّرشيح، واختيارًا للمُرشَّحين، وعمليةً دعائيّة تواصليّة، وما يرافقها من إجراءات يوميّة تحصل في الواقع بين الناس، فسنلاحظ بسهولة أنها، أي الانتخابات، تعكس جوانب أشمل، من مجمل "الاجتماع السياسي" الأردني.
سيلاحظ قارئ مواد هذا الملف، أنها تكمل بعضها بعضًا، أو هكذا نزعم على الأقل، وهي تسعى إلى تقديم "وجبة" متنوِّعة في الثقافة السياسيّة:
اجتهد الملف في النَّظر إلى ظاهرة الانتخابات خلال العقود الثلاثة الماضية ككل، أي منذ عودة الحياة النيابيّة عام 1989. إذ لا تزال مسألة "العودة" تلك حاضرة، وتتكرَّر الإشارة إليها في الخطابين الرَّسمي والأهلي، ولا تتوقَّف عمليّات مقارنة النتائج بين مختلف المجالس المُنتخبة الثمانية الماضية، كما لا تتوقف التفسيرات عند كل مأزق أو عند كل حدث يتناول دَوْرَ المجلس وأداءه.
تتناول واحدة من مواد الملف، وبقدر من التفصيل، الآثار التي تركتها تغيُّراتُ قانون الانتخاب، وخاصة منذ البدء بتطبيق مبدأ "الصوت الواحد"، وكيف أثّر ذلك على خيارات التَّرشيح والانتخاب. وترصد المادة أثر تغيُّر الأنظمة الانتخابيّة، من نظام "الأصوات المتعددة في دائرة واسعة" عام 1989، ثم مجموعة الأنظمة المتتالية التي ركّزت على تصغير الدوائر، مع بقاء مبدأ الصوت الواحد، وصولًا إلى نظام "التمثيل النسبي للقوائم المفتوحة على مستوى المحافظات" المطبّق في انتخابات 2016 وسوف يطبَّق في هذا العام، وهو النظام الذي رغم أنه من الناحية الرسمية ألغى الصَّوت الواحد، لكنه في الواقع، لم يبتعد كثيرًا، لأنَّ كل قائمة انتخابيّة تلتف حول مرشَّح رئيس واحد.
يعرض الملف جوانب من مسألة "اقتصاديات" العملية الانتخابية، سواء في جانبها المُعلن والرَّسمي أو في جوانبها الخفيّة، ومنها ما هو مشرع أخلاقيًّا وقانونيًّا ومنها ما هو غير ذلك. لقد مرَّت مسألة تمويل العملية الانتخابية بمراحل وطبقت أفكار عديدة، كما وضعت الهيئة المستقلة للانتخابات بعض الشروط والحدود للتمويل، وتناقش المادة، التجلّيات الميدانيّة الفعليّة لهذه الإجراءات.
ولمّا كانت العمليّات الدعائيّة والتواصليّة عمومًا، من أهمّ عناصر العمليّة الانتخابيّة، فقد ناقشت إحدى مواد الملف، التبدُّلات التي فرضتها ظروف العمليّة الانتخابيّة الحاليّة (تحديد المهرجانات والمقرّات وحركة المرشَّحين) والتي دفعت إلى الاعتماد وبدرجة كبيرة، على التواصل الاجتماعي، ليس فقط في الدعاية "الإيجابيّة" للتَّرشيح والمرشَّحين، بل كميدان عام للنِّقاش والنَّقد والهجوم والهجوم المُضاد الذي يُمارَس هذه المرَّة بشكل مفتوح، لا سيّما وأنه بلا أيّ تكاليف.
حاوَلَتْ المادة الرابعة في الملف، عرض ما قادت إليه التجربة الانتخابية خلال العقود الثلاثة الماضية، من خلق أصناف من السُّلوك الانتخابي، يتحوَّل بالتدريج إلى شكل من "الثقافة الانتخابيّة"، تمكّنت من تكييف القوانين والأنظمة والتعليمات والإجراءات الرَّسمية بما ينسجم معها.
بالمحصّلة، يأمل الملف أن يشكّل مشاركة متواضعة في النقاش العام حول قضيّة وطنيّة في غاية الأهميّة.