د. حكمت النوايسة
ناقد أردني وباحث في التراث غير المادي
مُنْذُ أدمنتُ التَّعامل مع معطيات التكنولوجيا في القراءة، وأنا أبتعد عن الكتاب شيئًا فشيئًا، إلى أن أدمنتُ قراءة الكتب بصيغة الــ(بي دي اف)، مع محبَّتي قراءة الكتاب الورقيّ وتقليب صفحاته بين يديّ، وإيماني بأنَّ الوقت الذي يمكن أنْ أستغرقه في قراءة كتاب ورقي أقلّ من الوقت الذي أستغرقه في قراءة كتاب إلكتروني، ولكن، هي الحياة، تسير إلى الأمام.
عنوان هذه المقالة ثقافة الصورة، وصورة الثقافة، جاء من الأجواء التي نحن فيها، أجواء التكنولوجيا في الثقافة، فقد رصدتُ منذ زمن، ورصَدَ كثيرون غيري في مواقع التواصل الاجتماعي، وأشهرها (الفيس بوك) أنّ حالات الإعجاب قد تصل المئات أو الآلاف إذا نشر صاحبُ كتاب صورةَ غلاف كتابه الجديد، والمُباركات تتوالى إلى آخر الأصدقاء، ولكن عندما ينشر صاحب الكتاب نفسه مقتبسًا أو عبارةً من الكتاب، فإنَّ تلك المجاملات تختفي أو يختفي أغلبها، وكأنَّ الأصدقاء الذين يُعدّون بالآلاف لم يمرّوا من هنا، وكذا الحال عندما يغيِّر صاحب الصفحة صورة (البروفايل) فإنَّ الإشارات بالإعجاب تملأ الصفحة، ولكن العكس سيكون لو كَتَبَ في أمر مهمّ، أو كَتَبَ نصًّا جيدًا، وكل هذا يقودنا إلى قراءة هذه الظاهرة، ظاهرة البحث عن العاجل، الذي لا يكلّفنا شيئًا، والقراءة تكلّف كثيرًا من الوقت، فيما وضع إشارة الإعجاب لا يكلّف شيئًا، وتأتي في قلب الكاتب الحسرة على ما أتعب نفسه فيه، وكتب ما كتب.
إنَّ الإشارات بالإعجاب لا تقيِّم المكتوب، بل الأصدقاء أنفسهم هم الذين يقيِّمون ذلك، وإنَّ المساحة الزمنيّة المُتاحة لظهور النص على الصفحة قد لا تكون كافية لقراءته من قِبَل القرّاء/ الأصدقاء كلّهم، من هنا يذهب النص لانشغال الصفحة العامة بالكثير من النصوص غيره، ولانشغال القارئ/ المتصفّح بأمور أهمّ، فقد بتنا ننشغل بأمرين مهمّين اجتماعيًّا في هذا الفضاء: التَّعزية والمُباركة، وما على المُتصفح إلا أن يأخذ معه دلوًا من الدُّموع، وشاحنة من الورود، يوزِّعها هنا وهناك إلى أنْ يملّ، ويبدأ بالاتِّصال بالأقربين معزِّيًا أو مباركًا، هكذا، يكون الداخل إلى عالم (الفيس بوك) كالداخل إلى السوق قديمًا، يتعرّف أخبار الناس، ويقوم بالواجب الاجتماعي، ويعيد هذه الصفحة إلى الغاية الأساسية التي أنشئت من أجلها: التواصل الاجتماعي، ويضعنا أمام الحقيقة تمامًا، فهي ليست مكانًا للثقافة والتثقيف، ولكنّنا وضعناها في هذا الإطار لأنّنا نبحث عن قارئ، أو نبحث عن مقروء.
إنّ هذا يضعنا أمام الحقيقة: ثقافة الصورة هي صورة الثقافة الآن؛ فالناس/ القرّاء يبحثون عن صورة، والثقافة آخر اهتماماتهم إلا الكُتّاب، والقُرّاء الذين تنطبق عليهم هذه الصفة: قُرّاء. وأمّا العامّة، فإنّهم مشغولون بالعبارات أو الجمل أو الفقرات التي تعبّر عمّا يريدون في حياتهم اليوميّة، وتقول ما يعرفون؛ وهذا أسوأ صور الثقافة عندما يستجيب الكاتب فيقول/ أو يكتب للناس ما يعرفون، في حين مهمّة الثقافة أن تجرح الوعي، وتفتح الآفاق أمام التفكير، وتحفّزه إلى مفازات جديدة، وتجعل العقل في تحدٍّ دائم مع المكتوب.
وبالعود إلى العنوان، فقد وردت فيه كلمة (شِفْتُه) وهي تعبير درج في تناول أخبار صُدور كتاب جديد لكاتبٍ ما، فصار المُتداول بدل كلمة (قرأتُه) كلمة (شِفْتُه) لأنه لم يَرَ إلا صورة الغلاف، ولو أردتُ أنا كاتب هذه السُّطور قراءة ما يُهدى إليّ على الأقل لَما قدرتُ على تركِ مكتبي لتناوُل الطعام، فالتيّار الجارف من الإصدارات يضعنا أمام هذا التَّناقض العجيب الغريب: عدد القرّاء أقلّ من عدد الكُتّاب، إلّا ما ندر، وعندما يشتهرُ كاتبٌ لسببٍ أو آخر، وتتوسَّع دائرة قرّائه، فإنّ هؤلاء القُرّاء وجدوا فيه صورته في الإعلام، ولم يجدوا فيه ما يجرح وعيهم.