د. نادية سعد الدين
كاتبة وباحثة في العلوم السياسية/ الأردن
nadia_s_deen@yahoo.com
تَنوَّعَتْ الإجراءات الرسميّة المضادّة لتفشّي فيروس "كورونا" الذي طالت تأثيراته الدولة والمجتمع معًا، وفي الوقت نفسه بدأت الدُّول بمراجعة أولويّاتها الوطنيّة وسياساتها العامة برُؤى جديدة، وصياغة خطط واستراتيجيّات وطنيّة تتَّفق مع تحدِّيات المرحلة الرّاهنة، والتي لن تشهد تغيُّرات في مفهوم المواطنة فقط، بل في مفهوم الأمن الوطني للدَّولة أيضًا حدّ التأسيس لتحوُّل في طبيعة آليّاته خلال الفترة الحاليّة والمُقبلة.
دَفَعَ فيروس "كورونا" المستجِد (كوفيد- 19) دول العالم إلى اتِّخاذ تدابير وقائيّة مشدّدة لحماية أمنها الوطني والحفاظ على سلامة مواطنيها والمقيمين على أراضيها، بعدما فرَض الاستحقاق العالميّ الجديد العابر للحدود تصدُّر البُعد الصحيّ -المرتبط حكمًا بالأمنيْن الإنساني والمجتمعيّ معًا- أولويّة السياسات الحكوميّة في مواجهة الجائحة، التي ما يزال العالم يُقارِع تبعات تفشيّها المتسّارعة ونُذر حصْدِها المتوالي للضحايا ضمن أرجاء المعمورة، مخلِّفة كارثة إنسانية غير مسبوقة وتحدّيًا وجوديًّا ليس للنظام الدولي حسب، وإنَّما للبشريّة أيضًا، دون أن يتمّ حتى الآن إنتاج عقار ناجع لخنق الفيروس نهائيًّا.
وقد تنوَّعت الإجراءات الرسميّة المضادّة لتفشّي فيروس "كورونا"، منذ تحديده بمدينة "ووهان" الصينية في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بين إغلاق الحدود وإعلان حالة الطوارئ والعزل الذاتي وحظر التجوُّل والحجر الصحي ومنع التجمُّعات ووقف عمل المؤسسات العامة والخاصة، خلا العمل عن بُعْد، ووقف الدِّراسة مع اعتماد نمط التعليم عن بُعْد، وإلغاء الأنشطة، ووقف حركة الطيران، جزئيًّا أو كليًّا، وتقييد الحركة التجارية، واستنفار الجيوش، عدا رصْد الموارد المالية للإنفاق على كُلَف أكبر عمليّة عزل جماعي وحصار طوعيّ على مرّ التاريخ.
وإذا كانت جائحة فيروس "كورونا" قد أفرزت، وما تزال، تداعيات غير محمودة على العالم بأسرِه في مختلف المجالات الحيويّة، فإنها دفعت الدول إلى مراجعة أولويّاتها الوطنيّة وسياساتها العامة برؤى جديدة، وصياغة خطط واستراتيجيات وطنية تتفق مع تحديات المرحلة الراهنة، والتي لن تشهد تغيُّرات في مفهوم المواطنة فقط، بل في مفهوم الأمن الوطني للدولة أيضًا حدّ التأسيس لتحوُّل في طبيعة آليّاته خلال الفترة الحاليّة والمقبلة، وذلك في إطار جهود إدارة الأزمة لمواجهة تهديد غير تقليدي قد يشكِّل فاتحة لتهديدات أخرى ستعلن عن نفسها تباعًا في المحيطين الإقليمي والدولي.
• "كورونا" وتعزيز الوطنيّة
حمَلَ تفشّي فيروس "كورونا" في طيّاته تأثيرات عميقة ممتدّة على الدولة والمجتمع معًا، ولكنه وفَّر، أيضًا، فرصة تعزيز الوطنيّة وتقوية مكانة الدولة القوميّة في السياسات المحليّة والدوليّة، قياسًا بالإجراءات الحمائيّة المشدّدة التي اتَّخذتها لمواجهة الوباء، وذلك إبان فترة ليست قليلة من الترويج لنموذج انسحابها من الاقتصاد والمجال العام لصالح فواعل أخرى، ما دفع خبراء كثُر، ومنهم أولئك الذين سارعوا سابقًا لإعلان نعيِها من منظِّري "ما بَعْد"، للاعتقاد بالانكفاء مرَّة أخرى نحو ساحتها الداخليّة والعودة بها لوظائفها التقليديّة تأسيسًا حيويًّا لدور جديد أكثر قوّة في المرحلة المُقبلة.
وعلى الرّغم من التبعات الثقيلة لإجراءات الدولة المشدّدة على الاقتصاد؛ غير أنها أبرزت بُعدًا إيجابيًّا تمثل في تَمتين أواصر التكافل الاجتماعي وتقوية العلاقة بين أطراف المعادلة الداخلية من أجل مواجهة الأزمة، ممّا تجسّد في المشهد الإعلامي المؤيِّد لجهود الدولة، عبر استلال التغطية الشمولية واستقاء المعلومات الدقيقة من مصادرها الرسميّة، وإفراد مساحات غير مسبوقة للمحتوى الصحيّ التوعويّ للالتزام بتعليمات العزْل وسلوك التَّباعد الاجتماعي ووسائل النظافة، بالاستعانة بالمختصين، وإبراز دور الأطباء بوصفهم جنودَ الجبهة الأمامية بمواجهة "العدوّ" غير المرئي، بعدما فرضت يوميّات "الحرب الفيروسيّة" على وسائل الإعلام إعادة ترتيب أولويّاتها، مقابل مَن اكتفى منها بتغطية الرَّصد الكمّي دون النّوعي، وتقديم جرعات خفيفة من التوعية والتثقيف، نظير ضعف الخطاب الإعلامي الصحيّ في مخاطبة فئات الجمهور كافّة والتأثير فيها، ممّا أبعدها عن بلوغ المستوى المطلوب الذي يتَّفق مع حراجة اللّحظة الرّاهنة.
ولعلَّ مردّ الالتفاف الجمعيّ حول الدولة يعود لجهة تطلُّع الناس عادةً -في وقت الأزمات- إلى الدولة بصفتها المرجع والإطار الوحيد المنظّم في صيغته السياديّة الكليّة، والمؤسسة الشرعيّة القادرة على اتِّخاذ خطوات شاملة وملزِمَة وإصدار القرارات الحاسمة، بينما لا يدلّل إغلاق الحدود السياسيّة بالضّرورة على صعود قوّة الدولة أو مركزيّة قرارها؛ فبعض الدول غير الجاهزة لمواجهة الوباء تلجأ لتلك الخطوة لمنع انتشار العدوى كإجراء وقائيّ، والتي قد يتبعها إجراء إغلاق الأحياء والمدن والأبنية داخلها، باعتبار أنَّ الوقاية بالمنْع والإغلاق سلاحها الأوَّل.
• "الإجراءات الاستثنائيّة" للدّولة والحريّات العامّة
لم يسلَمْ نهج الدولة لمواجهة الفيروس من الانتقاد، إزاء حصْر صلاحيّات القرار بيد سلطة واحدة رئيسة، في بعض البلدان، بما يؤدّي لتفرُّد البتّ بالتخصُّصات الدّاخلة ضمن صلاحية الوظيفة الإدارية بعيدًا عن ممثّليها، من مجالس بلديات ومحافظات، سبيلًا لتوطيد المركزيّة وتعزيز سيطرة الدولة على حساب المُشاركة الوطنيّة، فضلًا عن أنَّ تقديم الفيروس "كعدوّ" من أجل إضفاء الشرعيّة على "حالة الاستثناء الجديدة"، قد يتسبَّب، أحيانًا، في "تدهور الديمقراطية والنزوع للاستبداد وإتاحة فرصة الاستئثار بالسلطة السياسية من قِبَل بعض قادة الدول، عدا انهيار النظام الاقتصادي العالمي"، وفق المفكر الأميركي "نعوم تشومسكي"، ممّا قوبل باحتجاجات من جانب بعض الأفراد داخل المجتمع، مثل المظاهرات التي خرجت في روسيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية، فيما قد يعود بالانتقاد، في جانب منه، لحسابات اقتصاديّة خشية الخسائر الناجمة عن إجراءات الإغلاق والحظر التي اعتمدتها معظم دول العالم.
وتكمن الخشْيَة، وفْق هذا المنظور، في عدم تخلّي الدولة كليّةً عن السلطات الاستثنائيّة التي منحتها لذاتها لمُواجهة الوباء، برِضى شعبيّ لحمايته من المخاطر، وتلك التي قد تكتسبها إنْ طالَ أمدُ الأزمة، بما يرسّخ قوة مكانة الدولة ويعزِّز سطوَتها ضمن المفاصل الحياتيّة المجتمعيّة، ممّا قد ينعكس سلبيًّا على حقوق المُواطَنَة المجتمعيّة.
ففي ساحات المنطقة التي خلت من المتظاهرين الذين خرجوا قبل الأزمة لإعلاء مطالب حقوقيّة، كما في الجزائر ولبنان والعراق، قامت الجيوش باستعادتها لضبط تنفيذ العزل المنزليّ، بما يبعث قلقًا من توظيف الأنظمة لـِ"كورونا" في تعزيز السيطرة المجتمعيّة وتتبُّع حركة المعارضين، في حين أنَّ الصورة الزّاهية للمؤسسات العسكرية التي ارتسَمَت في أذهان الرأي العام العالمي جرّاء إسهامها في محاولات محاصرة آثار الوباء، قد يمنحها، لاحقًا، المزيد من مساحة الحركة وتعزيز الدَّور اقتصاديًّا في بعض الدول، عملًا بتجلّيات ضبط الأزمة.
ويتماهى ذلك مع تأثير إجراءات بعض الدول في الحدّ من الحريّات وتحجيم دور الإعلام وتقييد وصوله للمعلومة وفرض العقوبات القاسية لجهة الاعتقال والغرامة المالية بتهمة نشر أنباء كاذبة، ومراقبة مروِّجي الإشاعات الافتراضية وملاحقتهم قانونيًّا، وتتبُّع حركة المواطنين. فقد عمدت بعض الدول إلى توظيف البيانات المُستقاة من الهواتف المحمولة في تعقُّب الحالات المُخالطة للمصابين بالفيروس، وتتبُّع تلك التي تعرَّضت للعدوى منه من أجل توفير المعلومات الصحيّة للحكومات سبيلًا للحدّ من انتشاره، على الرّغم من أنّها قد تكون عُرضةً للانتقاد لما تمثِّله من اختراق لخصوصيّة المواطنين، ولكنّها قد تكون إحدى الطرق الكفيلة للتأمين الصحي حتى لو كان على حساب الخصوصيّة.
وعلى الرّغم من أهميّة رفع القيود الرسميّة عن الإعلام لتمكينه من أداء عمله والتنسيق معه لضمان التدفُّق المعلوماتي الدقيق، فضلًا عن ضرورة تتبُّع الحالات المُصابة والمخالِطة لتحجيم انتشار العدوى؛ فإنَّ ضبط المحتوى المضلّل للجمهور يُعدُّ، أيضًا، أمرًا حيويًّا في زمن "كورونا"، نظير نزعة التَّهويل حدّ التأويل التي تضمّنتها مشاهد إعلاميّة متوالية، وبثّ أنباء مزيّفة لإظهار الفشل الرسميّ في المواجهة لخدمة أجندات خارجيّة، والتسويق لعلاجات "وهميّة" للمرض بوصفات شعبيّة وأدوية غير مرخَّصة، ممّا ينتج خطابًا إعلاميًّا بعيدًا عن الحسّ الوطنيّ، وأكثر قبولًا لجذب الشائعات، الأمر الذي يؤدّي إلى إشاعة الذُّعر والفوضى وتهديد السّلم المجتمعيّ وعرقلة جهود احتواء الأزمة.
فيما تتعزَّز مَواطن القلق من تداعيات الفيروس على حقوق المُواطَنَة، بعدما رسّخت الأزمة أهمية التركيز على مفهوم الأمن الصحيّ كجزء محوريّ في بنية المنظومة الأمنيّة الشاملة، ودفعت الدول لإعادة ترتيب أولويّاتها وإعادة ترتيب أدوار بعض مؤسّساتها لجهة تصدُّر البُعد الصحيّ واجهة السياسات الحكوميّة، وهو الأمر الذي قد يؤدّي إلى التذرُّع بالأزمة وتبعاتها وآثارها السلبيّة بهدف الانفلات من مطالب الإصلاح الديمقراطي، وتعزيز الحريّات والمُساءلة والعدالة والمُساواة، مثلما قد يتمّ اللُّجوء إلى العنف وفرض الإجراءات العقابية القانونية للتخلُّص من الأصوات المُعارضة بحجّة المواجهة المضادّة للفيروس وتحقيق الأمن القومي.
• "كورونا" ومأزق الحقّ في الرِّعاية الصحيّة
كشفت أزمة "كورونا" عن عمْق الاختلالات الثقيلة في نُظُم الرِّعاية الصحيّة والبنى التحتيّة لكثير من دول العالم، وسط غياب شبكة أمان صحيّ استباقيّ فيها، نظير نقص عدد المشافي والأسِرّة المُجهّزة والطواقم الطبيّة المدرّبة والمؤهّلة وأجهزة التنفُّس والكمّامات والمسحات والبدلات الواقية، ما أدّى لارتفاع عدد الضحايا واتِّساع رقعة الوباء، الذي لم تنجُ منه دول صناعيّة غنيّة بمواردها المالية ومتقدمة علميًّا وطبيًّا، إزاء عدم استعداد نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، بينما تمكّنت دول محدودة الموارد وأخرى فقيرة من إدارة الأزمة بفاعلية واستنفار طاقاتها البشرية لمواجهة خطر انتشاره، بما يعكس تأثير ضعف نظم الحَوْكمة الاقتصادية والسياسية على مدى الاستجابة للأزمة الصحيّة.
وأحدَثَت الأزمة حالة من الرّبكة والتخبُّط في الكثير من بلدان العالم، وهو الأمر الذي انعكس في سياساتها المضادّة للفيروس؛ إذ أدّت الاستجابة المتأخرة في اتخاذ الإجراءات الوقائيّة، إمّا بسبب التقليل من حجم المشكلة أو تأخُّر الاعتراف بانتقال العدوى لساحاتها والتكتّم عن منسوب تفشّي الفيروس داخليًا، وبالتالي ضعف الالتزام الشعبيّ بالتعليمات، أدَّت إلى تأزُّم الوضع الصحي وارتفاع عدد الإصابات والوفيات، تماهيًا مع سبب اعتماد دولٍ سياسات صحيّة متخبطة، مثل مبدأ "مناعة القطيع"، وتطبيق قانون "الطب الحربي" في المشافي على حالات مصابة بالفيروس بتركها لحتفِها، لاسيّما من كبار السن، ممّن لا تستطيع الدولة -التي تعجز منظومتها الصحية عن التعامل مع الأعداد المتزايدة من المرضى- توفير العلاج لهم.
وبذلك؛ فقد كشف الوباء عن حجم هشاشة نظم الرعاية الصحية في العديد من الدول وضعف قدرتها على التعامل مع التهديدات؛ وذلك عقب إخفاقها في تأمين التغطية الصحية الشاملة والرعاية الطبية اللازمة لمواطنيها والمقيمين على أراضيها، فضلًا عن افتقارها للإمدادات الطبية الحيوية والبنى التحتية والكوادر الطبية والقوى العاملة المدرَّبة لإدارة هذا النوع من الأزمات، دون أن يشفع لها انتشار تسمية المشافي، لاسيما التابعة للقطاع العام، بخط "المواجهة الأوّل"، كما الأطباء بخط "الدِّفاع الأوّل" و"الجيش الأبيض"، في الخطاب الإعلامي، للتدليل على حيويّة دورهما، ضمن محتوى صحّي غير مسبوق لمواكبة تطورات الأزمة، على الرغم من غياب الإعلام العلمي عمومًا، حيث لم يخلُ من انتقاد ظروف الحجر الصحي السيئة وسوء الإدارة الصحيّة، في بعض الدول.
في المقابل؛ أكّدت أزمة "كورونا" أهميّة البُعد الصحي بوصفه مكوّنًا حيويًّا من مضامين مفهوم الأمن الوطني، ممّا يتوجب وضعه كأولوية في خطط واستراتيجيات الدول، والتي تأخذ بالاعتبار أهمية تطوير قدرات دفاعية ذاتية وعلمية قادرة على البحث والتنبؤ بالمخاطر الصحية وسبل مواجهتها، والعمل على تمتين البنى الصحية، وإرساء المزيد من حضور الدولة في دعم وتأمين قطاع طبي قوي، مع ضرورة تخصيص الموازنات اللازمة له وتوفير الكوارد البشرية المحلية التي لديها القدرة على العمل في وقت الأزمات والطوارئ.
ويدخل في هذا السياق أهمية تطوير مراكز البحوث العلمية الخاصة بالمجال الطبي، مع ضرورة تمتُّعها بالموارد والمخصصات اللازمة وبالاستقلال في إدارة شؤونها، وإناطة مهام إدارتها إلى أصحاب الخبرة والدراية، فضلًا عن أهمية تأسيس مراكز إنذار مبكر للأوبئة، خاصة الخطيرة منها.
وقد بدأت الكثير من الدول في الانتباه لهذه القضية الحيوية مع تغوُّل الجائحة في ظل المحاولات الدؤوبة الجارية للتوصل إلى علاج ولقاح للمرض، بينما تدأب مخابر البحث العلمي عبر الدول، لاسيما الكبرى منها، لإنتاج عقار شافٍ، مما قد يزيد حدّة المنافسة بينها مع قدر من المواجهة، بخاصة شركات الأدوية لنيل المكاسب التجارية، ولكنه سيدفع، أيضًا، تجاه تكاتف الخبرات وتعاونها عبر المشاركة في الاكتشافات ذات الصلة، بحيث قد تخفف سرعة الوصول للمصل من عمق الأزمات الناتجة عن الفيروس.
ويدفع ذلك باتِّجاه تدشين العالم آليات فاعلة للتعاون الشامل في المجال الصحي، إزاء انتشار الأمراض والأوبئة بسهولة عبر الفضاءات العابرة للحدود، حيث لا يمكن مواجهة هذه المخاطر دون تعاون وتكاتف دولي فاعل، كما يتصل بذلك أهمية دعم المؤسسات والمنظمات الدولية المعنيّة بقضيّة الصحّة، وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية، وذلك بعدما كشف الفيروس عن النزعة الصراعية للدولة القومية، واندفاعها لخوض منافسات غير إنسانية، أحيانًا، للحصول على الأدوات الصحية الضرورية لمكافحة المرض، فضلًا عن فشل دول الغرب المتحالفة في إظهار التضامن مع دولة غربية أساسية كإيطاليا، وعدم الاستجابة لطلبها العاجل بتقديم مساعدات طبية لها، والتي تلقتها من مصر والإمارات والصين وروسيا، وحظر كل من فرنسا وألمانيا تصدير أقنعة الوجه، مثلما حظرت روسيا وتركيا مثلًا تصدير الكمّامات وأقنعة التنفُّس، بما يظهر الفرق الشاسع بين "العون" و"التضامن" كمنظومة أخلاقية.
وفي المحصّلة؛ فإنَّ هناك خيطًا رفيعًا كحدّ فاصل للدولة بين حماية حقوق المُواطَنَة وصوْن حريّة التعبير والرأي، وبين المساس بها ضمن إجراءات مشدّدة بحجة تحقيق المصلحة العامة والأمن الوطني. إذ من شأن "الإجراءات الاستثنائيّة" التي اتَّخذتها الدول لمواجهة فيروس "كورونا" أن يطول أمَدُها عند تمنُّع الانفكاك عنها، في بعض الساحات، بما يعزِّز سطوة الدولة ضمن المفاصل الحياتيّة المجتمعيّة ويجرّ بتبعات سلبيّة على حقوق المُواطَنَة عند المساس بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو لدى تأجيل مشاريع الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي بحجّة إعادة ترتيب الأولويات لمواجهة "كورونا"، أو عند اللُّجوء للعنف لإسكات صوت المعارضة تحت ذريعة المتطلّبات المضادّة للأزمة.