وليد حسني
صحفي وباحث أردني
wld_hsn@yahoo.com
في هذا الموسم الانتخابي الذي وقع تمامًا في أسر فيروس "كوفيد 19"، تعطّلت تمامًا كل أدوات الإنتاج الاقتصادي الانتخابي، باستثناءات قليلة لا تكاد تُذكر، فتراجَعَت الدعاية الانتخابيّة المباشرة كاليافطات وإعلانات الصُّحف والمهرجانات والمقرّات وغيرها، لكنَّها في الوقت نفسه رفَعَت من الكلفة الماليّة على بعض المُرشَّحين، بسبب وجود قنوات صرف سِرِّيّة في الانتخابات لا تخضع للسَّقف القانوني للدعاية الانتخابيّة؛ قنوات لا يمكن إثباتها أو نفيها تتعلّق بشراء الذِّمم.
لا تبدو مظاهر الدعاية السياسيّة الانتخابيّة في الأردن لانتخابات مجلس النواب التاسع عشر، هي ذاتها التي تكرَّرت في المواسم الانتخابيّة السابقة من حيث البذخ الدعائيّ في كل ما يرافق عملية تسويق المرشَّحين في سوق الجمهور.
ذلك البذخ كان يتحوَّل عادة لمواضيع أحاديث جمهور الناخبين، ومجتمع الإعلام، ثم ينتقل إلى مجتمع النوّاب أنفسهم، الذين لم يكن معظمهم يخفي الكلفة الماليّة التي تحمَّلها من أجل الوصول إلى قبّة البرلمان.
في المواسم الانتخابيّة السابقة، كانت الكلفة الماليّة لبعض الحملات الانتخابيّة، تصل إلى أرقام فلكيّة، فيما سُجِّلت حالات قليلة ومحدودة لمرشحين تكلّف جمهور الناخبين بالصَّرف المالي على حملات مرشحين فقراء وصلوا بالفعل إلى قبّة البرلمان.
لكن الصورة اليوم مختلفة كثيرًا، فأيّ جولة لمُراقب في شوارع المملكة سيلحظ سريعًا تواضع الحملات الانتخابيّة الدعائيّة خاصة تلك المتعلقة باليافطات التي تتزاحم على "أطاريف" الشوارع، فضلًا عن النشاطات الدعائية الأخرى، هذا الفرق يظهر سريعًا إذا ما قورنت منتجات الدعاية السياسيّة اليوم بما كانت عليه في انتخابات 2016 السابقة على الأقل.
في هذا الموسم الانتخابي، لا تبدو مؤشرات اقتصاد الانتخابات النيابيّة لمجلس النواب التاسع عشر إيجابيّة تمامًا بالنسبة لمُنتجي الخدمات ومقدِّميها، فقد أثَّرت جائحة الكورونا "كوفيد 19" على كل مناحي الحياة الأردنيّة، وآذت الاقتصاد الأردني وأثَّرت بعمق أكثر إيذاءً في اقتصاديّات الحياة اليوميّة والمعيشيّة للأردنيين جميعهم.
تلك هي الصورة الشاملة دون تفاصيل أوسع للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأذّي تمامًا للأردن، الذي ينخرط في ورشة انتخاب 130 نائبًا للبرلمان التاسع عشر، في العاشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 من بين 1717 مرشَّحًا ومرشَّحةً يخوضون الانتخابات في 23 دائرة انتخابيّة ويتوزَّعون على 295 قائمة انتخابيّة، وهي بمجملها من أعلى الانتخابات النيابيّة الأردنيّة من حيث عدد المرشحين وعدد القوائم "في انتخابات 2016، ترشَّح (1252) توزَّعوا على (226) قائمة".
وما يميِّز الانتخابات النيابيّة الحالية، أنها تخلو تمامًا ممّا تعوّد عليه الناخب والمرشَّح على حد سواء، من أجواء انتخابيّة احتفاليّة كانت تستمر في أسوأ الأحوال شهرًا كاملًا هو مدّة الدعاية الانتخابيّة التي يسمح بها قانون الانتخابات النيابيّة.
في هذا الموسم الانتخابي الذي وقع تمامًا في أسر فيروس "كوفيد 19"، اختفت كل مظاهر الاحتفالات، فقد اختفت مقرّات المرشحين التي كانت تزخر بالوافدين وبالزوّار وبالدّاعمين والمؤيِّدين والمُنتفعين، وبالتالي اختفت تمامًا كل مظاهر الدَّعم اللوجستي المباشر التي تُصرف يوميًّا على كل هؤلاء بِدءًا بالماء وانتهاءً بالحلويات وبمناسف العشاء والغداء، مرورًا بكل مظاهر وأدوات الإنتاج، من تأجير الخيام والمقاعد والموظفين الذين يقومون على خدمة الجمهور، ووسائل النقل، والطبّاخين، وصانعي القهوة، ومهندسي الصوت، والكهرباء، والمتطوِّعين، وجامعي المعلومات، وكاتبي البيانات، وخدمة شحن الهواتف الخلويّة، والسائقين، وثمن "المفاتيح الانتخابيّة"، وطباعة الصور و"البوسترات"، والعاملين المكلَّفين بتعليق الشِّعارات واليافطات...إلخ.
كل أدوات الإنتاج هذه تعطَّلت تمامًا، ممّا أوقع خسائر فادحة في اقتصاديات الانتخابات التي كانت تدفع بأيّ مرشَّح لوضع موازنته الماليّة وضبطها بناءً على كل تلك الأدوات التي ستنخرط تمامًا في ورشة العمل الانتخابيّة، ممّا يعني أنَّ هذه الطبقة بكاملها لم تستفِد شيئًا من الموسم الانتخابي، وخرجَتْ منه باعتبارها الخاسر الأكبر.
بالمقابل، فإنَّ المرشحين أنفسهم بدوا أكثر ارتياحًا، فتعليمات قانون الدفاع والأنظمة الصادرة عنه التي ألغت كل مظاهر التجمُّعات باستثناء تجمُّع 20 شخصًا فقط في الحد الأعلى، قد وفّرت على المرشحين ميزانيّة صرف ضخمة ستؤدّي بالنتيجة إلى تخفيض نفقات الدعاية الانتخابيّة وبالتالي انخفاض حاد في اقتصاديات الانتخابات البرلمانيّة.
في هذا الموسم تعطّلت تمامًا كل أدوات الإنتاج الاقتصادي الانتخابي، باستثناءات قليلة لا تكاد تذكر، وستنشط أكثر في يوم الاقتراع في العاشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل مثل وسائل المواصلات والنَّقل والتنقُّل باعتبارها الأداة الوحيدة لنقل الناخبين لصناديق الاقتراع، وهو أمر لا يمكن للمرشحين التخلّي عنه أبدًا، وقد تكون أداة الإنتاج هذه الأكثر كلفة على ميزانيّة الصَّرف الانتخابي للقوائم الانتخابيّة، تُرافقها بالطبع كُلف أخرى لدعم الناخبين وتشجيعهم، على نحو مياه الشرب والعصائر وربَّما وجبات طعام خفيفة لن تتعدى الساندويتشات.
ولا بدَّ من تسجيل ظاهرة في غاية الأهميّة تتعلق بالإعلان الانتخابي مدفوع الأجر، فقد خسرت الصُّحف اليوميّة هذا العائد الإعلاني خسارة تامة، فلم يعُد المرشح يلجأ للصحف اليوميّة لتسويق وترويج ترشُّحه، ممّا أدّى إلى انحسار شبه تام لعوائد الإعلان الانتخابي، والذي كان يُعتبر بالنسبة للصُّحف اليوميّة مصدر تمويل مهم جدًا، واكتفى المرشحون باستخدام منصّات التواصل الاجتماعي "الفيس بوك والتويتر والواتس آب والرسائل الخلويّة"، كوسائل إعلانيّة ذات كلف ماليّة قليلة.
ولا بدَّ من تأكيد ملاحظة في غاية الأهمية أيضًا، لم يتم تناولها سابقًا بالتحليل، وهي عدم تأثُّر بورصة الأسهم الأردنيّة بموسم الانتخابات النيابيّة، لا بالتحسُّن ولا بالانخفاض، على الرغم من أنها تتأثَّر بذلك في معظم الدول الديمقراطية بما فيها دول التحوُّل الديمقراطي التي تشبه النموذج الأردني.
وفي الجانب الآخر، فإنَّ الهيئة المستقلة للانتخابات لم تُجر أي تعديل على التعليمات التنفيذيّة الخاصة بقواعد حملات الدعاية الانتخابيّة وتعديلاتها رقم (7) لسنة 2016، فقد أصدرت تعليماتها مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 دون إجراء أيّ تعديل أو تغيير على تلك التعليمات التي اعتمدتها في انتخابات المجلس الثامن عشر سنة 2016، بتخصيص خمسة دنانير فقط لكل ناخب في الدوائر الانتخابيّة الكبرى، وثلاثة دنانير لكل ناخب في الدوائر الانتخابيّة الصغرى.
وبحسب الفقرة (ب) من المادة (16) من التعليمات التنفيذيّة الخاصة بقواعد حملات الدعاية الانتخابيّة، فقد حُدِّد السقف المالي للإنفاق على الحملة الانتخابيّة وفقا لمعايير خاصة تتعلق أوّلًا بحجم الدائرة الانتخابيّة، وعدد الناخبين، وكلفة المعيشة ثانيًا، بحيث تلتزم القوائم المترشِّحة بالسَّقف المالي الأعلى والمحدَّد في الدوائر الانتخابيّة لعمّان وإربد والزرقاء بـِ(5) خمسة دنانير للناخب الواحد مضروبًا في مجموع الناخبين في تلك الدائرة، و(3) ثلاثة دنانير للناخب الواحد مضروبًا في مجموع الناخبين في باقي الدوائر.
وبحسب التعليمات، فإنَّ لدينا 11 دائرة انتخابيّة تمّ فيها تحديد خمسة دنانير للناخب الواحد، وهي الدوائر الخمس في العاصمة عمّان، والزرقاء بدائرتيها، وإربد بدوائرها الأربع، فيما خُصِّص لباقي الدوائر الأخرى 3 دنانير للناخب الواحد.
ومثالًا على ذلك فإنَّ عدد الناخبين في خمس دوائر انتخابيّة في العاصمة عمّان بلغ (1732194) ناخبًا وناخبة، خُصِّص لهم ما مجموعه (8660970) دينار بواقع خمسة دنانير للناخب الواحد من كلفة الدعاية الانتخابيّة للمرشَّحين في تلك الدوائر.
ومن المؤكّد أنَّ هذه السقوف الماليّة العليا للدعاية الانتخابيّة لا يتم صرفها على أرض الواقع، فضلًا عن أنَّ الهيئة المستقلة للانتخابات وعلى الرّغم من وضعها لآليات عملية للرقابة على مدى التزام المرشّحين بتلك السقوف، إلا أنه لم تسجّل أية حادثة تجاوزت تلك السقوف.
لكن الأهم من ذلك يكمن في وجوه الصرف الأخرى غير المباشرة، على نحو الشراء المباشر لأصوات الناخبين، أو بطريق غير مباشرة من خلال تقديم المعونات العينيّة للأسر الفقيرة تحت عنوان العمل الخيري عن طريق الجمعيّات الخيريّة أو عن طريق المرشحين أنفسهم.
هذا المال يدخل ضمن اقتصاديات الدعاية الانتخابيّة غير المُعلنة، وقد ألقي القبض على عدد من الحالات تمَّ نشر توثيق مصوَّر لها بالفيديو، وبالنتيجة فإنَّ مثل هذه الأموال التي يتم صرفها سرًّا، لا تدخل ضمن السُّقوف الماليّة التي حدَّدتها الهيئة المستقلّة للانتخابات، ولا تُتَضَمَّن في حساباتها.
إنَّ قضيّة استخدام المال الفاسد في اقتصاديات الانتخابات البرلمانيّة، سيبقى من أبرز الجرائم الانتخابيّة التي يصعب إثباتها حتى اليوم في معظم انتخابات العالم، إلّا أنه يبقى عاملًا اقتصاديًّا بالغ التأثير في اقتصاديّات الحملات الانتخابيّة.
وبرزت في انتخابات سنة 2013 ظاهرة جديدة بعد أن عُدّل قانون الانتخاب باعتماد الترشح عن طريق القوائم، إذ برزَتْ على السطح ظاهرة شراء المرشَّحين من قِبَل مرشَّحين رئيسين يستعينون بمرشحين لهم امتدادات عشائريّة وعائليّة ووظيفيّة يتولون تحشيد الأصوات الخاصة بهم للقائمة وللمرشّح الرئيس الذي يقف على رأس القائمة لضمان فوزه.
هذه الظاهرة تعمَّقت في انتخابات سنة 2016، إلا أنها برزت كظاهرة طاغية أكثر تأثيرًا وحضورًا في الانتخابات الحالية 2020، وهذا ما يبرِّر جزءًا من أسباب ارتفاع عدد المرشحين وعدد القوائم الانتخابيّة.
إنَّ وجود شخص واحد في القائمة الانتخابيّة يتولّى الصَّرف على مرشحي قائمته ويدفع لهم مقابل ترشُّحهم إلى جانبه، أصبحت الظاهرة الأكثر حضورًا في الانتخابات الحاليّة والتي تحظى بنقد شعبي وإعلامي واسع خاصة على منصّات التواصل الاجتماعي، بعد أنْ أجمَعَ الناخبون على تسمية هذه الظاهرة "الحشوات"، وهو توصيف مؤلم يعبِّر عن رفض الأردنيين لمثل هذه الظاهرة.
إنَّ ما يتم صرفه من مال على مثل هذه الظاهرة لا يمكن احتسابه من ضمن السُّقوف المالية التي حدَّدتها الهيئة المستقلة أيضًا، وهي جزء لا يتجزّأ من اقتصاد الانتخابات غير المباشر، كما أنه لا يوجد في القانون ما يجرِّمه.
وهناك ظاهرة أخرى تتكرَّر سرًّا في كل موسم انتخابي، تتمثَّل في قيام أثرياء أو اقتصاديين وأصحاب رؤوس أموال ومَصالح، بتشكيل قوائم انتخابيّة يتولّون دعمها ماليًّا ولوجستيًّا لإيصالها إلى البرلمان للدِّفاع عن مصالحهم، ولتمثيلهم في السلطة التشريعيّة، وهي ظاهرة قديمة ما تزال تتكرَّر في كل موسم انتخابي، ومع وجود تلك الظاهرة، فإنه من الصعب كشفها، فضلًا عن أنَّ القانون لا يجرِّم مثل هذا العمل، ويُقال في هذا الصَّدد إنَّ شخصيات اقتصادية تقوم في كل موسم انتخابي بتأسيس صندوق، يتولّى هؤلاء التبرُّع له للصَّرف منه على دعم مرشَّحين.
إلى جانب ذلك، فإنَّ بعض المرشحين يقومون بتشكيل قوائم انتخابيّة كاملة من أجل التأثير على فرص مرشَّح أو مرشحين آخرين منافسين لهم ويتولّون الصَّرف المالي على تلك القوائم ومرشحيها، وهذا أيضًا عمل لا يمكن نكران وجوده، لكن لا يمكن إثباته كجريمة، لكون القانون لم يصنِّف مثل هذا العمل كجريمة انتخابيّة.
وهناك عمليّة التمويل المالي السياسي للأحزاب الأردنيّة، وهو تمويل سنوي تدفعه الحكومة من موازنة الدولة للأحزاب ضمن شروط (50 ألف دينار للحزب الواحد)، وفي انتخابات سنة 2016 أُدخلت تعديلات جديدة على نظام تمويل الأحزاب الحكومي سمحت بموجبه لوزارة التنمية السياسيّة بمنح الأحزاب المُشارِكة في الانتخابات سُلفًا ماليّة من مخصّصات الحزب التمويليّة، وقد انعكس هذا التعديل بشكل كبير على حجم مشاركة الأحزاب في انتخابات المجلس التاسع عشر (2020)، فقد شارك حوالي 40 حزبًا في هذه الانتخابات بتشكيل قوائم ضمَّت 382 مرشحًا ومرشحةً من حزبيّين وغير حزبيّين لترتفع نسبة مشاركة الأحزاب في انتخابات 2020 إلى نسبة 20% من إجمالي المترشِّحين، بينما كانت هذه النسبة 5% في انتخابات 2016.
وإذا كان للمرشحين اقتصاديّاتهم الدعائيّة، فإنَّ للحكومة وللهيئة المستقلة للانتخابات أيضًا اقتصاديّاتها الموازية، فهناك كُلَف ماليّة بالملايين تتحمّلها الهيئة المستقلة للصَّرف على مُجريات العملية الانتخابيّة بكاملها ولا بدّ من احتسابها ضمن اقتصاديّات الانتخابات.
ضمن هذه المعطيات الأوليّة لوجوه الإنفاق المالي الانتخابي، فإنه ما يزال من الصعب جدًا حصر الكلفة المالية للانتخابات بسبب الصَّرف المالي السرّي غير المُعلن، ويمكن هنا التأكيد على أنَّ تراجُع الدعاية الانتخابيّة المباشرة في هذه الانتخابات كاليافطات والمهرجانات والمقرّات وغيرها، قد أثّرت سلبًا على كل أدوات الإنتاج التي تنخرط عادة في العملية الانتخابيّة، إلا أنها مع ذلك رفعت من الكلفة المالية على بعض المرشحين، بسبب شراء مرشَّحين أو إنتاج وصناعة كتل نيابيّة لتقوم بمهمّة تشتيت الأصوات عن مرشَّحين منافسين، فضلًا عن وجود قنوات صرف أخرى لا يمكن إثباتها أو نفيها تتعلّق باستخدام المال الفاسد لشراء الذِّمم واستغلال حاجة الفقراء للمال، خاصّة في ظلِّ ظروف الانتشار المجتمعي لفيروس كورونا المستجدّ في المملكة.