د. حمو موسوت
كاتب مغربي
على الرّغم من الوعود المُغرية التي تقدِّمها لنا المؤلَّفات بأنَّ مسألة السعادة ليست بديهيّة، وطمأنتهم لنا أنه بعد تلقّي بعض الدروس المناسبة وبعد تطبيق التمارين النفسيّة والذهنيّة، ستتحقق لنا المعجزة، إلا أنَّ الأمر، كما يرى "لوك فيري" ليس بهذه الصورة الساذجة، فنحن لسنا وحدنا، ونحن نرتبط بالآخرين أيضًا، ونحن بشر فانون، وسنجد صعوبة في تحقيق السعادة حين يضرب الشقاء والمرض مَن نُحبّ.
تُعدُّ السعادة في نظر بعضهم هدفَ الحياة البشريّة وكذلك الحيوانيّة، ويرى هؤلاء أنَّ السَّعي إلى بلوغها هو الحكمة القصوى، فنحن جميعًا نبحث عن السعادة فقط، "حتى أولئك الذين يقدمون على الانتحار" كما قال "باسكال". إضافة إلى ذلك، فإنَّ هذا "الخير الأعظم" يمكن للجميع تحقيقه، شريطة قيامهم بالتمارين الذهنيّة الملائمة. وعلى العكس من ذلك، تذهب الأطروحة المضادة إلى القول إنَّ سعينا جميعًا وبجنون لتحقيق السعادة هو أمر بديهي، لكن ليس هذا السَّعي إلا محض وهم وأمر مُغر وخادع. فالسعادة ليست بعيدة المنال بالنسبة للبشر فقط بسبب طبيعتهم الفانية، لكنَّ رغباتنا ذاتها هي رغبات متناقضة ومتغيِّرة أيضًا، فمن المستحيل تعريفها بطريقة مُرضية دائمًا.
• تناقض السعادة
في كتابه "مفارقات السعادة"(*) يستحضر "لوك فيري"، ترجمة أطروحتين لتناقض السعادة:
- الأطروحة الأولى:
لا تقود السعادة أفعالنا فحسب، لكن بوسعنا جميعًا تعيين هويّتها وتعريفها بطريقة واضحة دقيقة، والجميع يمكنهم تحقيق السعادة باستمرار وذلك لسبب جوهري؛ أنَّها في الحقيقة، كما قال من قبل الرواقيون والبوذيون، لا تتوقف بشكل أساسي على الآخرين، ولا على وضع العالم الخارجي، لكنها تتوقف أولًا وقبل كل شيء علينا نحن وعلى قدرتنا على إحداث تناغم مع ذواتنا من خلال القيام بالتمارين النفسية والذهنية المتعمّقة التي توفّرها لنا الفلسفات القديمة والعلوم الإنسانية الراهنة. يلزم أن نفهم ذاتنا الحقيقية فهما كاملًا فقط، حتى ندرك ما يلائمها فعليًّا، ومن ثم نحدد التمارين الجيدة ثم نطبِّقها على نحو صحيح، عندها ستتحقَّق السعادة الدائمة التي نصل إليها بالاعتماد على أنفسنا فقط، وهي بالتأكيد منفتحة على الآخرين لكنها تستند إلى ذاتنا نحن.
- الأطروحة الثانية المضادة:
هذا وهم لا ريب فيه، لأنه من البديهي أن نسعى جميعًا وراء السعادة، فما من أحد يبتغي تعاسته، لكن وبخلاف التعاسة التي من السهل تحديد جوانبها والوقوف عليها، فالسعادة بطبيعتها يصعب تعريفها وتحديدها، لأننا لسنا على يقين البتة ممّا من شأنه أن يُسعدنا على نحو دائم -مال، وحب، ونجاح اجتماعي، ومواهب متنوعة، وثقافة، ومعرفة- وكل ما بوسعه أن يحقق فرحًا يمكن أن ينقلب إلى النقيض. إضافة إلى ذلك، وحتى لو سلّمنا بإمكانية التوصُّل لفترة وفي مرحلة من حياتنا إلى فكرة ما حول ما يناسبنا، وكذلك ما يُفترض أن يحقِّق لنا السعادة بشكل نسبي، فمثل تلك الفكرة لن تستمر طويلًا إلا لو كنّا نعيش بمفردنا مثل راهب، لا يحدث أن تتحقق السعادة بالاشتغال على أنفسنا إلا في حالات قليلة جدًا، لكن يتوقف تحقُّقها أكثر على وضع العالم الخارجي وعلى مصائر الآخرين خصوصًا مَن نحب، أولئك الذين لا نستطيع احتمال أن تلحق بهم أي شدَّة. السعادة بالنسبة لنا، نحن البشر الفانين، هي حالة هشّة دومًا، مؤقّتة ولا يمكن الوصول إليها بمفردنا دائمًا. يتعيَّن الاكتفاء بلحظات من السعادة وبفترات من الصّفا، لأنَّ ادِّعاء القدرة على معرفة السعادة وإمكانية تحقُّقها للجميع باستمرار من خلال الاشتغال على الذات، يكشف عن ضلال فكري من شأنه أن يجعلنا، على العكس، مكتئبين وتعساء.
وفي نظرنا نعتقد أنَّ النظرية الثانية نظريّة صائبة، لأنه ما دمنا نشكِّل هذا الكون فلا غنى لبعضنا عن بعضه الآخر، فسعادة بعضهم ممكن جدا أن تكون على حساب الآخرين، وهذا يعدُّ ظلمًا غير مقبول أخلاقيًّا، ومن جهة أخرى إذا التفتنا للعالم حولنا وما فيه من حروب ونزاعات فإنَّ سعادتنا ستكون ناقصة جدًا -حتى ولو كنّا في دولة مستقرّة كل الاستقرار- ما دام جنسنا البشري يعاني الويلات في الضفة الأخرى.
وينتقل "لوك" مباشرة إلى الحديث عن الحُبّ متسائلًا: لماذا يُسعدنا الحُبُّ ويجعلنا نفيض فرحًا؟ ولماذا يتعسنا الحُبُّ ويغمرنا في اليأس؟ معلّقًا على ذلك بأنه لا شيء يشبه الغبطة التي تبعثها أشكال الحُبّ المختلفة، والعشق، دون شك، وكذلك علاقتنا التي تربطنا بأبنائنا، دون أن ننسى الأفراح التي لا مثيل لها التي تُسبِّبها صداقة دائمة، وهي أقل عاطفيّة من حالة الحُبّ لكنَّها أكثر متانةً وهدوءًا.
فالحُبّ إذن وبشكل واضح ما يمنح معنى لحياتنا؛ لأنه لا قيمة كبيرة لحياة لا حُبّ فيها. هكذا يغمرنا فقدان شخص نحبُّه -على اختلاف شكل هذا الفقدان- في البؤس الشديد، الأمر الذي يؤكد من جديد السمة الساذجة جدًا، حتى لا نقول الضّحلة للأطروحة الأولى.
وفي موضوع الإعجاب سعادة، يُذكر أنَّ كلمة الإعجاب في الأصل وحتى القرن السابع عشر، مرادفا لـ"الدهشة" حيث يقول ديكارت "إنَّ التعجُّب هو مفاجأة سريعة للنفس يجعلها تنظر باهتمام إلى الموضوعات التي تبدو لها نادرة واستثنائية"، ولهذا السبب كان التعجُّب في نظرِه، كما هي الحال عن أفلاطون، واحدًا من أصول الفلسفة وأساسًا للتساؤلات الميتافيزيقية الأكثر عمقًا.
وعلى مر العصور، سيزداد المفهوم ثراءً وسيحمل دلالات جديدة، تشير إلى ما هو أكثر من الدهشة أو المفاجأة. ومفهوم أنَّ المعنى القديم للكلمة سيظلّ قائمًا لكن سيضاف إليه فكرة مفادها أنَّ الموضوعات التي تثير إعجابنا تُشعرنا بالسعادة لأنها تعتبر مصدرًا للفرح.
ثمَّة تحول جذري بشأن الموضوعات التقليدية للإعجاب على المستوى الجمالي، هذا ما أكده "لوك" مضيفًا بأنه ستزدهر علمنة الفن بالتوازي مع التوجُّه الإنساني فيما يخص التشريعات، الذي يعني أنَّ القانون لا بدَّ أن يوضع من الآن فصاعدًا في البرلمانات بيد الإنسان ولأجل الإنسان، فلا تستمدّ هذه التشريعات من النصوص المقدسة. وهكذا نشهد مَيْلًا نحو عمل فني ليس فقط من خلال البشر ولأجلهم، لكنه يتخذ من إنسانية الإنسان موضوعًا له أيضًا. وليس الفن وحده ما يحقِّق الإعجاب والسعادة في نظر "لوك"، بل الجمال والعدل والحب بين البشر أيضًا، فهذه سعادة للإنسانية.
• الحريّة أم السّعادة؟
يقول "لوك": لو خُيِّرنا بين الحرية والسعادة، بين الواقعية والغبطة، وأحيانًا يُحتَّم علينا ذلك، فأيها سنختار؟ وهل من الأفضل أن تحيا في سعادة لكن في ظلّ العبودية والوهم، أم أن تعيش بقَدْر أقل من السعادة لكن في كنف الحرية والحقيقة؟ يجيب "هوبز" وأتباعه بأنَّ سعادة الحياة أوَّلًا وقبل كل شيء.
لكن هل تستحق السعادة العناء مقارنةً مع الأشياء الأخرى التي بوسعها أن تُفرح الإنسان؟ هل من الضروري أن تحلّ السعادة قبل أيّ شيء آخر حتى الوعد بالتحرُّر الذي سبق أن قدّمه عصر الأنوار؟ ويذكر هنا "لوك" أنَّ "كانط" أثار الشك منذ القرن الثامن عشر بقوله إنّ الطبيعة لم تجهِّزنا للسعادة، فبما تفيد إذن المَلَكة الفكرية والروح النقدية والإرادة الحرة إذا كانت حياتنا لا تميل إلّا إلى إشباع نشداننا الرفاهية وبأي ثمن؟ ألم يكن من الأفضل في هذا الشأن أن نكون قد وُلدنا على صورة غزالة أو دبّ أو أرنب (بشرط ألا يكون هناك صياد في الأفق)؟
وختم "لوك" هذه الجزئية بالقول إنه لو كان الحرمان من الحرية شرًّا، فتطبيقها لا يضمن تحقيق السعادة، أن تكون حرًّا يعني أن تتحمّل مسؤولية اختياراتك، وأن تأخذها على محمل الجد، وأن تشعر أنك مسؤول أكثر ممّا تشعر أنك بريء، ويقودنا ذلك أحيانًا، وهو ما تتطلّبه التراجيديا، إلى التضحية براحتنا باسم القِيَم التي تفوق السعادة: الكرامة الإنسانية، ومقاومة القمع، ومقاومة الشمولية أو حتى وببساطة الالتزام بالدفاع عمّن نُحبّ. وكما هو الوضع دومًا، ما يجعلنا سعداء بوسعه أن يُحيلنا تعساء أيضًا، لهذا تغرق فلسفات السعادة حتما في نهاية المطاف، في سلميّة زائفة بسبب افتقادها الحس التراجيدي.
يؤكد "لوك" على أنه إذا كانت المعرفة والحُبّ هما في النهاية شيء واحد، فإنَّ ما يمنح معنى لحياتنا، ويلعب دور الموجِّه لها ويضفي عليها أهميّة أيضًا، هو النموذج المثالي للفكر المتّسع الذي يجعلنا متفرّدين. هو وحده ما يسمح، حين يدعونا للارتحال وحيث يحثّنا على الخروج كي نلتقي بها من جديد. لكن على نحو أفضل -وهذا ما أطلق عليه هيجل "التجربة"- أن نعرف الآخرين ونحبّهم بشكل أفضل.
ختامًا، يرى "لوك" أنه على الرغم من الوعود المغرية التي تقدِّمها لنا المؤلَّفات بأنَّ مسألة السعادة ليست بديهية، وطمأنتهم لنا أنه بعد تلقي بعض الدروس المناسبة وبعد تطبيق التمارين النفسية والذهنية، ستتحقق لنا المعجزة. تظلّ لسذاجتنا حدود. فنحن نشعر فعليًّا أنَّنا لسنا وحدنا، وأنَّنا نرتبط بالآخرين أيضًا، وأنَّنا بشر فانون، وأنَّنا سنجد صعوبة في تحقيق السعادة حين يضرب الشقاء والمرض مَن نُحبّ.
استخلاصًا من ما سبق نؤكِّد أنَّ موضوع السعادة فعلًا موضوعيٌّ وحيويّ، ويحتاج إلى مزيد من الاهتمام، فهو موضوعي تحضُر فيه النزعة الإنسانية الحاملة لكل القيم النبيلة، وتحضر فيه كذلك النزعة الأنانيّة التي لا تفكِّر إلا في نفسها على الرغم من إدراكها أنها ليست وحدها في هذا العالم. وفي كل الأحوال لا سعادة دون سعادة كونيّة.
- - - - - - - - -
(*)"مفارقات السعادة" كتاب لـ"لوك فيري"، ترجمة أيمن عبدالهادي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2018.