جميل النمري
كاتب صحفي أردني ونائب سابق
ما زالَ تغيير النِّظام الانتخابي في الأردن من أكثر القضايا سخونة. فمن جهة، يرى كثيرون أنه الوسيلة الحاسمة لتطوير الحياة السياسيّة والحزبية والبرلمانيّة، وبالمقابل هناك رأي يقول إنَّ العلّة ليست في النِّظام الانتخابي، بل في مكان أو أمكنة أخرى، لكنَّ بعض الخبراء يرى أنَّ التغييرات التي جَرَتْ لم تذهب ولا مرَّة بالاتِّجاه الصَّحيح، وكانت تعكس مصالح القوى التقليديّة التي لا تريد تغييرًا.
حتى عام 1993 عرف الأردن نظامًا انتخابيًّا واحدًا، هو الأصوات المتعدِّدة في دائرة متعدِّدة المقاعد. هكذا كانت تجري الانتخابات النيابيّة والبلدية والنقابات. وكانت كل محافظة تشكِّل دائرة واحدة لانتخابات البرلمان لها عدد من المقاعد، ويستطيع الناخب الاختيار من المرشَّحين وبعدد مقاعد الدائرة، وينجح أصحاب أعلى الأصوات. ولا أحد تقريبًا في الدولة أو بين المواطنين كان ينتبه إلى وجود أساليب -أو أنظمة انتخابيّة-أخرى غير ما اعتادوا عليه.
وبهذا النظام الانتخابي نفسه، جرت انتخابات العام 1989، وهي أول انتخابات نيابيّة عامة وحرّة تجري بعد غياب طويل استمرَّ منذ العام 1966، وحتى جاءت الانتخابات النيابيّة عام 1993، حين فوجىء الجمهور بشيء جديد وغير مسبوق، هو تغيير النظام الانتخابي ووضْع نظام جديد في القانون، هو نظام الصَّوت الواحد، ولم يتطلَّب الأمر سوى تغيير عبارة واحدة تتحدَّث عن حق الناخب بإعطاء الصَّوت لمرشَّح واحد. لكن أثر التغيير كان هائلًا وصادمًا.
• 1989: الأصوات المتعدِّدة في دائرة واسعة
لم يمتدّْ النِّظام لدورات أخرى لامتحان تعامل المجتمع معه، فبقيَتْ في الذاكرة تجربة عام 89 الفريدة التي يُحال تميُّزُها إلى قانون الانتخاب فقط، مع التَّغافُل عن ظروفها الاستثنائيّة، فقد جاءت بعد طول انقطاع ومع انفتاح سياسي وإقبال شعبي واسع ومشاركة حماسيّة من القوى السياسيّة والاجتماعيّة، فجاء البرلمان بنسبة تقارب الثلث من الإسلاميين، ونصف هذا العدد من اليساريين والقوميين.
لكنَّ تحليل نتائج الانتخابات من جهة دوائر القرار، أفضى إلى استنتاج بأنَّ هذا النظام الانتخابي يضاعف قوة الإسلاميين أو أيّ فريق سياسي يتفرَّد بالقوة والإمكانات. ذلك أنَّ الناخب غالبًا لا يستعمل كامل حقِّه من الأصوات، بل يستخدم صوتًا واحدًا لابن عشيرته، لأنَّ كل صوت آخر قد يرجِّح فرصة منافس لقريبه، وهكذا فإنَّ النّاخب الملتزم بالحزب السياسي الذي يطرح مرشَّحين بعدد مقاعد الدائرة يمارس أضعاف القوّة التصويتيّة للنّاخب الملتزم بعشيرته، وهكذا فإنَّ حريّة الاختيار لعدد الأصوات التي يمنحها الناخب تخلق تفاوتًا في القوة التصويتيّة لغير صالح المرشَّحين المستقلين العشائريين، فتقرَّر الذِّهاب إلى الصَّوت الواحد لفرض مساواة في القوّة التصويتيّة للناخبين.
على الرّغم من هذه الثغرة، فقد كان هذا النظام مناسبًا تمامًا للمجتمع الأردني والسمات التي تطبعه، وهو ما شاهدناه في كل انتخابات بهذا النظام، حيث يمكن مراعاة كل الاعتبارات الاجتماعيّة المعقدة، وتطبيق كل الخبرات. ففي ميدان المجاملة يفتح النظام الباب على مصراعيه لمجاملة كل المرشَّحين طالبي الأصوات، ويمكن وعد أيّ مرشَّح بالصَّوت، ما دام من حق الناخب أن يصوِّت لعدة مرشَّحين. وفي النِّفاق الاجتماعي يمكن للدواوين والمجالس أن تستقبل كل أنواع المرشَّحين، حتى بوجود مرشَّح من العشيرة أو البلدة أو المنطقة أو حتى الحزب، ويمكن تقديم الوعود بالأصوات والمحافظة على الصِّلات، ويمكن لكل فرد أنْ يَصدُقَ مع مَن يشاء، وأنْ يُخلفَ مع مَن يشاء، ويمكن للمرشَّح أنْ يدَّعي الالتزام بتحالف ما وتحميل غيره مسؤوليّة الإخلاف. وليس بالضرورة أن يثق الناس ببعضهم، لكن النظام يبقي باب العلاقات الاجتماعيّة وتواصل الجميع مع الجميع، والطمع بدعمهم مفتوحًا على مصراعية. وهذا مناسب لنمط العلاقات الاجتماعيّة والعشائريّة السائد، لكن هذا الوضع تلقّى ضربة قاسية بتغيير النظام الانتخابي
• 1993: الصَّوت الواحد في دائرة متعدِّدة المقاعد
بالتحوُّل إلى نظام الصَّوت الواحد حدث انقلاب مشهود وشامل في سلوك الناخبين والمرشَّحين، وأصبح الوصف السائد لهذا النظام "عدّ رجالك وِارْد الميّ". لم يعُد هناك مجال للرِّهان إلا على القاعدة الأساسية الخاصّة بالمرشَّح، وظهر تعبير "صفر أصوات المرشَّح"، فعندما تقول مثلًا إنَّ المرشَّح الفلاني، صفر أصواته ألف صوت، فذلك يعني أنَّ قاعدته الانتخابيّة العشائرية أو المناطقيّة المضمونة هي ألف صوت، ثم يمكن المجادلة بالباقي. وأصبح من العيب أن تزور ديوان عشيرة لديها مرشَّح لطلب الأصوات، ولا حتى أنسبائهم اللصيقين. وأصبحت المعركة الأولى للمرشَّح هي حسم الأمور أولًا داخل عشيرته، مع الخصوم المحتملين، ويُعتبر الفوز بإجماع العشيرة تأهيلًا أوليًّا قويًّا، حتى بوجود نوايا مضمرة لخصوم داخليين. وقاد ذلك إلى تخفيض عدد المرشَّحين. فأن تكون شخصيّة سياسيّة حزبيّة أو عامة أو من أصحاب المناصب، لا يؤهلك للمنافسة، ما دمتَ من عائلة صغيرة، إلا إذا كنتَ نافذًا بصورة قوية لدى عشائر صغيرة أخرى ليس لها مرشَّح منها. والأمر نفسه ينطبق على المدن مع تعديل لطبيعة القاعدة الانتخابيّة، مثل الاشتراك في الأصول والمنابت، كأن تكون من الشوام أو الدروز أو إحدى مناطق فلسطين، ولذلك فإنَّ ترشيحات عدد وافر من الشخصيات العامة في دائرة عمّان الثالثة مثلًا، انحسر كثيرًا في كل دورة لاحقة بعد عام 1993.
وعلى الرغم من هذا التغيُّر المتوقع فقد صدمت نتائج انتخابات 93 المرشَّحين؛ حتى إنَّ عشرات الاعتراضات على النتائج قُدِّمَت من مرشَّحين لم يصدِّقوا أنهم أو زملاء لهم كانوا قد حصلوا في انتخابات 89 على ما يزيد عن عشرة آلاف صوت، حصلوا عام 93 على أقل من ألفي صوت.
تحميل التَّزوير سبب الانخفاض بأرقام المرشَّحين الذين لم يحالفهم الحظ لم يصمد. لقد تعلَّم الجميع الدرس للانتخابات اللاحقة، وأصبح النواب أكثر تركيزًا في الخدمات والتواصل مع قاعدتهم الانتخابيّة المُفترضه. وقد تعدَّلت كل الحسابات للانتخابات ونمط الدعاية الانتخابيّة.
• 1997- 2007: تصغير الدَّوائر
وفق القانون كانت كل محافظة دائرة انتخابيّة واحدة، وهذا كان يُبقي هامشًا أوسع لحركة المرشَّحين لدى الأوساط الكثيرة التي لا تملك مرشَّحًا في القرى والبلدات والمخيّمات. ومع ظهور محافظات جديدة منفصلة عن القديمة أصبحت الدوائر أصغر. وفي عام 2007 تمَّ اعتماد اللواء دائرة انتخابيّة واحدة، فضاقت وتحدَّدت القاعدة الانتخابيّة أكثر، وأصبحت الانتخابات في معظم الألوية هي تقريبًا منافسة محدَّدة بين العشائر الكبيرة وأحيانًا بين أفخاذ هذه العشائر.
سمات العملية الانتخابيّة بدأت تَنْحى إلى شكل محدَّد لا أهميّة فيه للبرامج والخطاب السياسي وللدعاية الانتخابيّة، وأصبح البيان الانتخابي أو البرنامج هو لزوم شكلي يمكن توكيله لأي شخص يحسن الكتابة ويضع فيه ما شاء، والجمهور نفسه لم يعُد يكترث لذلك، وباتت اليافطات والملصقات معنيّة فقط بإبراز اسم المرشَّح وصورته، وأحيانًا مع شعارات لا تعني شيئًا، فالمهم هو التواصل الميداني للمرشَّح مع أبناء عشيرته، ومع الناخبين غير المنحازين بحكم القرابة أو غيرها لمرشَّح آخر. وأصبح السلوك السائد هو زيارة الناس بيتًا بيتًا، إلى جانب الواجب الرَّسمي بزيارة الدواوين، حيث يتم التركيز على الصِّلات التاريخية والمواقف المشهودة في أزمنة سابقة أو معالجة رواسب سابقة لثارات أو احتكاكات بالكلام الطيِّب عن عاداتنا وتقاليدنا والمحبّة والتَّسامح...إلخ. أمّا الحديث السياسي والوطني والبرامجي فأصبح بمثابة "بهارات" إضافية على الكلام "المفيد"، بل إنَّ المرشَّح الذي لا يعيش تقليديًّا في المنطقة التي يترشَّح فيها، يؤخذ كمُستشرق ساذج بالنسبة للمجتمع المحلي.
ومع تصغير الدوائر إلى مستوى اللواء، أصبح هناك دوائر بمقعد واحد للألوية الصغيرة وهذا مكّنها من أن تحظى ولأوّل مرّة في تاريخ النيابة بمقعد مضمون في المجلس، بل ومضمون للعشيرة الأكبر. واختلفت نسبيًّا طبيعة المنافسة عن الألوية الكبيرة التي لها عدة مقاعد، وهذا في الواقع جعلنا من جهة أخرى أمام نظامين انتخابيين مختلفين، فالقوة التصويتيّة لناخب في دائرة من 3 مقاعد هي ثلث القوة التصويتيّة لناخب في دائرة من مقعد واحد. وهذا إلى جانب عيب آخر هو عدم التناسب الصارخ في عدد المقاعد نسبة لعدد السكان في الدوائر. وكان هذا من المبرِّرات القويّة لمهاجمة النظام الانتخابي خصوصًا من قِبَل حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي قرَّر مقاطعة الانتخابات اللاحقة وشاركهم في الموقف بعض الأحزاب الأخرى وشخصيّات مستقلة، دون أن يؤثر ذلك على القرار الحكومي. لكنه قاد إلى التفكير في تعديل فنّي بالنسبة لحجم الدوائر، وذلك بتقسيم الدوائر متعدِّدة المقاعد إلى دوائر فرعيّة كل منها بمقعد واحد.
• 2010: الصَّوت الواحد في دائرة بمقعد واحد أو الدَّوائر الوهميّة
تمَّ تطبيق هذا النظام تشبُّهًا بالنظام البريطاني لكن بصيغة غريبة، فعندما تمَّ اكتشاف صعوبة تقسيم بعض الدوائر، خصوصًا في المدن، بسبب التداخل السكاني ومخاطر الاحتجاج على تقسيم القوة التصويتيّة للعشائر في بعض المناطق، تمّ اللُّجوء إلى التقسيم الافتراضي؛ فإذا كانت هناك دائرة لها 3 مقاعد مثلًا، فقد تم افتراضها مقسمة إلى 3 دوائر لكل منها مقعد واحد، ويُترك للمرشَّحين أن يقرروا النزول في أيّ منها، وللناخبين أن يذهبوا للتصويت لمرشَّحهم في الدائرة التي يختارها. وقد أطلق على هذا النظام اسم "الدوائر الوهميّة". وجوبه النظام بانتقادات واسعة وسخرية دفعت للتخلّي عنه.
• 2013: النِّظام المُختَلَط المُتَوازي
إزاء الوصول إلى طريق مسدودة مع فكرة الدوائر الفرديّة، جَرَتْ العودة إلى التقسيم السابق للدوائر لكن مع إضافة دائرة وطنيّة من 27 مقعدًا يتم التنافس على مقاعدها بالتمثيل النسبي للقوائم الوطنيّة، وأعطي الناخبُ صوتين، واحد للدائرة المحليّة وآخر لـ"الوطنيّة". واعتبر هذا اختراقًا تقدميًّا بهدف التقدُّم خطوة نحو مفهوم المنافسة الحزبيّة، ومغادرة مفهوم النائب المحلي، "نائب الخدمات". وتمَّ اعتماد نظام "أعلى البواقي" لمعالجة الكسور، عند حساب الفائزين.
لكن من العجيب ابتداء أنَّ القائمة الوطنية المنشودة لم تحقِّق المنشود كعمليّة سياسيّة حزبيّة. لقد حسب المرشَّحون فرصهم بسرعة، وهي كانت كالتالي: "أنا من عشيرة كبرى يتسابق عدة مرشَّحين منها على مقعد الدائرة، فالصفقة تصبح أنْ أنْأى عن هذه المنافسة، وأذهب للدائرة الوطنية، حيث يمنحني جميع أبناء العشيرة صوتهم الثاني، فيما صوتهم الأوّل مقسّم على أكثر من مرشَّح في الدائرة المحلية". وهذا التفكير نجح في مواقع كثيرة. أيْ تجميع الصَّوت الثاني للقاعدة العشائرية خلف مرشَّح واحد يمَكّن -مع أصوات مرشَّحين أقل قوّة من مناطق أخرى- مِن تجميع ما يكفي للحصول على مقعد. ومع أنَّ الدائرة وطنية فإنَّ نشاط كل مرشَّح تركّز في منطقة واحدة أو حيث يتوزّع أفراد العشيرة، أو أبناء بلد الأصل، ويتولّى الدعاية في مناطق أخرى أعضاء القائمة الآخرون، وهم غالبًا مرشَّحون ثانويون. وكانت الأمور واضحة تمامًا للأوساط التي نزل منها مرشَّحون، لكن أغلبية المواطنين لم يكُن لديها مرشَّح في الدائرة الوطنية، فلِمَن يعطون الصَّوت الثاني؟ هذا ما أصبح اسمه الصَّوت "الحائر"، فحتى اقتراب موعد التصويت، وبعد أن حسم كل مواطن قراره للمرشَّح المحلّي، بقي حائرًا في الصَّوت الوطني، وقد ظهرت أزمة غياب أحزاب وطنيّة كبرى، أو زعامات سياسيّة ذات شعبيّة على المستوى الوطني، فذهبت الأصوات في مفارقة ملفته إلى شخصيّات إعلاميّة كانت تظهر بكثرة على الشاشات مع بدء زمن الفضائيّات المحليّة. وكان بين المرشَّحين قادة وأعضاء أحزاب (باستثناء جبهة العمل الإسلامي) لكن حضورهم اعتمد فقط على النُّفوذ العشائري والمحلّي.
وقد جاءت النتائج للدائرة الوطنية خلافيّة للغاية، وانطوت على مفارقات بسبب نظام "أعلى البواقي"، فقد نحج مرشَّح واحد من معظم القوائم. أمّا القائمة الأولى من القوائم الناجحة فقد حصلت على 3 مقاعد وبعدد أصوات يقارب عشرة أضعاف آخر قائمة حصلت على مقعد. لقد فتحت التجربة العين على فكرة النسبيّة مرتبطة بنظام أعلى البواقي، فذهب التفكير لتطبيق هذا النظام على الدوائر المحليّة، والتخلّي عن الدائرة الوطنيّة، وهو أمر قريب من مقترح كانت لجنة الحوار الوطني التي تشكلت بقرار من الحكومة عام 2012 قد قدَّمته وحظي بتوافق واسع.
• 2016: نظام التَّمثيل النسبي للقوائم المفتوحة على مستوى المحافظات
كان هذا النظام هو مقترح لجنة الحوار الوطني، وتمَّ اعتماد كل محافظة دائرة واحدة باستثناء عمّان وإربد والزرقاء، وتمَّ اعتماد القوائم المفتوحة لتيسير تشكيل المرشَّحين للقوائم دون افتراض الترتيب المسبق لهم. ولم تُعتَمَدْ الدائرة الوطنية التي أوصى بها بعض أعضاء لجنة الحوار، واعتُمد في القانون نظام "أعلى البواقي" الذي اعترضت عليه أوساط مختلفة. وقد اعتبر كثيرون أنَّ النظام معقَّد وغير مألوف أبدًا للناس، وخصوصًا طريقة احتساب النتائج، لكن الجمهور تأقلم مع النظام وفهمه وكذلك المرشَّحون، ولكن بعد الانتخابات انصبَّ النَّقد على أنَّ النظام لم يغيِّر شيئًا في الواقع ولم ينتج كتلًا برلمانية حزبية.
تكيَّفت العملية الانتخابيّة سريعًا مع القانون الجديد في إطار المنافسة الشخصية والعشائرية نفسها، فالمرشَّح الفردي المنافس فعلًا يبحث عن شركاء من مناطق أو بلدات أخرى، ليس لديهم حجم القاعدة الانتخابيّة نفسه، إلى جانب أقوى المرشَّحين الممكنين من الكوتات المسيحية والشركسية والشيشانية، في الدَّوائر المخصَّص لهم فيها مقاعد. وهكذا تقاسمت الدائرة التوزيع المتوقَّع نفسه للنوّاب بموجب الصَّوت الواحد، بإستثناء مقاعد الكوتا التي لا تذهب لصاحب القاعدة الأقوى، بل غالبًا القائمة الأقوى، لأنَّ الآخرين يستطيعون إعطاء الكوتا الصَّوت دون خشية على مرشَّحهم. طبعًا باستثناء الكوتا النسائية التي تنافس على المقعد الأوّل أيضًا، فيتم الحجب عنها من القاعدة الأساسية للمرشَّحين الآخرين، وقد حدث لقائمة أعضاؤها كلهم من العشيرة نفسها، أنْ فازت بالمقعد سيدة، لأنَّ كل واحد حجب عن الآخرين باستثنائها، وبتكتيك أكثر حرصًا كان يمكن أن يصعد من القائمة اثنان.
الحاجة بالضرورة لمرشَّحين آخرين أقل قوة، أظهر مفهوم "الحشوات"، اي المرشَّحين الذين يكملون العدد المطلوب، وغير مؤهَّلين للفوز، وأصبح هناك شراء لـ"الحشوات"، لضمان أصوات هذا المرشَّح لمن يدفع له من داخل القائمة.
• انتخابات 2020: النِّظام الانتخابي نفسه وتعمُّق الظواهر السلبيّة
لأوَّل مرَّة يتم العمل بالقانون ذاته في دورة انتخابيّة تالية دون أيّ تعديل. والأثر الملموس المباشر، هو تفاقم الظواهر السلبية المرتبطة بالنظام. أصبح تشكيل القوائم أشد صعوبة، فكل مرشَّح عليه أن يوازن بين الحاجة إلى مرشَّح لديه قاعدة كافية لدعم القائمة، ولكن ليس إلى الدرجة التي تنافسه بعدد الأصوات. وكان النزاع داخل القائمة يشتعل في الانتخابات الماضية لأنّ المرشَّحين كانوا يفترضون أنّ شركاءهم ملتزمون معهم، ثم يكتشف غير ذلك، فيعتبر ما يجري غدرًا وخيانة. لكن عام 2020 انقشع هذا الوهم، إذ أصبح كل واحد يعرف سلفًا أنه لن يحصل إلا على أصواته، وأنّ المنافسة الداخلية هي جزء من طبيعة نظام القوائم المفتوحة، فأصبح تشكيل القوائم أصعب، وأصبح التنافس يبدأ بين المرشَّحين على الشريك على مقعد الكوتا، لأنه حليف مضمون، والباقي "حشوات"، لكن العثور على حشوات بات أصعب، لأنه بات معروفًا أنَّ مَن يأتي كـ"حشوة"، هو شخص باع نفسه وقاعدته الانتخابيّة بالمال، وقد تطوَّر نظام شراء الأصوات من الشراء الفردي، إلى شراء "مقاولي الأصوات"، بصفقات يتحدَّد فيها عدد الأصوات التي يلتزم الشخص بجلبها، وفي بعض الدوائر يتم الاتفاق بين المرشَّحين المستعدّين للشراء على تقاسم مناطق الشراء والسماسرة، وتحديد سقف سعري للصوت. إلى جانب ذلك دفع نظام التمويل الجديد للأحزاب الذي ربط التمويل بحد أدنى لمرشَّحي الحزب، إلى تكاثر المرشَّحين الحزبيين حتى لو لم تكن هناك فرص للنجاح. وستظهر قوائم تتشكَّل من ائتلاف مرشَّحي أحزاب، ولكن على نطاق محدود جدًا لأنّ المرشَّحين "المعتبرين"، حتى وهم أعضاء في الأحزاب، لا يستطيعون الخروج عن الاعتبارات العشائرية، مثل وجود مرشَّح إجماع غيره من العشيرة. وما حدث في الجوهر أنَّ المحدِّدات ذاتها، البعيدة عن التنافس السياسي البرامجي الحزبي والمستندة على القيم التقليدية، كيّفت نفسها مع النظام الجديد، ويبدو أنها قادرة على التكيُّف مع أي نظام ومع أي تغيير في القانون.
ما زال تغيير النظام الانتخابي في الأردن من أكثر القضايا سخونة. فمن جهة، يرى كثيرون أنه الوسيلة الحاسمة لتطوير الحياة السياسيّة والحزبية والبرلمانيّة التي يوجد اعتراف عام بضعفها، واعتراف بقصور الواقع السياسي عن الارتقاء إلى الحالة المنشودة، وهي ديمقراطية متعددة الأحزاب تنتج حكومات منتخبة، وتداولًا على السلطة التنفيذية بين أقلية وأغلبية. وبالمقابل هناك رأي يقول إنَّ العلّة ليست في النظام الانتخابي، بل في مكان أو أمكنة أخرى، بدليل أنَّ تغييرات متواترة جرت على قانون الانتخاب، ولم تؤدِّ إلى نتيجة أفضل. وأنَّ المهم هو نزاهة الانتخابات ومنع المال الفاسد من التحكُّم بها. وهذه وجهة نظر مُعتبرة، لكن بعض الخبراء يرى أنَّ التغييرات التي جرت لم تذهب ولا مرَّة بالاتِّجاه الصَّحيح، وكانت تعكس مصالح القوى التقليديّة التي لا تريد تغييرًا. وهذا التجاذب استمرَّ مع كل تغيير دون الوصول إلى نظام انتخابي مقنع ومقبول من الجميع. مع ذلك فالتغييرات أذكت الحوار حول النظم الانتخابيّة ورفعت المعرفة ومستوى الثقافة العامة بشأن النظم الانتخابيّة وتأثيرها على الحياة السياسيّة الديمقراطيّة.