د.عبد الفتاح شهيد
أستاذ النقد الأدبي في جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب
على الرّغم من حجاب الأيديولوجيا وتخبُّط التفسير؛ فإنَّ كتاب "رأس المال" يظلّ جهدًا فكريًّا رصينًا راسخًا في التفكير الإنساني، بل إنّ "فرانسيس وين" في كتاب "رأس المال: سيرة كتاب" يزعم أنَّ "ماركس لم يبرز إلا الآن بأهميّته الحقّة، ولعلّه يغدو المفكر الأشد نفوذًا في القرن الواحد والعشرين". حُكمٌ قد يبدو مبالغًا فيه لِمَن ينظر لـِ"رأس المال" من منظور مذهبي، ولِمَن لم يقرأ كتاب "وين" بعد؛ لأنّ الجولة التي قام بها عبر المراحل الثلاث: الحمل، الولادة، ثم الحياة اللاحقة؛ تـُجْلي القيمة الفكرية والعاطفية التي أحاطت بكتاب "رأس المال".
في كتابه "رأس المال: سيرة كتاب"(*) يكشف "فرانسيس وين" ارتياد "ماركس" لمجاهيل الرأسمالية، وتحليله لإشكالاتها الدقيقة، ويُوضِّح أشكال استقبال القرّاء لـِ"رأس المال" في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا، في حياة "ماركس" ثم بعد وفاته؛ لدى مَن يوصفون بالاشتراكيين وعند مَن يُنعتون بالليبراليين.... تمتدّ (سيرة كتاب رأس المال) من 1818 سنة ولادة "ماركس" إلى 2000 سنة تأليف واحد من أهم الكتب المعاصرة التي تحتفي به؛ سيرة كتبها "وين" بأسلوب شيّق وإحاطة كبيرة بالفكر الماركسي وقرب شديد من الاقتصاد الرأسمالي، وهو ما أنتج قراءة متعمّقة لكتاب لا يموت إلا ليحيا حياة جديدة، مشوّقة، ومُلهمة؛ يعبِّر عن قدرة "وين" الخارقة على فتح أعيننا على "رأس المال" خارج المنظومة الأيديولوجية والأحكام المسبقة.
• "ماركس" ينصح بقراءة "بلزاك"
"التحفة الخفيّة" قصة لـ"بلزاك"، نصح "كارل ماركس" صديقَه القديم "فريديريك إنجلز" بقراءتها وهو يستعدّ لتسليم مخطوطة كتابه "رأس المال" إلى الناشر. بطلها "فرينهوفر" الذي أمضى عشر سنوات في رسم لوحة تحدث ثورة في الفن، لكن حين خرج صديقاه من مرسمه بعد أن أخبراه أن لا شيء في لوحته أجهش بالبكاء، ثم أحرق جميع لوحاته وانتحر.. لعلّها كانت المشاعر ذاتها التي انتابت "ماركس" بعد اثنتي عشرة سنة من العمل في كتابه... لقد كانت شخصية "ماركس" خليطًا من الثقة العنيفة بالنفس والتشكُّك المبرح فيها، والمدهش في القصة أنّ "فرينهوفر" فنان حقيقي، وأنّ تلك اللوحة هي وصف مكتمل للرسم التجريدي الذي أتي فيما بعد. إنّ "ماركس" مثل "فرينهوفر" كان حداثيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنه "واحد من العمالقة العظماء المعذبين في القرن التاسع عشر إلى جانب بتهوفن وغويا وتولستوي وإبسن ونيتشه وفان كوخ، ممّن دفعوا بنا صوب الجنون، كما دفعوا بأنفسهم، لكن عذابهم ولّد قدرًا كبيرًا من الرأسمال الروحي الذي لا نزال نعتاش عليه"؛ إنّ الغرض من هذا الكتاب إحاطة القارئ، في حقبة ما بعد الحداثة، بأنه يمكن أن يتعلّم شيئًا جديدًا من قراءة "رأس المال".
• الحمل
يصنّف "رأس المال" على أنه عمل في الاقتصاد السياسي، لكن دعامته كدح "ماركس" المتواصل في الفلسفة والأدب، واغترابه في نظام اقتصادي يستعبد البشر ويُسلّعهم. كان ماركس صبيًّا يهوديًّا في دولة بروسية وكانت ديانتها الرسمية هي البروتستانتية الإنجيلية، تحوَّل والده إلى اللوثرية لتمكنه من العمل كمحام. عاش في بيئة شجعته على القراءة المتواصلة، وظلّ مرتبطًا في رشده بشكسبير ودانتي وغوته، ووظّف في كتاباته اقتباسات لشكسبير وسوفوكليس وسيرفانتيس، كتب مبكرًا ديوان شعر ومسرحية ورواية، وأنصت بتمعن إلى فريديريش هيكل كما قرأ بعمق فرانسيس بيكون. وبعد مناقشته لأطروحة الدكتوراه اتجه إلى الكتابة الصحفية، غير أنَّ الصحيفة التي وصل إلى رئاسة تحريرها أغلقت بفعل العداوات السياسية التي خلقتها كتاباته.
وصل إلى باريس في خريف 1843 للعمل في الصحافة الشيوعية، وعكف على دراسة الاقتصاد الإنجليزي، وفي 1844 زاره "إنجليز" في شقته الباريسية، وقد كان مؤهلًا لمعرفة مباشرة بالرأسمالية والرأسمالية الفيكتورية؛ "ماركس بما لديه من ثراء المعرفة، وإنجلز بما لديه من معرفة بالثروة". كان "ماركس" يكتب ببطء ومشقة مع كثرة الحذوفات والتنقيحات، وقد يكتب أشياء ثم يتجاوزها، لأننا –في رأيه- أحيانًا نكتب فقط لإيضاح الأمور لأنفسنا. وفي عام 1848 جاء البيان الشيوعي الذي كان خطبة جنائزيّة للبورجوازية، وبيانًا دعويًّا يتَّسم بذكاء لا يُضاهى. بعد ذلك انكبّ "ماركس" من جديد على المطالعة في مادة متشابكة ومعقدة، في وضع يعيش فيه "آل ماركس" البؤس والفقر المدقع والمرض، لكنه مع كل ذلك يسير في رائعته الاقتصادية ببطء وثبات، ويظلّ يُمَنّي صديقه "إنجلز" وناشره البرليني أنّ بحثه في الاقتصاد السياسي يكاد ينتهي؛ وقد علّق على هذا الوضع مازحًا: "لا أحسب أنّ أحدًا قطّ كتب عن النقود وجيوبه خاوية إلى هذا الحد".
قدّم الجزء الأول من مشروعه إلى الناشر ودعاه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، لكنه لم يكن سوى مجلّد نحيل غير ذي أهميّة كبرى، لكن العمل في الجزء الثاني الأهم يسير ببطء، والذي سيدعوه "رأس المال"، لأنَّ "الكتب الكبيرة -في نظره- تستحق عناوين قصيرة". كانت المشاركة في اجتماعات الجمعيات الشيوعية وزيارات الضيوف والمرض الذي يلازمه أسبابًا في مزيد من الانقطاع عن العمل، لكنه تمكن أخيرًا من إنجاز نسخة مخطوطة نهائيّة خالية من العيوب، قدَّمها إلى ناشره في نيسان 1867 أمام احتفاء من ألقوا نظرة عليها، حتى قال أحد أصدقائه القدماء إنه "باتت لديه للتوّ خلاصة للحكمة بأسرها منشورة في كتاب".
• الولادة
ينبِّه "ماركس" في تصديره لرأس المال إلى أنّ "البدايات صعبة على الدوام"، ثم ينطلق ليكشف حالة الأرض المجهولة لعالم الرأسمالية الصناعية الجديد، وهو يناقش بعمق وثبات كبيرين القيمة الاستعماليّة والقيمة التبادليّة للسِّلع، وكذلك قيمتهما الصنميّة. والوضع الذي يعيشه العمال، وساعات العمل، وشراهة الرأسماليين إلى العمل الزائد، والآثار الخبيثة للآلات على العمال؛ ليقطع جازمًا، بعد الردّ على كل الاقتصاديين التبريريين ودحض اعتراضاتهم بأنّ "الرأسمالية تؤدّي إلى تبئيس أو إفقار مطّرد للبروليتاريا"، مع انخفاض في الأجور حيث "بؤس بعضهم يغدو شرطًا ضروريًّا لثروة الآخرين"، لكن الرأسمالية تظل مهدَّدة في دورة "الازدهار والإفلاس" التي تعيشها...
ممّا لا يزال يثير جدلًا بعدما يقارب القرن ونصف؛ استخدام "ماركس" للديالكتيك في "رأس المال" والمستمدّ من دراسته لـ"هيجل" في سيرورة العقل المولّد لذاته، متجاوزًا "شكله الصوفي الملتبس". وكذلك ذلك "الطَّرب القيامي" الذي يستقبل به كل أزمة جديدة تعيشها الرأسمالية، مع اعترافه بأنها أشدّ دينامية وقوة من كل الأنظمة الاقتصادية السابقة عليها. ومن الصياغات المثيرة للجدل كذلك ما يدعوه "قانون هبوط معدّل الربح" والأزمات المستوطنة المرتبطة بفرط الإنتاج ومسألة نزع ملكية العامل. ومن المسائل المثيرة في "رأس المال" إحالاته الأدبية الكثيرة، ومكانته الأدبية التي جعلت منه نصًّا مدهشًّا مفعمًّا بالسخرية والاستعارات، وجعلت "ماركس" من "أعظم أسياد الهجاء". إنَّ تتبُّع هذه الجوانب المتشابكة في نص "من المهمّات الفكرية" العظيمة، يغدو معه "مشروعًا كيانيًّا (أنطولوجيًّا) لا يمكن تقييده بحدود وأعراف جنس قائم كالاقتصاد السياسي أو الأنثروبولوجيا، أو التاريخ. باختصار فإنَّ "رأس المال" هو نسيج وحده بكل ما للكلمة من معنى، فليس ثمة ما يشبهه ولو من بعيد قبله ولا بعده، وربما كان ذلك هو السبب وراء ما لاقاه على الدوام من إهمال أو إساءة تفسير".
• الحياة اللاحقة
نعت الكثيرون "رأس المال" بالصُّعوبة، فبعد قرن من نشره تفاخر رئيس الوزراء البريطاني "هارولد ويلسون" بأنه "فوق ما يطيق"، كما حذّر "إنجلز" ماركس من عدم وضوح بعض الحجج النظرية، وذكر الاشتراكي البريطاني "وليم موريس" أنه عانى تباريح تشوش الدماغ لدى قراءة ما في ذلك الكتاب العظيم من اقتصاد محض. وربما هذا هو سبب "الصَّمت إزاء الكتاب" الذي أزعج "ماركس" بعد صدور طبعته الأولى، والتي لم تنفد نسخها الألف إلا بعد أربع سنوات، على الرغم من بعض الاهتمام هنا وهناك. لكن بعد ترجمة الكتاب إلى الروسية في 1872 نفدت نسخه الثلاثة آلاف في سنة واحدة، بينما مثَّل إصدار الطبعة الفرنسية مشكلة أكبر. وتلا إصدار الطبعة الإنجليزية صمت طويل، لولا محاولات بعض المريدين الماركسيين مثل "هنري هندمان" و"إرنست بلفورت" والإرلندي "جورج برنارد شو". ففي موطن ماركس الأصلي، وفي المواطن التي تردَّد عليها لم ينل الكتاب ما يستحقه، "وذلك في الوقت الذي راح يلهم انقلابًا مزلزلًا في المكان الذي كان أبعد ما يكون عن توقُّعاته، روسيا، ذلك البلد الذي نادرًا ما ورد ذكره في (رأس المال)". فقد كان الكتاب ملهمًا لمهندسي ثورة 1917 الروسية، واتَّخذ "لينين" وبعده "استالين" و"ماو" الماركسية اللينينية عقيدة في السياسة والحكم، كما ظهرت هيئات للماركسية عبر العالم، بعد أن أضحت الاشتراكية أيديولوجيا رسمية في العديد من الدول الاشتراكية.
أمّا الماركسيون الغربيون فقد عادوا إلى الثقافة واللغة من خلال ما يعرف بــ"الدراسات الثقافية" التي غيَّرت في دراسة التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والأدب من خلال البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيك وما بعد الحداثة، حيث الاحتفاء بالفضاءات الهامشية والاشتغال على الخطاب (تيري إيغلتن). ثم جاءت "قراءة رأس المال" (1965) لـِ"ألتوسير" التي جعلت الماركسية نظرية علمية منفصلة عن السياسة والتاريخ والتجربة. لكن دراسة لـِ(جون هيكس) "القيمة ورأس المال" (1939) شكَّكت كذلك في قدرة الرأسمالية على البقاء المديد. أمّا "ج. م. كينز" الاقتصادي الأشهر في القرن العشرين، فرغم أنه نبذ "ماركس"، فقد كتب بدوره في "نظرية عامة في العمالة والفائدة والنقود" (1936) أنَّ الرأسمالية طور انتقالي سيختفي حين ينجز عمله، وربّما تمَّ تجاهل هذا التَّشابه بين "ماركس" و"كينز" لأنَّ "كينز" كان ليبراليًّا وليس اشتراكيًّا. أمّا "جوزيف شومبيتر" في عملِه "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية" 1942، فإنه يشيد بـ"ماركس" إشادة "ماركس" نفسه بالبرجوازية في البيان الشيوعي، وتنبأ بدوره بأنَّ الرأسمالية لا تستطيع البقاء. واستمرت هذه التنبؤات المتقاطعة مع أفكار "ماركس" إلى العام 1998، حيث عنونت الـ"فاينانشل تايمز" مقالًا لها بـِ"عودة إلى رأس المال"، وهي تتحدث عن أزمة الرأسمالية العالمية. وفي كتابه "أزمة الرأسمالية العالمية: مجتمع مفتوح معرَّض للخطر" نحا "جورج سورس" باللائمة على النظام الرأسمالي الذي ننتمي إليه... فقد راح "رأس المال" بعد انهيار جدار برلين يكسب معجبين جُدُد في المجتمعات الرأسمالية الغربية. فقد ذكر مصرفي بريطاني للمراسل الاقتصادي في الـ"نيويوركر" (1997) "أنَّ مقاربة ماركس هي الطريقة الأفضل في النظر إلى الرأسمالية"، ثم صارت وجهة نظر "ماركس" في أنَّ الاقتصاد هو القوة التي تدفع التطور الإنساني أكثر انتشارًا في المجتمعات الغربية، ومن بين الدراسات المهمة في هذا المضمار كتاب "رغبة مجمَّدة: بحث في معنى النقود" (1997) للصحفي المالي "جيمس بوكان" يرى فيه "أنَّ "ماركس" راسخ في قالب تفكيرنا الغربي"، وهو الأمر نفسه الذي حدا بالصحفيين في الـ(إيكونوميست) "جون مايكلثوايت" و"أدريان وولدريدج" في كتابهما "مستقبل تام: تحدّي العولمة ووعدها المضمر" (2000) إلى الانتباه إلى أهمية "ماركس" المذهلة في النظر إلى قضايا العولمة والرأسمالية العالمية.
وفي الأخير، فقد رسم "رأس المال" صورة مفعمة بالحيوية لتلك القوى التي تتحكم بحياتنا، وما تنتجه من زعزعة واغتراب واستغلال؛ وهي صورة لن تفقد قطّ أثرها، "وإنَّ كُتُب ماركس ستظل جديرة بالقراءة ما دامت الرأسمالية باقية... وبعيدًا عن أن يُدفن تحت أنقاض جدار برلين، لعلَّ ماركس لم يبرز إلّا الآن بأهميته الحقة، ولعله يغدو المفكر الأشد نفوذا في القرن الواحد والعشرين"، وفي سياق هذا "النفوذ" يأتي كتاب "رأس المال: سيرة كتاب" لـ"فرانسيس وين".
- - - - - - - - - - - - - -
هامش:
(*)فرانسيس وين، رأس المال سيرة كتاب، Marx's Das Kapital, A Biography, Francis Wheen ترجمة: ثائر ديب، فواصل للنشر والتوزيع، اللاذقية، 2019.