عبدالله الزعبي
كاتب أردني
abd.zubi91@gmail.com
في رواية "البحّار"، وعبر لغة سلسة، قريبة إلى القلب، وبعيدة عن التكلُّف، يدمج هاشم غرايبة الواقع بالسِّحر، والأحلام بالحياة اليوميّة، والعجائبي بالموضوعي، ويتتبَّع التاريخ الاجتماعي في الأردن، ومدى اشتباكه مع الدول العربية المجاورة. والرواية إذْ تسلّط الضوء على ملامح تطوُّر الشخصية الرئيسة فيها، فإنها تُمسك، في الوقت نفسه، خيوط تطوُّر شكل الحياة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا في الرمثا بشكل خاص والأردن وما حوله بشكل عام.
ربَّما عرف أغلبنا في الفترة الأخيرة عن "البحّارين" في الرَّمثا، وعن "البِحارة" بشكل عام. فهي كما يورد الكاتب أحمد أبوخليل في مقال له(1) وخلال مقابلة تلفزيونية معه(2)، تختلف عن التَّهريب. إنَّها نوع من التِّجارة غير الرَّسمية التي تنشط على المناطق الحدوديّة بين دولتين أو أكثر، وتشكِّل مصدر رزق لِمَن يمارسونها بشكلٍ يوميّ.
"البِحارة" مُفردة أردنيّة محليّة أبدعها الرَّماثنة، وتمَّ نحتها بأسلوب يكاد ينطوي على مفارقة واقعيّة هي أنَّ الأردن الذي لا يملك سوى مساحة قليلة على الشواطئ البحريّة، في كل من خليج العقبة والبحر الميت، يستطيع بعض سكّانه أنْ يسبحوا على طريقتهم في البرّ ذهابًا إلى سوريا وبالعكس. من هنا نستطيع أن نفهم عنوان رواية هاشم غرايبة "البحار"، التي صدرت عام 2018 عن دار الأهلية للنشر.
• الأحداث
تمثل رواية "البحّار" سيرة ذاتية للرمثاوي "سليم الناجي"، الذي يجمع بين خبرة الحياة من جهة والثقافة من جهة أخرى. هذه الشخصية ليس غريبة على معجم هاشم غرايبة الرِّوائي، فنحن نجد ما يماثلها في "محمد علي الجمّال"، الملقب بالشهبندر، في رواية "الشهبندر" (2003). جرَّب "سليم الناجي" الفقر والغنى، بل إنه كان يتعثَّر خلال أعماله الكثيرة التي تنقّل بينها، ثم يقوم على ساقيه من جديد. درس حتى الصف السادس الابتدائي، ولمّا ترك المدرسة أصبح عازف شبّابة ودبّيكًا يتغنّى بمهارته أهل الرّمثا قاطبة، إلى أن أمسكه أبوه ذات يوم من أذنيه وقال له: "الجيش يطلب جنودًا مستجدّين. هيّا معي إلى معسكرات (خَوّ). الفنّ لا يُطعم خبزًا". فانضمَّ إلى سلاح الجوّ، وتزوَّج "فاطمة برغل" عام 1956، وسكن في بيت أهله الذي يتكوَّن من قنطرتين: الداخليّة للعريس وزوجه، والخارجيّة لأمه وأبيه. ثم بنى بيتًا طينيًّا مستقلًّا، وأنجب ابنتين وولدًا.
عندما ترمّج من الجيش، بدأ يكتب شعرًا فاشلًا. كان يمشي على "درب المهرّبين" ويقرأ أشعاره لنفسه، فبدأت تتوطَّد علاقته بالبَحّارة إلى أن صبح بحّارًا، فأحد كبار البحارين، ثم مهرِّبًا. "كنتُ أعيش الحيرة بين الشِّعر والثَّراء في تلك الفترة الملتبسة والانتقالية من حياتي، حيث النقاء والفساد يتناوبان الحسم في داخلي. انتصر حلم الثراء".
بعد هزيمة حزيران لم يعد للتجارة سوق في الرمثا، وصار "سليم" عطّالًا بطّالًا، فانكبَّ على الرّسم، ثم على وقع السؤال الأبدي "إذا لم تجد ثمن حذاء لابنك فما نفع الفن؟". قرر أن يذهب إلى العمل في ألمانيا عام 1970، مثله في ذلك مثل كثيرين من أبناء الرمثا الذي سافروا قبله إلى ألمانيا وكانوا يعودون بهدايا البشاكير الألمانية التي تجلل النساء بها شعورهنّ، واصطلح على تسميتها "دقّ ألماني". أصبح خبيرًا في البث التلفزيوني بفضل معهد البوليتكنيك الألماني، وعمل في القاعدة الأميركية هناك ومارس تجارة المخدرات فيها، حتى اكتُشف أمره وطُرد، فرجع إلى الأردن وتنقل من العمل في البورصة، إلى غسيل الأموال، إلى الترشُّح للبرلمان عام 1993 والفشل فيها، إلى نقل النفط من العراق، إلى الإنتاج والتوزيع السينمائي. خلال أعماله هذه لم يتوقف عن التنقل والأسفار في بلدان العالم، وكوّن علاقات مثيرة مع النساء؛ "بترا" و"سيكا" و"نورا".
في صباح يوم تشريني ماطر من عام 2015 هاتفه حفيده "أحمد"، الذي ذهب ليدرس الطب في قصر العيني بالقاهرة، وأخبره بانضمامه إلى "داعش" في الرقّة، وطلب منه أن ينقل أمره إلى والديه بطريقة سلسة تخفِّف عنهما. حاول أن يثني حفيده عن ذلك، واتصل بقياداته وحاورهم عبر قنوات اتصال خاصة بهم مثل تطبيق "ثريا"، ولم يفلح في هدفه.
هكذا إلى أن نجد أنفسنا في الصفحة الأولى من الرواية مع "سليم الناجي" وهو جالس على رصيف "شارع الشعب" مقابل دائرة المخابرات العامة، وقد خرج منها للتوّ، متمنيًا أن يرجع إلى زنزانته ويتابع كتابة سيرته الذاتية. فقد أعطاه المحقق ورقة وقلمًا، ثم قال: "اكتب لنا كل ما تعرفه". ردّ "سليم": "عن ماذا أكتب؟". قال المحقق بعصبية: "اكتب من يوم ولدتك أمك حتى الآن". "يا سلام، هاي سهلة"، وبدأ يكتب كل ما يجول في خاطره من ذكريات ومغامرات شخصيّة سابقة.
• سحر الأساطير
يدمج هاشم غرايبة الواقع بالسحر، والأحلام بالحياة اليومية، والعجائبي بالموضوعي. نلتمس في عمله هذا استثمارًا لبعض الأساطير الشعبية في أربع حالات:
لقّب "سليم الناجي" بـِ"المبدّل" لأنه وُلد "سباعيًّا"، أي بعد سبعة شهور من حمل أمِّه به. "وجهك مبدّل"؛ هذه اللفظة التي نسمعها على شكل شتيمة من أمّهاتنا وجدّاتنا، لها جذر شعبي. فقد كان من عادة الناس إذا وُلد لهم ابن غير مكتمل التكوين، أن يدَّعوا بأنَّ العفاريت أخذت مولودهم وأعطتهم بديلًا مشوّهًا. عندها يلفّونه بكفن أبيض ويتركونه طوال الليل في المقبرة بين الأموات. إذا وُجد حيًّا في الصباح استردّوه وأرضعته أمه من ثديها، وإذا كان ميتًا فهذا يعني بأنَّ العفاريت ترفض المُبادلة.
وقد صدق ظنّ أهل الرمثا بأنَّ "سليم الناجي" (مبدّل) عندما تأخَّر في المشي. في مثل هذه الحالة كانت الأم تستخدم "أسطورة الغربلة"، حيث تضع ابنها في غربال "وتغربله كما لو أنه قمح"، وغالبًا ما كان يمشي بعد سبعة أيام.
لاحقًا عندما يبدأ الطفل بالنطق يسألونه: هل "تعقط" أم "تنطح"؟ فإذا أجاب أنه "ينطح"، عنى ذلك أنَّ أخاه الذي سبقه سيموت، وإذا أجاب أنه "يعقط" لن تنجب أمه بعده أحدًا. لكن "سليم الناجي" أجاب ما فهم منه أنه لا "يعقط" ولا "ينطح"، ومعنى ذلك أنه سيموت قريبًا، لكنه لم يمُت. هذا يحيلني إلى أسطورة عايشتُها، وهي النظر إلى "الفتّول"، ذلك المكان الذي يشبه الدوامة في منتصف الرأس. إذا كان "الفتول" يتجه مع عقارب الساعة، فالمولود القادم ذكر، وإذا كان عكس عقارب الساعة فالقادم أنثى.
أمّا الأسطورة الأخيرة فتتحدث عن نبتة "تفاح المجانين". مَن يأكل منها يُصاب بالهلوسة يومًا أو يومين. أكلت بنت من "الحارة الشمالية" واحدة من حبّاتها فهذت قليلًا، لكن الناس ظلّوا يطلقون عليها "خولا الهبلا"، ويردِّدون ذلك على مسامعها، فانهبلت.
• الموت الكامن في الأشباح
فيما كانت "أم سليم" مشغولة بفك حمل القشّ عن الناقة، و"سليم" معها يمسك لها الرسن، جاءت "الشوحة" وخطفت طفلها الرضيع "نايف" الذي وضعته أسفل شجرة التين ريثما تكمل عملها. لقد ظلَّ هذا المشهد يلاحق "سليم الناجي" طوال حياته، يظهر له في الواقع والأحلام والخيالات. ففي عام 1970، خلال أحداث أيلول، خطفت "الشوحة" أمه بشظية قنبلة أصابت صدرها، وخطفت أخته "ناجية" بحمّى النفاس بينما كان الناس مشغولين بمتابعة حرب تشرين عام 1973، ثم خطفت زوجته "فاطمة" عام 2011. لقد كانت "الشوحة" هي "عزرائيل"، فبدلًا من أن تخطف الدجاج السارح في الحواكير حول البيوت، اختارت أن تُخرج الأرواح البشرية من أجسادها.
لم تكن "الشوحة" وحدها مَن يلاحق "سليم"، بل ظلَّ يظهر له، في أحلامه وأحلام يقظته وخيالاته، مبنى هرمي ذو شرفات صغيرة وواجهة زجاجيّة واسعة. اعتقد مرَّة أنه المستشفى الذي توفيت فيه زوجته، وبدا أنه شارع في حيّ الكرسي، ومبنى في حيّ الدقي بالقاهرة، وواحدة من بنايات "حي النّمر" في الرمثا حيث سكنت أخته "ناجية" الطابق الأرضي الذي ماتت فيه بحمّى النفاس، وفندقًا متواضعًا في "شلالات نياغارا" حيث تعرَّف على "سيكا"، ونزلًا في منتجع "كارلو فيفاري" في تشيكيا حيث أقام علاقة عابرة مع "نورا"، وفي مواضع كثيرة أخرى كان أوّلها عندما خرج من دائرة المخابرات العامة، ومشى في شارع فرعي ضيِّق.
لربما يمثِّل المبنى سيرة "سليم الناجي"، وفي كل طابق منه جزء من ذاكرته والشخصيات التي عرفها في حياته. خيوط حياته كلها في طوابقه هذه وكان يريد أن يجمعها في نول واحد ويطرِّزها حبرًا على ورق، بكل ما فيها من حلاوة ومرارة، وأن يصنع منها "نظامًا في وجه الفوضى". يمثل هذا المبنى، أيضًا، المكان الذي يجمع الجد بحفيده "المجاهد". غير أنَّ "الشيخ همام"، أحد القيادات في "داعش"، لم يسمح بانعقاد هذا اللقاء، فقد ظهر في أحد الأحلام على شكل "شمشون" يحمل حزامًا ناسفًا وهجم على المبنى بينما كان "سليم" يجلس مع حفيده على باب مدخله الزجاجي الواسع. خطفته "الشوحة" قبل أن يتم عمليّته الانتحارية هذه، طارت عاليًا فإذا بـ"شمشون" يمسك المبنى بيد والحزام الناسف بيده الأخرى حاملًا الجميع معه إلى السماء. لقد كانت "الشوحة" في الحقيقة تأخذ الجد والحفيد معًا وإلى الأبد، نحو الموت!
• وقفة مع أبي بكر البغدادي
لدى الكاتب قدرة على تتبُّع التاريخ الاجتماعي في الأردن، ومدى اشتباكه مع الدول العربية المجاورة، وكيف يمكن للأزمات العربية أن تؤثر على باقي الأقطار المتاخمة لها بحكم وحدة الدم والمصير. فمن "سليم الناجي" إلى حفيده "أحمد"، نتلمّس الطريق برفق في مسالك الرِّواية التي بين أيدينا وهي تسلّط الضوء على ملامح تطوُّر الشخصية الرئيسة فيها، وعلى شكل الحياة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا في الرمثا بشكل خاص والأردن وما حولها بشكل عام.
هنا نجد محاولات من الكاتب لعرض إحدى الزوايا التي تدفع بأبنائنا نحو التطرُّف والانضمام إلى ما يسمى "الفصائل الجهادية" في سوريا وغيرها. فابن الطبقة الوسطى الذي عاش حياة مرفّهة، ثم ذهب ليدرس الطب في جامعة القاهرة، بما يضفيه هذا التخصص على صاحبه من قيمة ووجاهة في المجتمع الأردني، ترك كل هذا وانضمّ إلى فصيل ديني مسلّح، لماذا؟ لأنَّ "الإناء الفارغ يسهل ملؤه" على حدّ تعبير الجدّ. هو الفراغ الذي يعانيه مَن يتوفّر له كل شيء دون عناء أو جهد، وربّما هو الضعف المعرفي وقلّة الخبرة التي يعاني منها هؤلاء، فتجدهم ينساقون وراء أولى التجارب التي لها بريق وأجراس، أو يقدرون على الانقلاب الكلّي مرَّة واحدة نحو أشد الأمور تطرُّفًا ما داموا لا يقفون على قاعدة فكرية وقيمية صلبة تحول بينهم وبين التخلي المفاجئ، أو التحوُّل المباغت دون قيد أو شرط. ليس هناك تفسير واحد لذلك، وعلى الأرجح تجتمع عدة أسباب في النفس البشرية الضعيفة فتدعوها إلى مثل هذا التغيير الجارف، هكذا بضربة واحدة.
إذن لقد ركَّز الكاتب على إحدى الزوايا، أو إحدى الفئات فقط، لأن هناك من وجهة نظري زوايا أخرى لم يعالجها أو يتطرَّق لها. إنَّ الفئة التي يوردها هاشم غرايبة لا تضم حالات كبيرة، مقارنة بالفئة التي تضمّ المهمشين والمفقرين في القرى والمناطق النائية في الأردن. هؤلاء يدعوهم لا وعيهم بالقهر الطبقي الذي يعانون منه إلى الإقبال نحو الفصائل الدينيّة المسلحة، إلى ارتكاب الجرائم، والإدمان، والتسيُّد على الحيِّز المكاني الذي يعيشون فيه بالبلطجة وزرع الخوف في النفوس على أقل تقدير. يهربون من واقعهم بأية طريقة ممكنة. ليس لديهم ما يخسرونه، فما المانع أن يصبح أحدهم بطلًا وأن ينتمي إلى فئة قوية تُعيد الاعتبار له ولدينه وأمته التي لا فرق فيها بين غني وفقير، وبين عربي وأعجمي؟ إنَّ في حالتهم رفض لا واعٍ لما أدّى بهم إلى البحث عن ذواتهم في القتل، رفض لهذا التفاوت الطبقي الذي يجعلهم يتسرّبون من مساحاته الواسعة دون عناء. القتل وحده مَن استطاع أن يحتويهم، وأن يمدَّ لهم يده من تحت الطاولة قبل أن يقلبوها على أنفسهم، وبعد أن يقبِّلوا اليد التي امتدَّت لهم "كيدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق".
لكن في كل من الحالتين السابقتين تتحمَّل السلطة المسؤوليّة الكبرى، وقد ركّز "سليم الناجي" على ذلك خلال مرافعاته أمام المحقق (104)، كما كتب في اعترافاته/ سيرته الذاتية عن الفقر الذي يؤدي بصاحبه إلى الهرب بحثًا عن خلاص قد يكون في الجهاد، فما الذي يُخرِج مَن ترعرع في بحبوحة من العيش؟ "أنا هربت من الفقر والمرض وغبار البيادر إلى رغد العيش، من ماذا تهرب يا أحمد؟".
غير أنَّ كلامي هذا ليس نقدًا سلبيًّا للرواية بقدر ما هو وضع للأمور في نصابها، ذلك أنَّ الكاتب كان واعيًا لصعوبة تضمين كل هذا في نص أدبي، ما دعاه إلّا التَّحديد الذي وجدناه وأشرنا له سابقًا وكان محقًّا به. فهو لم يخصِّص جلّ روايته لتتبُّع قصة "أحمد" الذي تحوَّل اسمه إلى "أبو قتادة الرمثاوي" في سوريا، وما تخلّل ذلك من معاناة جدِّه في فقده حسب، لكنه جعلها تشتبك مع الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، كما عرَّجت على تحوُّلات المكان الذي احتضن حكايات "سليم الناجي" ومغامراته، ولم تبتعد في الوقت نفسه عن بعض المحطات السياسية المفصلية التي مرّت على الرمثا والأردن عمومًا، حيث على رأسها إسقاط حلف بغداد وما مرّ به الأردن من مظاهرات واسعة الانتشار كان أشرسها في مدينة الرمثا التي رفعت السقف عاليًا، وأقامت أصغر جمهورية في العالم، وأقصرها عمرًا، بقيادة يوسف الهربيد(3).
• بين المجتمع الأردني والسَّرد
هناك ذكاء في اجتراح بعض شخوص الرواية وإنْ كانت هامشيّة، أو لا تلعب دورًا مركزيًّا في البناء الروائي، مثل شخصية "خولا الهبلا" و"مخشرم الوجه" و"أبو خشمين". هذه ألقاب واقعية، ومن لبّ المجتمع الأردني، لكن التفات الكاتب لها، يعطيها بُعدًا جماليًّا، ويشعر القارئ بالصدمة جراء مواجهته لمثل هذه الشخصيات في مجتمعه دون أن ينتبه إلى الدَّور الذي يمكن لها أن تلعبه في الأدب. فعلى سبيل المثال، يرد التالي على لسان "خولا الهبلا": "خالي سعيد كان يفرط زيتون. صلّى الظهر وبعد شويّ أذَّن العصر. رفع راسه للميذنة زعلان: بعدين معك.. واق. واق. بِدْنا نفرط هالزيتونات". لقد ذكَّرني هذا بما حدث حقيقة مع مزارع مُسنّ ينتمي إلى مَن نسمّيهم "ملّاكين أراضي" في جرش، وهذه تعني أنَّ "الملّاك" لديه خمسون دونمًا وأكثر على سبيل التخمين. أحضر المُسنّ عمالًا يساعدونه في قطف الزيتون، وكانوا عائلة من زوج وزوجة وأبناء. ما إن جاء العصر حتى طردهم واستغنى عن عملهم من خلال اشتباكه مع الرجل الأب. سأله الناس: لماذا فعلت ذلك مع الرجل؟. قال: "بصلّي الفجر، وبصلّي الظهر، وبصلّي العصر وبصلّي المغرب!".
لا يعني هذا أنَّ "الختيار" -الذي يتَّسم بضيق نفسه وعصبيّته- جشع وطمّاع، فكل مِن المالك والعامل أناس بسيطون، يقعون في طبقة الفقراء، إلا أنَّ هذا التقارب بين ما روته "خولا الهبلا" وبين ما حدث في أرض الواقع يعطيك انطباعًا عن صدق النقل والتصوير. فلا تحتاج حياتنا إلى أن نضيف بهاراتنا الشخصيّة عليها حتى يحقّ لها أن تدخل حيِّز الأدب، بل أن نلتفت إلى العجيب فيها ونضعه كما هو بعد أن نجري عليه بعض التنضيد والتنظيم. إننا في الحقيقة نعيش كما لو أننا أبطال في روايات. وهكذا إذن، يعجبك الكاتب في استنطاق المكان الأردني، فهو يصول ويجول فيه طولًا وعرضًا براحة تامة، دون تهويلات أو مبالغات، ويقدِّم ما نعيشه يومًا بيوم، ونحس به، ويكاد يغرس سيفه في خواصرنا.
من ناحية أخرى، يلمِّح الكاتب إلى طبيعة الاقتصاد الإنتاجي الذي كانت عليه الأردن في خمسينات وستينات القرن الماضي، خاصة في قطاع الزراعة، دون أن ينسى ذاكرة الأعشاب البرية التي كانت دائمًا على أطباق مأكولاتنا من لوف وعكوب وحمّيض وعِلْت وغيرها، تلك التي يقع قطفها ضمن مهمّات النساء. وهذا يحيلنا إلى دور المرأة الأردنية في الإنتاج، والأثر الكبير الذي تُحدثه العلاقات الإنتاجية في الأدوار المجتمعية لها في كل مكان. فالمرأة التي كانت تشارك جنبًا إلى جنب الرجل في العمل خارج البيت وداخله، فيكون لها دور في حصاد القمح والرعي وجلب الماء من "العين" وتجميع الحطب اليابس وحلب "الحلال"، إضافة إلى صناعة الخبز ومشتقات الحليب والطبخ وتربية الأبناء، هذه المرأة كانت تتمتع باستقلالية وانفتاح على الآخر أكثر ممّا هي عليه الآن في المجتمعات الريفية التي تمّ تحويل أبنائها من مزارعين لديهم اكتفاؤهم الذاتي إلى موظفين ينتظرون الراتب نهاية كل شهر.
• كلُّنا مِن "أصحاب الذَّوات"
لن تمرَّ الرواية دون أن يفهم المتلقي مدى التعقيد الذي ينطوي عليه الإنسان، ومقدار الاختلاف الذي يحمله كل واحد منّا ويتمايز به عن الآخر. إنَّ النفس الواحدة على استعداد لأن تنقلب بين عشية وضحاها من حال إلى حال آخر، وخلال رفّة جفن في بعض الأحيان. لذا تجد الكاتب يسرد مرَّة على لسان "سليم النكد"، وأخرى يسمعنا صوت "سليم الساخر" والثرثار والواقعي والأوّل والثاني والثالث، إلخ. في محاولة منه للنظر إلى ذات الموضوع من عدّة زوايا، وفي إشارة إلى احتشاد الإنسان بالوجوه، وإلى تعدُّد النفس البشرية الواحدة، وإلى مقدار التجارب التي مرّ بها "سليم الناجي" فبنت له بيتًا على نهر من التناقضات.
فمن هذا التنافر يحصل التجاذب في ذات البطل، ومن الاختلاف يقع الائتلاف. إنها (وحدة وصراع الأضداد) بين ذوات الفرد الواحد من جهة، وبينه وبين الآخرين من جهة أخرى. ثم أكثر من ذلك، من الضياع في هذا العالم يتحقق الوجود. إنَّ الإنسان موجود في التيه، مجرّد خرقة كانت على حبل غسيل ثم طارت ولن تحط على أرض بعد الآن. جاء الطبيب وفصل الإنسان عن الحبل السرّي ثم أطلقه مثل طائر في الفضاء. وفي هذا نفهم العكس تمامًا، فمن الرَّحم الواسع إلى الكون الضيِّق، من الحرية إلى القيد، ومن الشجرة إلى القفص. يطير هكذا، فلا هو في الأرض ولا في السماء، كينونته وهويته في العيش على قلق دائم من أنه لن يفهم شيئًا: "إنها الساعة الخامسة والعشرون، لا أحد يريد أن يفهم". بل لا أحد يستطيع أن يفهم أبدًا.
من هذه القاعدة انشغل البطل خلال الرواية في كتابة سيرة حياته، وأطلق بعض الآراء حول الكتابة وآلياتها، فقال إنه من خلال تجربته "خلق نظامًا في وجه الفوضى". تلك الفوضى التي تؤشِّر نحو الحروب والقتل في زمن لا يعرف الإنسان فيه حقًا رأسه من قدميه. لكنَّ الكاتب هنا صنع فوضى زمنيّة خلّاقة إذا صحَّ التَّعبير، فكان يتنقل بين الحاضر والماضي كيفما اتفق، ولا يسير زمنيًا بشكل مستقيم نحو الأمام أو الخلف، خالطًا في غضون ذلك الواقع مع الخيال، والوهم مع الحقيقة. بل إنه يخلط النظام مع الفوضى على صعيدي الزمن والسرد، ويقدِّمها على طبق القارئ الذي عليه أن يأكل النص بعينيه.
• خاتمة
لقد جاءت الرِّواية بلغة سلسة، قريبة إلى القلب، وبعيدة عن التكلُّف. لغة يتطاير منها كالعادة سخرية لاذعة من المأزق الذي يعشيه الناس، ويتخللها استثمار موفَق للَّهجة المحكيّة في الرمثا. لا تتوقف هذه اللغة، إلى جانب ذلك، عن تضمين الأمثال الشعبية، وترديد بعض المفردات المحلية بصورة تندغم خلالها مع الفصحى، فلا يصحّ إذ ذاك تخيُّل النص دون هذه الكلمات. كأن تتردَّد مفردات مثل "اللايذات" و"زنقيل" و"عرط" و"بَل" التي تفيد التعجُّب، إضافة إلى تردُّد عبارة "يا سلام!" على لسان "سليم الناجي" دائمًا. وفي روايات أخرى مثل "الشهبندر" (2003) و"جنة الشهبندر" (2016) تتردَّد على لسان بعض الشخوص بشكل متكرِّر عبارات مثل "شلكوا بطولة السيرة" و"شو يعني" وغيرها. بهذا الأسلوب، يجعلك الكاتب تعيش في الرمثا، وتتمشى بين حواريها وأزقتها، بينما أنت هنا في مكان ما بعيدًا عنها، وتقلب صفحات الكتاب.
لقد جعلني الكاتب أتبنّى عبارة وردت في روايته، وظلّت تتردَّد مُلاحقة إيّاه مثل "الشوحة" و"المبنى الهرمي": "يدي مضمومة على شلن موشوم بالدم". كلما أردت الكتابة تذكّرتُها ورددتُها، فأحجمت. نعم إنَّ يدي مضمومة على شلن موشوم بالدم، مثلها في ذلك مثل "سليم الناجي" في طفولته عندما ذهب ليحضر "باكيت دخان" لضيفهم العَمّاني من دكانة "أبو خشمين"، فجعله خوفه يضيّع الشّلن حتى إذا بحثوا عنه وجدوه بين يديه.
رواية "البحّار"، حيث أقام هاشم غرايبة جمهورية الرمثا من جديد، وسخر في وجه الحطام قائلًا: "أنا أعيش في عالم دنيء، ولكني حيّ ولا أخاف".
• الهوامش:
1. من هم "بحّارة" الرمثا ولماذا يحتجون؟
2. أحمد أبو خليل ومحمد البشابشة-أحداث الرمثا-عين الحدث.
3. "الهر" يروي قصة "جمهورية الرمثا ونقل الحدود".